الإصلاح الإسلامي: الأفق الغربي والأفق العام

رضوان السيد

TT

كنت قد انتهيت للتو من قراءة كتابي الأستاذ طارق رمضان الصادرين عامي 2004 و2009 بعنوان: «مسلمو الغرب ومستقبل الإسلام»، و«الإصلاح الجذري: الأخلاقيات الإسلامية والتحرر»، وبدأت أفكر بطريقة للكتابة عنهما، وعرض أطروحاتهما الجادة؛ عندما نبهني أحد الأصدقاء إلى ظهور كتاب أميركي ضد طارق رمضان وإصلاحاته ومقارباته. والكتاب باختصار عنوانه: هروب المثقفين لبول بيرمان (2010). ووجهة نظر بيرمان (الذي يبدو طبعة غير منقحة عن كل من مارتن كريمر ودانييل بايبس) أن طارق رمضان أصولي مستتر، فلا ينبغي الاغترار بنقده الظاهر للأصوليين، ولا تمسكه القوي بالمواطنة وحقوق الإنسان. قال بيرمان ذلك في نحو الثلاثمائة صفحة، لخص خلالها سائر كتابات رمضان، ودرس مختلف مواقفه وتطوراتها؛ فتوصل إلى هذه القناعة التي لم تفارقه طوال الكتاب. ودليله أو أدلته على ذلك ليس قولا كتبه رمضان، أو فعلا قام به؛ بل إنه لا يزال مسلما (وإن يكن غير عنيف!)، وأنه يعتنق منظومة أخلاقية إسلامية، هي غير المنظومة الليبرالية الغربية، وأنه حليف مخلص للأصولية يهدف للدفاع عنها من طريق الحملة على الغرب بحجة المظالم والاستعمار والعولمة. والواقع أن الغربيين ما سكتوا على كتاب بيرمان. فقد نشر مارك لينش مقالة إدانية لبيرمان في مجلة «فورين أفيرز» في العدد السابق على عدد السوق الحالي. كما أن دارسة الإسلاميات المعروفة ماليس رثفن نشرت مراجعة نقدية طويلة للكتاب في آخر أعداد «مجلة نيويورك لمراجعة الكتب». وعندما أقول إن بول بيرمان لا يختلف عن مارتن كريمر ودانييل بايبس؛ فإنما أعني بذلك أن هذين الأخيرين استغلا هجوم «القاعدة» على الولايات المتحدة عام 2001 للهجوم على العرب الأميركيين الذين ما تخلوا عن نقدهم للغرب حتى بعد 11 سبتمبر (أيلول). أما م. كريمر فقد كتب عن فشل الدراسات الشرق أوسطية في الولايات المتحدة؛ بدليل أنها ما منعت الإرهاب، كما أنها فشلت في التنبؤ بحدوث شيء شبيه. ومثله على ذلك إدوارد سعيد، الذين ما كف منذ كتابه «الاستشراق» عن التحريض على الولايات المتحدة. أما دانييل بايبس فقد أسس موقعا على الإنترنت لملاحقة الأساتذة الذين يجاملون الإرهاب، سماه «كامبوس وتش»، أو مراقبة الكامبوس، وهو يبدأ بالنقد ثم النقض، ثم المطالبة بالطرد من الجامعة، لأنه ينفق من فلوس دافعي الضرائب الأميركيين، في الدعاية للإرهاب! ولعل أحد أسباب سوء التفاهم بين اليمينيين الغربيين وطارق رمضان، أن أرباب اليمين يزعجهم أمران: الإسلام العنيف، والإسلام الثقافي أو الخصوصي. أما الإسلام العنيف فهو معروف منذ التسعينات، وبلغ ذروته في هجمات 11 سبتمبر. ولأن إنهاء عنفه ما كان ممكنا رغم الحرب العالمية على الإرهاب، ورغم غزو أفغانستان والعراق، ونشر الأساطيل الأميركية عبر بحار العالم الإسلامي وسواحله؛ فإن المتشددين من هؤلاء توصلوا إلى قناعة مؤداها أن الإسلام هو دين عنيف بطبيعته، ولذا فلا أمل من العمل مع من يعرفون بالمعتدلين المسلمين، لأنهم إن كانوا كذلك حقا (أي مسلمين)؛ فإنهم لا يمكن أن يكونوا ليبراليين أو أن يعتنقوا القيم الغربية الإنسانية؛ حتى لو لم يلجأوا للعنف. وحجتهم في ذلك السلوكيات الخصوصية التي يلجأ إليها المسلمون في الغرب في اللباس واللحية وحجاب المرأة. وقد بلغ بهم الأمر أخيرا في أوروبا والولايات المتحدة، أنهم لم يعودوا يستسيغون بناء المساجد مواقع وأشكالا. وتشتعل في هذه الأيام في فرنسا ساركوزي حملة تهدف إلى إقناع البرلمان بسحب الجنسية من سكان الضواحي (المسلمين) الذين يرتكبون أعمالا عنيفة بحق السلطات مثل رجال الشرطة والقضاة ورجالات الإدارة! وقد كان هم طارق رمضان ولا يزال: تمكين المسلمين من العيش في البلدان الغربية عيشا حقيقيا أو كاملا، وإطلاق تيار للتفكير في أوساطهم بشأن واجباتهم تجاه أنفسهم ودينهم، وتجاه إخوانهم في العالم الإسلامي. وقد كان هدفه في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي: بلورة فكرة الإسلام الأوروبي. وأعان على ذلك وقتها تحطم يوغوسلافيا، وتعرض المسلمين في البوسنة والهرسك، وكوسوفا، وأماكن أخرى لتحديات الإلغاء أو الإبادة. ولذا ورغم شعوره بالتحدي لجهة دفع المسلمين للاستجابة، لكن أولويته كانت وقتها إشعار الأوروبيين بواجباتهم تجاه مواطنيهم من المسلمين، وتغيير الرؤية الأوروبية المعاصرة للإسلام. وطارق رمضان ليس متخصصا في الدراسات الإسلامية، بل هو دارس للفلسفة، وإنما تلقى تعليما دينيا على يد والده سعيد رمضان الذي كان من كبار الإخوان المسلمين، وقد لجأ إلى سويسرا، ومن والدته وهي ابنة الشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، والذي قتله الأمن المصري عام 1949. ولذا فقد كان مدركا للانغلاق الأوروبي الذي يعرف ثقافته جيدا، وما كان مدركا لإمكانيات الانغلاق الأصولي الإسلامي. ولذا بالوسع القول إنه بعد عشرين سنة من الكتابة والنضال؛ فإن الطرفين تغيرا: تغير الأوروبيون من حيث ظهور نزعات وطنية عنيفة، وتغير طارق رمضان، من حيث ازدياد معرفته بالإسلاميات الكلاسيكية، وبالإمكانيات القوية التي يملكها الإسلام الأصولي المعاصر بين الشباب، وليس في البلدان الإسلامية وحسب؛ بل وفي بلدان المهجر. والطريف أنه في حين كان تاريخ 11 سبتمبر 2001 هو منطلق التغيير لدى رمضان وسائر الغربيين؛ فإن طارقا - وبعد أن حمي الصفيح الأوروبي تحت قدميه - ما وجد ملاذا أخيرا في غير الولايات المتحدة، التي كانت قد رفضته أيام الرئيس جورج بوش. وعلى أي حال؛ فإن كتاب طارق رمضان السادس «مسلمو الغرب ومستقبل الإسلام» (2004)، ترك الإسلام الأوروبي جانبا، وراح يحاول المراجعة وإعادة التحديد لنفسه وللمسلمين في أوروبا، وللأوروبيين. فقد تفحص بنقدية بارزة المصطلحات الإسلامية الكلاسيكية المفتاحية، وطرائق استعمال الإسلاميين المحدثين والمعاصرين لها، متوصلا إلى أن المسألة مسألة وعي، وليست هناك استمرارية حقيقية، سواء بالنظر إلى التلقي من الأصول، أو التأويل، أو فهم متغيرات المواقف والظروف. وهكذا فإذا كان فهم الإسلاميين المحدثين والمعاصرين للمفاهيم الإسلامية الأساسية لا يمكن إقرارهم عليه، فمن باب أولى أن لا نقر أفهام المسلمين الأوروبيين لتلك المفاهيم، لأن الظروف التي يعيشونها في أوروبا والغرب تجعل ذلك من المستحيلات. وكانت تلك المراجعة النقدية أساس اقتناع طارق رمضان أنه لا بد من إصلاح إسلامي جذري. إذ ما دمنا نطالب الأوروبيين بمراجعات قوية لوجوه التمييز والخصوصية؛ فالمسلمون في أوروبا لا بد أن يجتازوا تلك المراجعة إنما فيما يتعلق بموروثهم الديني الذي تلقوه في الحقيقة أو تلقوا وجوه فهمه وعيشه من السلفيين أو من الإخوان أو من بعض الصيغ المعدلة.

ولذلك فالذي أراه أن كتاب طارق رمضان: الإصلاح الجذري (2009)، هو كتاب بالغ النضج، من حيث إصغائه لدعوة الإصلاح الإسلامي الشامل، ومن حيث اعتباره أن ذلك الإصلاح ينبغي أن يجري في مجال العقل الفقهي وأصول الفقه، وأخيرا من حيث اعتباره للمنظومة الأخلاقية الإسلامية أساسا في هذا الإصلاح وغاية له وأفقا. قرأ رمضان في فصلي الكتاب الأولين مفهوم الإصلاح، وما هو المبتغى عنه. ثم انصرف لإنفاذ مشروعه، فعرض بعمق نافذ للمقاربات الكلاسيكية في أصول الفقه: المقاربة الاستدلالية التي قام بها الشافعي في الرسالة، وطبقها بحدود معينة في مسودات كتاب «الأم»، والمقاربة الاستقرائية التي آثرها تلامذة الإمام أبي حنيفة استنادا لمسائل شيخهم الكبير، وأخيرا المقاربة المقاصدية التي تطورت لدى الفقهاء بين الجويني (478هـ)، والشاطبي (790هـ). بعد هذه القراءة الموجزة لكن العميقة للمنظومات الكلاسيكية في التأصيل الفقهي، عرض رمضان منظومته الخاصة القائمة على ثلاثة مبادئ: الكون المنظور، والكون المسطور (القرآن الكريم والسنة)، والواقع. ولأن سقف المنظومة لديه أخلاقي؛ فإن هذا التصور الجديد نجمت عنه تطبيقات أو رؤى لوجوه الإنجاز والقصور في الأعمال الفقهية الحديثة والمعاصرة، مرئية في ضوء حركية الأصول القديمة، والاحتياجات والكشوف المعاصرة. لقد درس إذن موضوعات: الأخلاق الإسلامية والعلوم الطبية، والثقافة والفنون، وقضية المرأة مسلمة وغير مسلمة، والبيئة والاقتصاد، والمجتمع والتعليم والسلطة. ثم عاد في الخاتمة لوضع تلك القضايا جميعا تحت السقف الأخلاقي لأهداف الدين وغاياته.

لدينا إذن خطوة واسعة جديدة في مسار تفكير طارق رمضان: بدأ بمحاولة بلورة أطروحة الإسلام الأوروبي، وكان وقتها متوجها للأوروبيين وقاصدا لبيئة المسلمين في جيلهم الثالث في الغرب. ثم انهمك في نقدية قوية للعدوانية الغربية، بعد تردي العلاقة بين المسلمين والإسلام من جهة، والغرب بشقيه من جهة أخرى بسبب الحروب وردود الأفعال. وخرج أخيرا من هذا وذاك، إلى مشروع للإصلاح الجذري في المنظومة الفقهية الإسلامية، استنادا إلى المظلة الأخلاقية العامة. وهو هنا في هذه الخطوة الثالثة إنما يخاطب المسلمين، ويفتح أفقا يربط المقاصد بالقيم الأخلاقية العامة. لقد عاد إلى الإمكانيات النظرية والعملية للفكرة الإسلامية، متجاوزا الأفق الغربي إلى الأفق الإنساني العام.