زيارة بابا الفاتيكان لبريطانيا وعلاقات الكاثوليك بالأنجليكان

رضوان السيد

TT

وصل البابا بنديكتوس السادس عشر إلى بريطانيا في زيارة نادرة بين الكنيستين الكاثوليكية والأنجليكانية (أو كنيسة إنجلترا). وقد أراد البابا أن يعطي الزيارة طابعا تصالحيا بعد المصاعب التي سببها لإدارة الكنيسة ببريطانيا العام الماضي عندما كاد يصطنع انشقاقا بداخلها باجتذاب المحافظين الأنجليكان المتشددين للعودة إلى حضن الكنيسة الأم (الكاثوليكية) مع التمتع بوضع خاص! وبحسب إحصائيات الكنيسة الكاثوليكية عام 2008، فإن عدد الكاثوليك في العالم بلغ مليارا ومائتي مليون، وهو لا يحسب البروتستانت، والأرثوذكس من بينهم. ولا تتفوق رغم ذلك عليهم في العدد - ودائما بحسب إحصاء الفاتيكان - إلا المجموعة الإسلامية. إنما هناك فرق شاسع بين المجموعتين، فالمجموعة الكاثوليكية ذات قيادة دينية واحدة، وخيوط السلطة فيها تتجمع في الفاتيكان، بينما المسلمون وفضلا عن تفرعهم إلى مذاهب مختلفة، لا يملكون قيادة واحدة بما في ذلك المجموعة الأكبر، أي المجموعة السنية. وهذا الأمر، لا يعود لأسباب تاريخية؛ بل ودينية أيضا. ذلك أن المؤسسة الدينية في الإسلام لا تملك طابعا قدسيا ملزما.

إنما الموضوع هنا هو موضوع الانقسام التاريخي بين الكاثوليك والبروتستانت، والانقسامات الأخرى المترتبة على الانقسام الأكبر والأول. وكانت الكنيسة الكاثوليكية قبل القرن السادس عشر، تعمد لحسم الإشكالات والانشقاقات من طريق القوة (محاكم التفتيش والحملات العسكرية). على أن الحل في حالة إنجلترا اصطدم بعقبة كأداء. إذ بدأ الانقسام أو الانشقاق من رأس الدولة: الملك هنري الثامن، الذي اختلف مع البابا لأسباب شخصية، ثم امتد الخلاف فشمل: من يملك حق الإمرة والأمر على كنيسة بريطانيا، الفاتيكان أم الملك؟! وعندما ظهر مسيحيون ثوار بعد ذلك في وسط القارة وشمالها، ما استطاع البابا فعل الكثير، لأن بعض الأمراء والملوك دعموا الثوار أو المعترضين (البروتستانت) مثل مارتن لوثر وكالفن وزفنغلي. وبذلك تكونت كنائس وطنية مستقلة متوافقة مع إدارات الدول الوطنية البازغة أيضا، ومستقلة عن الفاتيكان أو تعاديه لأسباب وطنية ولاهوتية.

وقعت كنيسة إنجلترا إذن في طليعة الانشقاق وقلبه. ومع امتداد الإمبراطورية البريطانية، امتد نفوذها في أميركا الشمالية وأفريقيا وآسيا، كما كان الكاثوليك يتمددون أيضا في ذيل الاستعمار البرتغالي والإسباني وأحيانا الفرنسي قبل ثورة عام 1789. بيد أن العالم البروتستانتي، وتبعا لاختفاء القيادة القدسية، ما بقي موحدا بالطبع في المواطن التي انتشر فيها، وخاصة في أميركا الشمالية؛ فظهرت مئات الكنائس عبر القرون الثلاثة الماضية، لا يكاد يجمعها جامع باستثناء مخالفة الفاتيكان، والقول بالاستقلالية في تفسير الإنجيل، والإدارة الكنسية. ويميز مؤرخو الكنائس البروتستانتية بين ثلاث مراحل للنهوض: مرحلة القرن السابع عشر الذي كثرت فيه التنبؤات والإرهاصات باقتراب القيامة، ومرحلة القرن التاسع عشر وطابعها العام ظهور روح تبشيرية قوية داخل أميركا وخارجها. والمرحلة الحالية، التي ظهر فيها الإنجيليون الجدد منذ الخمسينات من القرن الماضي إلى اليوم. وقد تميزت بالتركيز على أسلوب جديد للحياة، والتدخل في الشأن العام، ونشر الحركة الإنجيلية في الخارج العالمي. أما الكنيسة الكاثوليكية فقد استوعبت صدمات القرون السالفة بصعوبة شديدة، ثم حاولت التجديد والاستيعاب في مؤتمر الفاتيكان الثاني (1962 - 1965)، ثم أظهرت ردة ومحافظة منذ الثمانينات من القرن الماضي خشية من اليسار والليبراليين والحداثيين، تجلتا في: مواجهة الشيوعية والعلمانية من جهة، والتشدد العقائدي بالداخل (مسألة الإيمان، ومسألة البنية الداخلية). وفي تلك الحقبة (1980 - 1993) ساد وبضغط من الإدارات السياسية، جو من التضامن بين الفاتيكان والكنائس البروتستانتية الكبرى، وظهر إجماع على شعاري: الإيمان والحرية، ردده الرئيس رونالد ريغان، كما ردده البابا يوحنا بولس الثاني. وشارك العرب والمسلمون بهذه «الحرب العالمية» على الشيوعية والشمولية، وبطرائق واعية أو غير واعية، عندما تفككت علاقات التحالف بين الاتحاد السوفياتي وحلفائه في العالمين العربي والإسلامي، وقاتل الأصوليون الإسلاميون في أفغانستان ونواح أخرى ضد القوات السوفياتية والروسية.

بيد أن خيبة كبيرة انتشرت بين المسلمين أولا، ثم بين الكاثوليك. إذ بدا أن البديل عن الشمولية ليس الحرية والنظام العالمي الجديد والفعال، كما صرح الرئيس بوش الأب عشية انهيار الاتحاد السوفياتي؛ بل الهيمنة الأميركية، واقتصاد السوق، وانتشار الإنجيليات الجديدة. وفي الوقت الذي كانت فيه الأصولية الإسلامية تبرز أظافرها وصرخاتها بعد حرب الخليج الثانية، والصراع المستمر في أفغانستان والبوسنة والشيشان؛ كان البابا السابق يقوم برحلاته العالمية التي تندد بالعولمة وتدعو لمكافحة الفقر، وإحلال نظام عالمي للأمن والعدالة. وقد مد البابا السابق يده باتجاه المسلمين، وأظهر تذمرا من الانتشار الإنجيلي في أميركا اللاتينية وشرق أوروبا.

وما امتدت العلاقات السيئة المستجدة بين الفاتيكان والبروتستانت إلى بريطانيا وأنجليكانها لأول وهلة. فالكنيسة الوطنية البريطانية - التي يتبعها بالداخل والعالم نحو المائة مليون - رأسها ملكة بريطانيا، والعلاقات الأميركية - البريطانية استمرت على وتيرتها العالية أيام توني بلير، وشاركت بريطانيا الولايات المتحدة في سائر حروبها، وحصلت على بعض الغنائم من بقايا فرائس الأسد. بيد أن تغيرين حصلا في السنوات الخمس الماضية: مات البابا يوحنا بولس الثاني، وخلفه بنديكتوس السادس عشر الأكثر محافظة وتشددا، والكنيسة الأنجليكانية البريطانية عانت من تمرد محافظ بداخلها. وقد بدأ البابا الجديد عهده بعدة تحركات متشددة: فقد أضعف أو ألغى مؤسسات وجهات التحاور القائمة مع الأديان الأخرى، وكانت له تصريحات متناقضة تجاه المسلمين كما هو معروف. وأعاد بعض المتشددين الكاثوليك إلى مناصبهم التي كان البابا السابق قد أخرجهم منها بسبب آرائهم التي قيل وقتها إنها «لا تتلاءم مع العصر ولا مع روح المسيحية الحقة». إلا أن أهم ما قام به البابا الجديد، هو إنهاء التحاور والمصالحة التي بدأت بمجمع الفاتيكان الثاني. ذلك أن المجمع ما فتح الباب مع أتباع الديانتين الإبراهيميتين (اليهودية والإسلام) وحسب؛ بل أعاد الاعتبار لمصطلح وممارسة «المسكونية» أي الطابع العالمي للمسيحية قبل انقسامات المجامع (منذ القرن الخامس الميلادي)، والانقسام الكاثوليكي - الأرثوذكسي 1054، والانقسام البروتستانتي. فكل من يقول بألوهية المسيح؛ هو مسيحي ناج؛ في حين «يمكن للذين يقولون بوجود الله ووحدانيته أن ينجوا». البابا الحالي أضاف إلى شروط الإيمان الصحيح الالتزام بوحدة الكنيسة الأم والجامعة والولاء لها. وما اعتبر أحد أنه ارتكب أمرا إدا عندما هاجم الإنجيليين الجدد، ثم ظهر التشكك عندما أعلن عن عدم حماس لإكمال المشوار مع الكنائس البروتستانتية الكبرى. ثم هجم فجأة على الكنيسة الأنجليكانية - التي كان رئيسها أسقف كانتربري قد زاره في روما مهنئا وراغبا في متابعة الحوار والتقارب - داعيا المحافظين فيها، الذين كانوا قد توقفوا عن حضور القداديس مع «الليبراليين» ومنهم روان ويليامز أسقف كانتربري، للعودة إلى الكنيسة الأم، وضمن نظام خاص لا يفقدهم كامل استقلاليتهم! ماذا أعجب البابا من محافظي الأنجليكان؟ أعجبته معارضتهم للإجهاض، ولتكهين النساء، ولاستخدام وسائل منع الحمل، ومساواة مثليي الجنس. ومعارضو هذه الأمور التي تتشدد الكنيسة الكاثوليكية في تطبيقها، كانوا قد صاروا قلة في الكنيسة الأنجليكانية، وانتصر عليهم الليبراليون الذين جاءوا بالأسقف روان ويليامز رئيسا لهم قبل عشر سنوات. وليست هناك إحصائية دقيقة لعدد الذين انجذبوا من وراء دعوة البابا، إنما يشاع أن عددهم تجاوز الخمسة آلاف. وقد تريث أسقف كانتربري (مطلع عام 2010) في الإجابة على التحدي؛ لكن التذمر شاع في أوساط الأنجليكان الليبراليين، واعتبروا أن الأسقف قصر في الدفاع عن كنيسته في وجه عدوانية البابا! جاء البابا إذن أخيرا إلى بريطانيا بطلب منه، وقال مفاوضو الفاتيكان إنها مبادرة مصالحة. إنما في برنامج الزيارة أن البابا سيقيم - بالإضافة إلى القداس المشترك مع أسقف كانتربري والمناسبات الأخرى مع الملكة ورئيس الوزراء - قداسا مع كاردينال إنجلترا الكاثوليكي، وقداسا عن روح مطران بروتستانتي عاد إلى الكاثوليكية في القرن التاسع عشر! وفي اليوم الثاني لزيارته، قابلته مظاهرتان: واحدة تدعوه إلى موقف أقوى من اعتداءات الكهنة الكاثوليك على الأطفال، وأخرى (من كاثوليك ليبراليين) تدعوه لاحترام حقوق النساء والمثليين! لا يبدو أن زيارة البابا سوف تحل المشكلة مع كنسية إنجلترا. إنما المرجح أن لا تنفجر القضية بين الطرفين. وفي مقابل الذين «عادوا» إلى الكاثوليكية المعدلة، هناك آلاف خرجوا ببريطانيا وغيرها من الكنيسة الكاثوليكية لاتهامهم البابا بالتساهل في الجرائم ضد الأطفال، ولأنه لا يريد الإصلاح في الكنيسة الأكبر في العالم، بعد أن سادها الجمود والتقوقع.

إن الطريف والمؤسف أنه في الوقت الذي كان فيه الأنجليكان متذمرين بسبب جفاء البابا وعدوانيته، قام البوليس البريطاني بالقبض على ستة مسلمين من أصل جزائري، للاشتباه في أنهم يحاولون القيام بعمل عنيف ضد البابا إبان زيارته. ولله في خلقه شؤون.