غاينسفيل.. هوامش على دفتر الأزمة

إميل أمين

TT

لم يكن ما جرى في ولاية فلوريدا الأميركية مثيرا أو غريبا، على الأقل بالنسبة لأهل الاختصاص، أولئك الباحثين والمدققين في شأن أصل النظرة المضطربة في الغرب للإسلام، والتي تعود لقرون بعيدة، فيها ما سبق الحملات الصليبية أو حروب الفرنجة، ومنها ما يعود إلى القرون القروسطية، سيما القرنين السادس عشر والسابع عشر الميلاديين، وزمن مارتن لوثر، ذاك الذي وقع بين يديه كتاب العلامة الدومنيكاني «ريكولود دا مونتي كروتشي»، والمسمى الرد على القرآن، من أعمال القرن الثالث عشر، فنقله إلى اللغة الألمانية، وأراد أن يطوره ليصبح أكثر عصرانية، فقدم له بمقدمة طويلة وذيله بخاتمة، وغلبت على المقدمة والخاتمة مسحة كئيبة سوداوية لصورة الإسلام في أوروبا، والتي انتقلت معها لاحقا إلى أميركا «أرض الموعد الجديدة» للهاربين والملاحقين من الصراع المذهبي المسيحي الواحد.

وربما يقتضي ما جرى في غاينسفيل منا نظرة أكثر بعدا وأعمق طولا وعرضا من الأصوات الزاعقة والرايات الفاقعة، سيما أن صاحب الدعوة قد امتلك من الخبث والدهاء، ما مكنه من «اختطاف الحالة الدينية العالمية» إن جاز التعبير، رهينة لعدة أيام، وهو شخص أبو كريفي صاحب سجل أخلاقي ومالي مشين في أوروبا وفي أميركا نفسها، وتوصف جماعته بأنها «مجهرية» دلالة على تهافت أعدادها الذين لا يتجاوزون في أحسن تقدير بضع عشرات، وقد أخطأ إعلامنا العربي كثيرا في الحديث عنه بصفته راعي أو صاحب كنيسة، وهي الكيان الذي له شروط جوهرية لاهوتية وآبائية لا تنطبق إلا على الكنيسة الكاثوليكية ثم الكنيسة الأرثوذكسية حول العالم، وهذا مفهوم يحتاج إلى تحليل قائم بذاته، ربما نعود إلى فك طلاسمه ذات مرة.

في شأن غاينسفيل تكثر علامات الاستفهام.. إلى أين يريد هؤلاء «المجانين الجدد» أن يمضوا بنا؟ وهل الأمر مقصور عليهم، أم أنه ينسحب ومن أسف شديد بسوداوية أكثر قتامة على قطاع كبير من الأميركيين؟ ثم هل القضية شعبوية فقط، أم نخبوية أيضا؟ وأخيرا وليس آخرا هل نوفر أفكار المؤامرة هذه المرة كالمرات السابقة أم لا؟

يمكن الإشارة إلى أن ما جرى يمضي في طريق فرعي عنوانه «أوقفوا أسلمة أميركا»، وهذا يصب في إطار أوسع لتمدد اليمين الأميركي بعامة، وجماعات «حفل الشاي» خير شاهد على ذلك، وقد تعالت صيحاتها، مؤخرا بحتمية تخليص الولايات المتحدة الأميركية من «شرور الإسلام والمسلمين» حتى يعود لأميركا شكلها البيورتاني «الطهراني» العتيد، ولتصبح من جديد «يوتوبيا» القرن الحادي والعشرين.

وقد وجدت هذه الجماعات في الجدل المثار حول بناء مسجد قرطبة فرصة لإعلاء صوتها.

الشاهد أن ما أراده الإمام فيصل عبد الرؤوف، على حد تعبير الكاتب الأميركي «دويل مكمانوس» هو «رد روحي على مشكلة روحية»، والهدف النهائي للإمام المسلم هو «جسر الهوة بين المسلمين والمسيحيين واليهود»، عبر العودة إلى زمن الوصل الروحي الجميل في الأندلس، لكن هيهات أن يستوعب ذلك أصحاب الطريق الفكري الأحادي One Track Mind.

غير أن الطامة الكبرى هي أن هؤلاء لم يعودوا الدهماء أو الرعاع أو غيرهم من العامة الجهلاء، أو من العاطلين فعلا والبطالين قولا؛ إذ إن نساء من أمثال «باميلا غلير» ورجالا من نوعية «روبرت سبنسر» قادة المعترضين على بناء مركز قرطبة، يلقون دعما من شخصيات بارزة في اليمين الأميركي المتطرف ومن دعاة ورعاة المحافظين الجدد، ومن مؤسسات مثل مركز السياسة الأمنية الممول أساسا من شركات المقاولين في قطاع الدفاع، والعديد من المتبرعين اليهود الأثرياء، والسفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة جون بولتون ومركز الحرية، ونيوت جينجريتش رئيس مجلس النواب الأسبق والعديد من المؤسسات البحثية والفكرية الأميركية ذات الأوزان الثقيلة مجتمعيا.

كتبت «نيويورك تايمز» في افتتاحيتها صباح الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تشير إلى أن «التعصب الأعمى الذي ظهر من القس الموتور «جيري جونز» هو الذي يغذي المتطرفين، وأن هناك أشخاصا موجودين في مواقع السلطة الحقيقية، بمن فيهم أعضاء بارزون في الحزب الجمهوري يؤيدون دعوة جونز دون أن تحدد «نيويورك تايمز» أسماءهم».

ولعله يحق لنا أن نتساءل في سياق فهمنا للفلسفة البراجماتية الأميركية والسياسية منها على نحو خاص: «هل ما جرى وتوقيته يمت بصلة لانتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأميركي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، قبل أن يتقاطع مع الإشكالية الدينية والإيمانية؟».

في تقدير كاتب هذه السطور، أنه إن لم يكن التاريخ كله مؤامرة فهو ليس فردوسا للأطهار، وإذا كان القول بالمؤامرة المطلقة فكرا مغلوطا فالأشد إغراقا في الخطأ هو النظر إلى الأمور بعين المصادفة، وهذا ما يجعلنا نرى فيما جرى، ولو في جانب منه، جزءا من المعارك الداخلية السياسية الأميركية التي لعبت على أوتار الأديان، ووجدت من يذكيها ومن له مصلحة في انتفاء أي تلاق إسلامي - مسيحي.. كيف هذا؟

يحذر «شبتاي شفيط» رئيس المخابرات الخارجية الإسرائيلية «الموساد»، على حين غرة، ومن دون أية مقدمات في محاضرة له ألقاها في الأيام القليلة المنصرمة أمام «المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب» من شاغل المكتب البيضاوي فيقول: «يجلس في البيت الأبيض للمرة الأولى رئيس لم ييسر له مسار حياته منذ ولادته الالتقاء مع القيم اليهودية والتضامن الطبيعي في عقله الباطني، هو من السود في الولايات المتحدة وروايتهم التاريخية، وينبغي أن نتذكر أن هذا الرئيس احتك في صباه واكتسب قيما إسلامية».

ثم يضيف في نبرة تشكيكية لا تخطئها العين: «إنه لأول مرة منذ قيام دولة إسرائيل وعهد الرئيس الأميركي هاري ترومان، يتم تفريغ التضامن بين الولايات المتحدة وإسرائيل من مضامينه، وإن هذا التضامن كان يستند إلى مجموعة من القيم اليهودية المسيحية وحل محله تضامن آخر مسيحي – إسلامي».

يؤكد باراك أوباما أن أميركا ليست في عداء مع الإسلام كدين ولا مع المسلمين على عمومهم، وإنما الخلاف قائم وقادم مع القاعدة، لكن الإسلاموفوبيا البغيضة باتت تجد في مواقف أوباما خنجرا تغمده في خصر «الفتى الأسمر» محذرة من ميوله المفترضة، وشهوات قلبه غير المعلنة؛ لهذا يطالب أنصار التيار المحافظ في تجمعهم الحاشد مؤخرا أمام نصب لينكولن بعودة «أميركا بلد الله»، وأول الغيث عند هؤلاء هو إزاحة الرئيس الذي أظهرت بعض استطلاعات الرأي أن نسبة الأميركيين الذين يعتقدون كونه مسلما شارفت حدود الـ 60% وأن الإعلام الأميركي هو من تلقى عليه تبعات اليقين والاعتقاد.. هل نوفر هنا فكر المؤامرة ومن وراءها؟

وإذا كان لكل تجربة قاض ينظر ويحكم، فإننا نرى فيما جرى إيجابية غير مسبوقة؛ إذ إنه أحيانا من قلب القبح يخرج الجمال؛ ذلك لأنه لأول مرة نشاهد هذا الرفض المسيحي الأميركي والعالمي لهذه الدعوة الشيطانية، ويضيق المسطح المتاح للكتابة عن تعداد الهيئات والمؤسسات الدينية المسيحية التي تضامنت مع الإسلام والمسلمين في رفض الإساءة إلى القرآن الكريم، ولعله يكفي أن نشير على سبيل المثال إلى موقف حاضرة الفاتيكان؛ فللمرة الأولى تخرج صحيفة «الأوسيرفاتوري رومانو» الناطقة باسم الكنيسة الكاثوليكية تحمل عنوان «لا أحد يحرق القرآن»، ولتؤكد أن هذه الدعوة تتعارض مع الإيمان المسيحي.. فيما يشير المتحدث باسم الإعلام في حاضرة الفاتيكان الأب اليسوعي «فيديريكو لومباردي» عن قلقه من ذلك الفعل «الذي يذهب في الاتجاه المضاد لبناء السلام الذين نحو مدعوون إليه باعتبارنا مؤمنين بالله».

وقبلها قال المجلس البابوي للحوار بين الأديان في الفاتيكان عبر بيان له إنه «أمام أعمال العنف لا يمكن أن يضع أحد كتابا مقدسا من قبل جماعة دينية موضع جدل؛ لأن لكل ديانة ولكل كتاب مقدس ومكان عبادة ورمز ديني، الحق في أن يكون محترما ومحميا.. إنه احترام وليد كرامة الأشخاص».. وفي هذا الموقف الفاتيكاني وبياناته رد شاف واف على القائلين بتهافت فكرة الحوار بين الأديان.

ومن الإيجابيات التي يجب أن يعمل التنويريون من فقهاء الأمة ومثقفيها زخمها أدبيا ومعنويا تلك الدعوات التي صدرت عن أميركيين أفراد وحتى مؤسسات دينية، أولئك الذين بادروا من تلقاء أنفسهم لتشكيل حائط صد وردع في مواجهة الأكاذيب، ومنهم على سبيل المثال مسؤولة العناية الروحية في كنيسة «فيرست كميونتي» ديبورا ليندسي تلك التي أكدت «حاجة أميركا الآنية لجرعة من التواضع الديني، ولتفهم الإسلام بعيدا عن موجة الخوف السائدة منه».

وقد ذهبت الناشطة الأميركية «شارل تشارلي» مديرة ائتلاف منظمة «وييتر للسلام والعدل» بكاليفورنيا والتي تقود حملة على الإنترنت مضادة لحملة جونز، لارتداء الحجاب في رمزية تضامنية مع المسلمين، واعتراض واضح مؤقت على إشكالية الأفكار الجاهزة idées recues والتي تضع الإسلام في نمط مقولب لا بديل عنه.

يبقى القول: إنه إذا كانت القاعدة قد ألقت أسئلتها في نيويورك وواشنطن ومدريد وغيرها من البقاع عبر القنابل البشرية وجاء الرد الأميركي عبر الصواريخ الأميركية في أفغانستان والعراق وباكستان واليمن والصومال، فإنه ما بين السؤال والجواب تقر وزيرة الأمن الداخلية الأميركية «جانيت نابوليتانو» بأن أمن البلاد ليس بمأمن إطلاقا، ما يحتم على اليمين الأميركي الظاهر والخفي عدم اللعب من جديد بنار الأديان، وألا تتخفى الأهداف السياسية الأبعد وتتدثر في غطاءات الدين.

أميركا اليوم وعبر إشكالية مركز قرطبة في مفترق طرق، سيما أن بعض سياسييها في الجهر أو السر يسعون لتحويل معركتها مع جماعات خارجة ضالة مجهرية بدورها إلى صدام إسلامي غربي، وحال وقف بناء هذا المركز المنوط به التنوير والتسامح بسبب الأفكار الجاهزة والمسبقة والديماجوجية السياسية سيكون بن لادن، والتعبير لدويل مكمانوس، قد حقق هدفا ثانيا بالقرب من موقع البرجين السابقين.

تيري جونز ذهب في نشر «سر الإثم» MYSTERIUM INQUITATIS من خلال دعوته لحرق القرآن فهل تمضي أميركا وراءه، أم أن عقلاءها سيدفعون بها في اتجاه «سر البعث والقيامة» MYSTERIUM RESURRECTIONIS؟

الصحبي بن مسعود *

* كاتب مصري