محمد أركون أو النقد التاريخي لمصادر الإسلام

الصحبي بن مسعود

TT

توفي هذه الأيام المفكر والكاتب بالفرنسية محمد أركون - وهو فرنسي من أصل جزائري - عن سن تناهز الثمانين عاما بعد ما قدم للفكر العربي الكثير من المقاربات، لعل أبرزها ما تعلق بقراءة النصوص المقدسة، وكان أهم وأعمق من تناول بالنقد الفكر الإسلامي «التقليدي»، وقد انبثق عن ذلك طريق خاص بالدكتور محمد أركون لا يعترف «بقوانين التأويل» المتمثلة في طرق الاستنباط بقواعدها اللغوية والشرعية كما بينها علماء أصول الفقه، بل هو قراءة تستمد آلياتها من خارج الفضاء الإسلامي، وقد تولى ترجمة كتبه هاشم صالح.

لقد سعى الأستاذ محمد أركون إلى «أنسنة» الخطاب القرآني بمعنى نقله من مستواه الإلهي المقدس إلى مستواه الأرضي وجعله مفتوحا على المقاربات النصية ذات البعد الحداثي التي طبقت على النص القرآني المدارس المعاصرة للسانيات كالبنيوية وهي فهم النص من خلال تركيبته الأدبية والقرائن التي تحفه، والتفكيكية وهي الانفلات من قيود النص وإلزاماته عبر تحطيم أسس النص وبنيته والسيميائية، وهي دراسة الإشارات وهي تشمل الكلمات والأصوات ولغة الجسد واللوحات والنصوص (أسس السيميائية، دانيال تشاندلر، المنظمة العربية للترجمة). والنص عند الدكتور محمد أركون ليس إلا إفرازا صراعيا تبلور وتشكل عبر الزمن ليصبغ على نفسه صفة القداسة والمعنى اللاهوتي ليصبح فيما بعد مصدر الاستمداد والهيمنة.. لذلك فهو ظاهرة ثقافية تتصارع فيها كل مظاهر الوعي الذي ساد المحيط الثقافي في تلك المرحلة. فالحقيقة الموحى بها لا وجود لها إنما هي ما يصنعه الإنسان وهو يمارس عملية التعقل والفهم عبر التاريخ، فلا وجود عنده لحقائق ثابتة جوهرية متعالية بل هي نسبية متحولة حسب تطور الوعي وضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية وليس لأي مصدر مهما كان أن يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة. وهو يعتبر التفاسير الموروثة حول الخطاب القرآني فرضت عليه قيودا بصفته الوحي المطلق الإلهي في مصدره ولغته (أركون: من التفسير الموروث) فهذه القراءات تنظر إلى الوحي القرآني نظرتها إلى أي خطاب آخر وتحاول إخضاعه إلى قوانين التطور الاجتماعي تبعا لظروف الزمان والمكان المتأثرة بالأبنية الثقافية للواقع. وهذه المفاهيم الجديدة للنص واللغة والحقيقة.

إلى جانب هذه المفاهيم حول اللغة والنص والحقيقة التي تمثل أدوات منهجية لهذه القراءة الحداثية فإنها تسعى إلى تقديم جهاز من المفاهيم يمكنها من امتلاك النتائج المعرفية والنهايات المنطقية ومن ثم إحلالها مكان المفاهيم المعتمدة لدى الأصوليين بعد تقويضها. وهذه القراءة تقدم مقولاتها بطريقة صريحة أحيانا ومقنعة وخفية أحيانا أخرى، متجنبة الصدام مع عقائد الأمة والمؤسسات الدينية الرسمية. وتنبني على مجموعة من الأسس أهمها:

* علمنة المعرفة واستبعاد الغيب: وهي مسار تطوري للمجتمع الأوروبي ولها تعبيرات ثقافية واجتماعية وسياسية تصدر عن مقتضيات العقل المتحرر من كل سلطة دينية، حيث يتعالى العقل ويتحول إلى مرجع أعلى للمعاني والقيم، والدكتور محمد أركون يعتمد العلمانية منطلقا فكريا لهذه «الحفريات المعرفية». فالعلمنة التي جاءت بها الوضعية المادية هي الخطوة الأولى لتأسيس المرحلة الحديثة للتاريخ البشري وتحريره من البعد الغيبي. والعلمانية تشمل جوانب التفكير والثقافة وإلغاء سلطة المؤسسة الدينية والحيلولة دون تدخلها في توجيه الحياة السياسية ليتحول المجتمع إلى مصدر أعلى للقيم والأخلاق. وتناسى هؤلاء أن كل فكرة إنما هي «تتخلق في رحم المجتمع بنجاحاته وإخفاقاته، وكذلك تستجيب لمطالبه وحاجاته العامة» (والتعبير للدكتور رفيق عبد السلام).

* الربط بالبيئة الجغرافية والطبيعية: لقد سعى رواد الحداثة الأوائل إلى سلب المشروعية عن الكنيسة وانتهى الأمر إلى غلبة مفهوم «تاريخية الأفكار» - كل الأفكار - وخضوعها لمنطق الزمان والمكان. وهذا المفهوم نشأ في صلب الثقافة الأوروبية ثم انتقل إلى الثقافة العربية، والتاريخية تهدف إلى ربط النصوص بالبيئة الجغرافية والطبيعية والبشرية والقبائلية لشبه الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي فتصبح دلالات الألفاظ مرتبطة بعهد التنزيل فينتفي مفهوم الحقيقة الثابتة والمعنى الصواب ليفتح المجال لتعدد المعاني وتجددها بحسب ما يمليه تجدد المعايير والقيم (أركون، قضايا في نقد العقل الديني).

* النسبية: وتعني تجريد القرآن من صفتي الإطلاقية والتعالي ونزع البداهة والقداسة عن الوحي، يقول أبو زيد: «إن كل الخطابات تتساوى من حيث هي خطابات وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه الحقيقة»، وتهدف هذه القراءات من خلال هذه المراجعة لكل المسلمات إلى ضرب النص كمرجعية مقدسة وعليا، مفارقة لإطار الزمان والمكان ومن ثم ضرب الطابع الإلزامي لكل النصوص وضرب فكرة الحاكمية وفكرة الحقيقة التي يمثلها الوحي. وهذا مدخل للاجتراء على كل النصوص فلا تبقى قواطع ولا ثوابت ولا تخوم. وإذا جاز تخطي حد من حدود الله جاز إسقاط كل الشريعة كما قال الإمام الشاطبي، وهنا يكمن الخطر المنهجي لهذا المنزع.

إن هذه الأسس تمثل في الواقع أزمنة معرفية وأطوارا عرفها المجتمع الغربي باعتباره الفضاء الحضاري الذي تشكلت فيه هذه الأفكار منذ انطلاق حركة الإصلاح الديني التي استهدفت تفكيك السلطة الدينية والزمنية للكنيسة وحررت فهم نصوص الكتاب المقدس من وصايتها.

يتحدث المفكر والكاتب إدوارد سعيد عن «رؤية الاستشراق الإمبريالية».. وكيف ينقل الاستشراق ذاته أو يعيد إنتاجها من عهد إلى عهد.. ويتساءل كيف نستطيع أن نعالج ظاهرة الاستشراق الثقافية التاريخية بوصفها نمطا من العمل الإنساني دون أن نسقط في الوقت نفسه في رؤية التحالف بين العمل الثقافي والنزعات السياسية؟. إن رواد القراءات الحداثية وعلى رأسهم الدكتور محمد أركون اجتهدوا في نقل مصطلح «القراءة» بالمفهوم الغربي إلى الثقافة الإسلامية بلوازمه التي يرفضها فكرنا الإسلامي عموما، واستمدوا المفاهيم والأدوات المنهجية - ليس من دون وعي - من أعمال المستشرقين. وعليه فإن هذه القراءات الحداثية لا تنفصل عن أطروحات الاستشراق وتهدف إلى إعادة توجيه الحضارة الإنسانية، وفق مفاهيم وأدوات العقل الوضعي وتكريس التبعية للعقل الغربي. وفي الأخير المفكر محمد أركون، نذر حياته لدراسة الفكر العربي الإسلامي وإن بشكل نقدي مس الثوابت.. والله أعلم.

* كاتب وباحث من تونس