الفاتيكان.. معا مسيحيين ومسلمين ضد العنف

إميل أمين

TT

كعادته كل عام في نهاية شهر رمضان وبمناسبة قرب حلول عيد الفطر وجه المجلس البابوي للحوار بين الأديان في حاضرة الفاتيكان، الذي يترأسه الكاردينال جان لويس توران، رسالة إلى العالم الإسلامي جاءت تحت عنوان «معا مسيحيون ومسلمون من أجل التغلب على العنف بين الطوائف».

والمعروف أن المجلس البابوي قد اختار هذا الموضوع في جلسات لجنة الحوار المشتركة مع الأزهر الشريف وكان مبحث اللقاء السنوي الأخير الذي جرى في القاهرة في الفترة الواقعة ما بين 23 - 24 فبراير (شباط) المنصرم.

ومن المؤكد أن الكثيرين يتساءلون قبل التأمل في رسالة الفاتيكان الأخيرة للعالم الإسلامي عما خلصت إليه اللجنتان في لقائهما الأخير، فماذا عن ذلك؟

من دون تطويل ممل أو اختصار مخل نذكر ببعض تلك التوصيات والتي هي مفتتح لحديثنا في هذا المقال وفي مقدمتها:

* ضرورة التنبه إلى أن توظيف الدين لأهداف سياسية أو غيرها قد يتحول إلى مصدر للعنف.

* عدم التمييز بين الأفراد في الحقوق والواجبات على اختلاف الهوية الدينية.

* التأكيد على أن تنقية القلوب والعفو المتبادل والمصالحة أمور ضرورية للتعايش السلمي المثمر بين كل فئات المجتمع.

وفي رسالته يرى الكاردينال توران كذلك أن الانقسامات والتوترات الاجتماعية، أضف إلى ذلك الجهل والفقر والتخلف والظلم، هذه جميعها تشكل مصادر مباشرة أو غير مباشرة لقيام العنف بين الجماعات الدينية، بل حتى داخل هذه الجماعات.

ولعل الخطاب الديني في الرسالة الأخيرة يأتي مغايرا بعض الشيء لما سبق، إذ تخرج الرسالة هذه المرة عن دائرة التحليق في الروحانيات إلى ملامسة الواقع على الأرض فنراها تناشد السلطات المدنية - دون أن توفر الدينية كذلك - أن تكثف من إسهامها في سبيل إصلاح أوضاع كثيرة متوخية للخير العام للمجتمع بأسره، كما تطالب السلطات المدنية بتحقيق حكم القانون من خلال توفير عدالة حقيقية توقف المحرضين على العنف - الفئة الخارجة - ومؤججيه عند حدهم.

يلفت الانتباه في العنوان أنه لم يستخدم مصطلح «العنف بين الأديان» واستخدم عوضا لفظة «الطوائف»، وكذلك إشارته إلى إشكالية التلاعب بالأديان وتوظيفها لأهداف سياسية تقود لاحقا إلى العنف. وعلامة الاستفهام في هذا المقام هل جاء اختيار الطائفية هنا على سبيل المصادفة الموضوعية أو القدرية أم أنها جاءت لغرض مقصود بعينه؟

قبل توجيه الرسالة بوقت قليل أكد الكاردينال توران خلال مشاركته في لقاء الصداقة بين الشعوب الذي انعقد في مدينة ريمني الإيطالية على أن الديانات لا تتحاور بل المؤمنون هم الذين يباشرون الحوار بوصفهم أشخاصا عاديين تماما ولديهم مشكلات مشتركة ولأنهم مؤمنون فلديهم «إرث من القيم المشتركة يتيح إدراك أننا أبناء الله وليس فقط أشقاء».

والخلاصة عند الكاردينال توران أن «الأديان ليست مصادر انقسام بل هم المؤمنون من يخونون هذا الإرث بعض الأحيان، كما أكد كذلك أن من يؤمن ويلتقي بالغير فمن الضروري أن يكون مؤمنا متماسكا وحقيقيا فيدفع معه 4 مهمات تربيه على العيش معا، طرحا أخلاقيا للتمييز بين الخير والشر، التذكير بالحقوق والواجبات، شغفا بالخدمة، وأخيرا التصرف كمواطنين مسؤولين».

هل أرادت رسالة المجلس البابوي التنبيه والتحذير من وباء الإنسانية الأخطر الذي هو الطائفية وهو ما لا علاقة له بعمق الأديان وروحانياتها وأخوة البشر الواحدة؟ هل أرادت الرسالة الخروج بنا من ضيق الطائفية إلى رحابة التعددية الإيمانية كما الخروج من أزمات الآيديولوجيا إلى غنى الابستومولوجيا؟

يمكن القول بلا شك إن عنوان الرسالة جاء موفقا إلى حد بعيد إذ استخدم الطوائف ولم يستخدم الطائفية، فالطائفة (وجمعها طوائف) تشير إلى جماعات من البشر يجمعون على مذهب أو دين أو توجه سياسي أو فكري ما، أما الطائفية فليس لها من معنى سوى النزعة والتعصب لمذهب الطائفة.

وإذا كان الدين في معناه الفلسفي هو جوهر، والطائفية وجود، وإذا كان الوجود لا ينفصم عن الجوهر، فلا مناص من الإقرار بحقيقة وجود الطوائف على تباينها، شريطة تعايشها المشترك الإيجابي.

وكذلك يمكننا القول إنه إذا كان الدين هو إبداع وهبة إلهية من الخالق للإنسان لرفعة شأنه، فإن الطائفية هي اختراع إنساني للانقسام تحت غطاء الألوهية.

وبحال من الأحوال ليس هنا مجال التحليل والتأصيل الثيولوجي، لكن الأمر على الرغم من ذلك مدخل إلى التحذير من العنف الذي تجذر كثيرا في الفكر الطائفي واتخذ من الأديان منطلقا لمعارك وحروب ودماء سالت.

والمقطوع به أن رسالة المجلس البابوي إنما تحصر النقاش الدائر على حالة الحوار القائمة بين الإسلام والمسيحية الأمر الذي يفتح لنا المجال لمحاولة إماطة اللثام عن العنف المتواري خلف الروحانيات وتشدد على الإشارة لمعضلة تسييس العنف الديني إن صح التعبير.

والعنف بادئ ذي بدء لا يعني القوة، فالقوة قيمة إيجابية وفضيلة من الفضائل الأربع الأساسية بحسب تعبير الكنيسة الكاثوليكية، وهي قيمة مضادة للضعف والتخاذل عن اتخاذ قرارات مهمة، فيما يبقى العنف طاقة سلبية موجهة ضد الإنسان، الفرد أو الجماعة، وهنا نرى أن التاريخ الأوروبي على نحو خاص انضوى على مشاهد لأحزاب وجماعات مسيحية مارست العنف في سياساتها الخارجية والداخلية، كما أن التاريخ القروسطي الأوروبي مليء بمشاهد تداخلت فيها خيوط العنف مع خطوط المذهبيات الدينية.

وعلى الجانب الآخر نقرأ في صفحات التاريخ الإسلامي عن جماعات كثر مارقة لروح الدين ولا تزال بعض فرقها تعمل جاهدة على ترسيخ فكرة مشوشة ومضطربة مؤداها أن الإسلام – في وجه العنف المقدم منه فقط - هو المكافئ الموضوعي للعنف وهي فكرة من أسف شديد لقيت رواجا في العقود الأخيرة وبخاصة بعد أحداث واشنطن ونيويورك في 2001 وتذكيها مجازر العراق الدموية وحوادث التفجيرات والعمليات المختلف على مسماها حتى الساعة ما بين استشهادية وانتحارية.

وملاك القول إنه من الباطل أن ينسب للأديان مثل هذا العنف البشع الذي نراه في النزاعات الطائفية التي يتوهم المضللون من كل الأطراف بأنهم يتقربون إلى الله من خلالها ويقتربون من تحقيق حلمهم في تكوين دولة دينية ما بمدى الحقد الذي يضمرونه ضد إخوانهم في الدين أو في الإنسانية وبكم الدماء المكرمة والمحرمة والمعصومة التي يريقونها.

وفي سياق قراءة هذه الرسالة يتوجب أيضا لفت الانتباه إلى أن إشكالية توظيف الدين لخدمة أغراض سياسية وإن لم تكن جديدة في مفهومها التاريخي فمع ذلك بات العالم يئن مؤخرا تحت وطأة تبعاتها وقد كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 مدعاة للتعاطي مع كثافة توظيف الدين في النزاعات الدولية، والتاريخ القريب الذي لا يتجاوز 3 عقود وما جرى فيه قادنا إلى نتائج كارثية عبر النموذج الأميركي الذي حاول اللعب على أوراق الإسلام السياسي والإسلام الجهادي في مواجهته الآيديولوجية مع الشيوعية في أفغانستان، والويلات التي حاقت وتحيق حتى الساعة بالعالم من جراء هذا التحالف غير المسبوق.

ولاحقا كان وجه آخر منحول يطل على العالم عبر التيارات الدينية المخترقة سياسيا والتي تمثلت في أفكار مدرسة المحافظين الجدد وما استتبعها من نار ودمار، وأضحى العراق نموذجها الأسوأ الماثل أمام الأعين.

والثابت أن الحديث عن التلاعب السياسي بالفكر الديني شأن مروع قائم بذاته، ومن المثير أن تأتي هذه الرسالة في وقت تعلن فيه بعض الميليشيات الدينية الأميركية عن نيتها استخدام القوة العسكرية لتحقيق هدفها المشؤوم الخاص بـ«حرق القرآن الكريم» نهار الحادي عشر من سبتمبر المقبل.

وعلى الرغم من ارتفاع أصوات عقلاء كثر من رؤساء الكنائس الأميركية ضد هذا الفعل المشين والمحقر لروح التسامح، فإن الدعوة في حد ذاتها كافية لإشعال روح العنف لا عند الطوائف المشرقية فحسب بل وفي مشارق الأرض ومغاربها.

تجيء رسالة الفاتيكان في توقيت حساس ومهم للغاية، تجيء والجدل مستمر حول بناء مسجد ومركز قرطبة في نيويورك وهو سجال فكري - عقدي يخشى الكثيرون أن يأخذ لاحقا منعطفا آخر لا يتبع الكلمة والموعظة الحسنة كأدوات للتعامل اليومي، ومن أسف شديد فقد ظهرت إرهاصات لهذه المخاوف مبكرا في حادثة نحر سائق نيويورك.

والرسالة في نهايتها تذكر ببقية توصيات اللقاء المشترك الأخير في الأزهر الشريف من حتمية تشريع القلوب على الصفحة المتبادل والمصالحة كي نعيش حياة مسالمة ومثمرة، وتؤكد على أن الإقرار بما يجمعنا واحترام ما يفرقنا أساس لقيام ثقافة الحوار.

وتبرز كلمات الكاردينال توران أهمية كرامة الإنسان وحقوقه واحترامه دون أي تمييز بسبب الاثنية أو الانتماء الديني، وذلك عبر ضرورة إصدار قوانين عادلة تضمن المساواة الأساسية بين الجميع.

كما تدعو رسالة المجلس البابوي لحوار الأديان في الشهر الفضيل ضمن ما تدعو إليه لأن يصبح البيت والمدرسة والمسجد والكنيسة أدوات للتربية على احترام الآخر ومحاورته ومؤاخاته، وهذا هو الطريق الفاعل والناجع لمجابهة العنف بين الطوائف وإلى تعميم السلام والانسجام بين مختلف الجماعات الدينية.

والدعوة مفتوحة هنا للرؤساء الدينيين إضافة إلى المصنفات والمناهج المدرسية للحرص على عرض الأديان بطريقة موضوعية، فالتعليم الديني لا يقل أهمية عن التعليم العام على صعيد تربية الأجيال الشابة وتنشئتها.

ويبقى القول قبل الانصراف إنه في عالم تزداد فيه التوترات يضحى فرض عين على جميع مؤمني الأديان المختلفة أن يبذلوا جهدهم في العمل من أجل السلام، بدءا بالتنديد بالعنف الذي كثيرا ما اختبأ في الماضي وراء المبررات الدينية، وأن يتمرسوا على معرفة بعضهم البعض، وعلى احترام متبادل أفضل، من أجل بناء مجتمع أخوي.

لا أحد يحاجج في أن القلب الراغب في أمور عظيمة كالسلام، هو قلب قادر على بناء السلام وتغيير العالم أيضا، وعلينا كمؤمنين أن نعبر من مرحلة الخوف من الآخر والعمل على عزله وإقصائه أو تجنبه والانزواء بعيدا عنه إلى الخوف على الآخر والحرص عليه والتضامن معه والاقتراب من فكره في مصارحة ومصالحة حقيقية تقطع الطريق على العنف الفئوي والطائفي، ومن دون هذه الفلسفة الإيجابية الخلاقة يضحى الآخرون كما قال فيلسوف الوجودية الفرنسي الشهير جان بول سارتر ذات مرة «هم الجحيم».

* كاتب مصري