الإسلام والمسلمون والعلاقات الأميركية والغربية

رضوان السيد

TT

شغلت الإعلام الأميركي والعالمي طوال الأسبوعين الماضيين قضيتان تتعلقان بالإسلام والمسلمين، الأولى إرادة الجمعية الإسلامية بنيويورك بناء مركز إسلامي (بيت قرطبة) يتضمن مسجدا على مقربة من موقع مركز التجارة العالمي الذي هدمت صرحيه هجمة «القاعدة» على الولايات المتحدة في 11/9/2001. والقضية الثانية إرادة قسيس بروتستانتي صاحب كنيسة صغيرة إحراق المصحف في ذكرى هجوم «القاعدة» (أي 11/9) في موقع مركز التجارة العالمي السابق، تعبيرا عن السخط على الإسلام والمسلمين الذين ارتكبوا ذاك العمل! أما الحدث الأول (بناء المركز على أرض الغراوند زيرو) فقد أثار سخط اليمين الأميركي المتطرف، وأقسموا على منعه، أو نقله لمكان آخر. وشاركهم في ذلك السخط نواب وحكام من الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وكانت حجتهم في ذلك أن في البناء هناك إهانة للضحايا الثلاثة الآلاف الذين سقطوا في هجمات 11/9. وقد أجاز البناء رئيس بلدية نيويورك، ودافع عنه كل من أوباما وكلينتون وغيتس وسياسيين أميركيين كثيرين. ولا يزال النقاش دائرا وبحدة بشأن هذه المسألة، التي يحاول يمينيو الجمهوريين استغلالها لكسب الشعبية استعدادا للانتخابات النصفية في أول نوفمبر (تشرين الثاني) القادم.

وأما الحدث الثاني (حرق المصحف) فإنه ما أثار استحسان أحد أو دعمه علنا. وما بقيت مرجعية مسيحية أو سياسية في العالم إلا وحذرته من فعل ذلك، ذاكرين ثلاثة أسباب: أن ذلك يخلّ بالروح التي قامت عليها الولايات المتحدة في التسامح الديني وحريات العبادة، وأن ذلك يسيء إلى مصالح الولايات المتحدة ويعرض للخطر حياة جنودها المنتشرين في أنحاء العالم الإسلامي، وأن ذلك يسيء إلى مشاعر المسلمين من مواطني الولايات المتحدة، وفي العالم، ويشجع التطرف والأصوليات ويدفع بمسلمين شبان كثيرين إلى أحضانها. وقد تراجع القس جونز أخيرا عن حرق المصحف أو المصاحف، وذكر أولا أنه يريد إجراء صفقة مع القائمين على مشروع مركز الغراوند زيرو يتم بمقتضاها نقله إلى مكان آخر في مقابل عدم تنفيذ تهديده، ثم ذكر أخيرا أنه يتخلى عن الموضوع دون شروط! والواقع أن الحدثين أرسلا رسائل لا تخطئها العين المتفحصة على كل المستويات، وبعضها إيجابي والآخر سلبي. الإيجابي في الأمر أن مرجعيات عالمية دينية وسياسية تصدت لموضوع حرق الصحف بكل الوسائل، واعتبرته عملا شائنا وغير أخلاقي، وأبدت رغبة قوية في إقامة علاقات مع المسلمين تقوم على الاحترام المتبادل. والإيجابي أيضا أنه حتى أولئك الذين طالبوا بنقل المركز الإسلامي إلى مكان آخر - باستثناء اثنين أو ثلاثة - ظلوا يؤكدون على احترام الإسلام ومشاعر المسلمين، وأنهم عندما يطالبون بنقل المركز فلأنهم يخشون من وراء ذلك الإساءة إلى العلاقة بين المسيحيين والمسلمين، باعتبار أن كثيرين من أهل الضحايا سيعتبرون الأمر تحديا. والإيجابي أيضا أن القائمين على مشروع المركز ظلوا هادئين وتصرفوا بحكمة في مخاطبة الجمهور الأميركي والمسؤولين الأميركيين.

أما السلبيات فمتعددة الوجوه ومتسعة، إذ أظهرت استطلاعات الرأي وجود أكثرية بين الجمهور لا ترى في الإسلام دينا بشوشا أو متسامحا. وقد بلغ من جدية هذه النظرة المعادية أن سياسيي اليمين أدركوا أنه يمكن استخدام تلك المشاعر السلبية تجاه الإسلام في كسب الأصوات في الانتخابات النصفية، وفي الدعاية ضد الرئيس أوباما باعتباره «مسلما» لأنه أيد مشروع بناء المركز في المكان. واستخدام الإسلام باعتباره فزاعة تجلب الشعبية، لا يقتصر على الولايات المتحدة، بل إن السياسيين الأوروبيين استخدموا الحملة على «الفزاعة» منذ أكثر من عقد وفي ألمانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وسويسرا وإسبانيا. وقد كسبوا من وراء ذلك أصواتا، كما نجحوا في تمرير قوانين في البرلمانات ضد الحجاب، وضد بناء مآذن للمساجد، وضد تسهيلات الهجرة والمواطنة، وضد الحريات الدينية والاجتماعية لمواطنيهم المسلمين! وأبلغ الأمثلة على ذلك الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي استخدم الأمر عام 2007 ضد المهاجرين المسلمين من أجل الفوز، ثم ها هو يعود مع تردي شعبيته إلى استخدام نفس التكتيك تحت اسم مقتضيات «الهوية الوطنية»، ومن مقتضياتها إمكان سحب الجنسية من أي مواطن فرنسي من أصول مغاربية إذا استخدم العنف ضد الشرطة أو السلطات الأخرى! ولندع هذا التوصيف إلى الحديث عن أسباب الفشل في مكافحة ظاهرة العدوانية ضد الإسلام بعد تسع سنوات من هجمات «القاعدة»، أو لنقل: لماذا فشل خطاب «المعتدلين» من الطرفين؟ والفشل في نظري مزدوج: فشل المثقفين الغربيين، وفشل المثقفين المسلمين. فظاهرة العدوانية والتمييز هي ظاهرة ثقافية، ولا يمكن مكافحتها بالقمع، بل لا بد من التصدي لها من طريق كبار المثقفين وأهل الرأي، ومن طريق وسائل الإعلام المؤثرة في الرأي العام. والواقع أن أحدا من الكبار في الثقافة والإعلام في الولايات المتحدة ما تدخل من أجل تربية أخلاقية وتسامح ديني. والمعروف أن تحليل هنتنغتون لما صار يعرف بصراع أو صدام الحضارات هو تحليل ثقافوي، وقد استخدمه الأخير للتنفير من الإسلام. وما تصدى له مثقفون واستراتيجيون لهذه الجهة، بل كان هناك من واجهه في السياسة والاستراتيجية باعتباره من كبار أهل اليمين في هذه الشؤون.

ويمكن أن نذكر أمثلة كثيرة للتمييز، ما جرى التصدي لها، بل على العكس دافع الجميع منذ سلمان رشدي عام 1988 عن حرية الرأي، وهي في حالات كثيرة: شتم الإسلام وإهانة المسلمين. وبالأمس عاد الدنماركي الذي نشر الصور الكاريكاتورية إلى القول إنه سيصدر كتابا ينشرها فيه، فارتفعت أصوات تقول إنه من حرية الرأي، في وجه أصوات المسلمين الذي اتهموا فورا بالأصولية. وهكذا فلدينا واقعة مهولة تتمثل في أحداث سبتمبر (أيلول) عام 2001، أسست لانطلاق موجات من الخوف والتمييز والكراهية. وفي كل مرة يسارع الإعلام لاستغلال الأحداث والإثارة وتهييج الأمزجة، ولا يعمد أحد للتصدي بأطروحات وخيارات، بل على العكس، يظهر سياسيون يضربون على هذا الوتر الحساس ويجدون صدى أو أصداء مستحسنة! وعلى الجبهة أو الجهة الإسلامية فإن العنف الأصولي ما وجد مدافعين صرحاء عنه، لكنه وجد كثيرين يبررونه خفية بالقول إن الأميركيين فعلوا كذا وكذا ويستحقون العقاب بهذه الطريقة. والواقع أن المظلوم والمطارد هويتنا وثقافتنا، فلا يصح إقامة موازنة في هذا الأمر بين تبرير العنف والحملة على الإسلام أو على المهاجرين، إذ إن هؤلاء إنما يحدثون انشقاقا في قلب الإسلام. وها هم يحدثون الخراب الفظيع في الصومال واليمن والعراق. وقد صدر تقرير عسكري أميركي يحذر من إمكانية معاودة «القاعدة» الهجوم على الولايات المتحدة ومصالحها. وكرر أوباما نتائجه في كلمته بذكرى 11 سبتمبر، مضيفا أن العداء للإسلام لن يكون أبدا من ضمن سياسات الولايات المتحدة. والذي أراه أنه لا احتمال قويا من هذا النوع الذي يذكره التقرير، بل المشاهد أن الخراب الذي تقوده «القاعدة» إنما انكفأ، وصار يجري اليوم بشكل شبه كامل، في البلاد العربية وأفغانستان وباكستان. ولذا فالتصدي للعنف والإرهاب بثقافة جديدة وبإسلام متعقل ومتزن يضع الأمور في مواضعها الصحيحة، هو الذي يحمي لنا ديننا ومصالحنا بدلا من الاكتفاء بالهجوم على السياسات الأميركية وعلى سوء الإدارة السياسية. والذي أعرفه أن المثقفين اليساريين العرب كتبوا وتحدثوا طويلا عن الأصولية والإرهاب، أما المفكرون المسلمون والإسلاميون فما بذلوا جهودا كبيرة لهذه الناحية، وما قاموا بدراسات للرأي العام وللأصوليين العنيفين أنفسهم إلا في حدود محدودة، كأنما الخطر الحاصل هو الخطر على المسلمين من جانب الولايات المتحدة وحسب! وخلاصة الأمر أن الواقعتين الجديدتين تمثلان تحديا من نوع جديد هو النوع أو الجنس الثقافي والإعلامي الذي يسارع الإعلام العالمي لالتقاطه. وقد تسبب فيهما أناس من الغربيين والمسلمين. وكان التصدي الغربي هذه المرة على المستوى المطلوب إنما دون أطروحات كبرى بديلة أو حامية. لكن أحوال الطرف الآخر الإسلامي ما جرى اعتبارها وتطويرها. وتبقى «الواقعة» الأهم: أن الرأي العام الأوروبي والأميركي يجد في نسبة معتبرة أن الإسلام دين غريب، وأن المسلمين عصيون على الائتلاف والاندماج!