«النقشبندية» حافظت على زخمها من خلال الطبقة المثقفة.. وشيوخها يجيدون أكثر من لغة

الصوفية في البلقان قدمت مع العثمانيين وانتشرت مع انتشار الإسلام في أوروبا الشرقية

أكبر تكية للطريقة النقشبندية في البلقان («الشرق الأوسط»)
TT

هناك روايتان تقول إحداهما إن التصوف سبق دخول المسلمين في العهد العثماني إلى غرب البلقان. وهناك رواية تقول إن التصوف انتشر وتوسع مع وصول العثمانيين إلى غرب البلقان، حيث كان الكثير من المتصوفة مع جيوش الفاتحين. وهناك مقابر عليها علامة مغارف كبيرة تعود للقرن الخامس عشر، وهم قوم من المتصوفة كانوا يطعمون الطعام ويوزعونه بين الناس. وهناك من يقول إن المغارف هي في الحقيقة نوع من المطارق التي كانت مستخدمة في الحرب، وكان الشهداء من حملة تلك الأسلحة.

تختلف الصوفية في منطقة البلقان، عن الكثير من الطرق الصوفية الأخرى في العالم، فهي مكون أساسي للتاريخ العثماني منذ توحيد قبائل آل عثمان، فقد كانت جزءا لا يتجزأ من الانتشار العثماني بما يحمله من تفاعلات سياسية، ونشاطات حربية، وامتدادات روحية، منذ القرن الرابع عشر، عندما كان الشيخ الصوفي أكشم صيدين، له تأثير كبير على السلطان محمد الفاتح، وهو الذي نصحه بصلاة الاستخارة قبل المجيء إلى غرب البلقان. وظل التصوف مسيطرا على تصرفات السلاطين العثمانيين فترة طويلة، كما ظل في مقدمة صفوف الجيوش وأحيانا القادة العسكريين. وكانوا يبنون بيوتهم من الطين، فإذا نودي للقتال يهدمون بيوتهم ويتوجهون إلى ساحات المعارك.

«المولوية» هي أول طريقة صوفية تصل إلى البوسنة، أي أول طريقة تبني لها زاوية أو تكية، في البوسنة وغرب البلقان، وهي تكية عيسى بك اسحاقوفيتش، ثم توالى بناء زوايا وتكايا الطرق الصوفية الأخرى، مثل «الخلوتية»، و«القادرية»، و«النقشبندية»، و«الرفاعية».

وتعد الطريقة النقشبندية الأكثر انتشارا في البوسنة، بل هي الطريقة السائدة على مستوى التكايا والزوايا وعدد المريدين كذلك. فقد تعرضت بعض الطرق الصوفية إلى ضربات موجعة ساهمت في انحصارها، إن لم يكن في اندثارها، كالخلوية مثلا. أما الطريقة المولوية فقد كانت نكبتها الكبرى في نهاية خمسينات القرن الماضي بعد هدم تكية عيسى بك سنة 1958. وظلت تعمل بطريقة سرية ومحدودة، ولم يكن شيخها يرأس الموالد أو الاجتماعات إلا بشكل محدود وفي البيت، وقد توفي قبل الحرب في البوسنة سنة 1992. في حين لم تكن «القادرية» بذلك الانتشار الذي يمكن أن تؤثر عليه الإجراءات الحكومية في العهد الشيوعي.

ويعود انتشار الطريقة النقشبندية وسيطرتها على الساحة الروحية في البلقان لكونها تراعي العرف الاجتماعي بين الشعب، وفق الباحث الدكتور سامر بيغ ليروفيتش (مترجم «إحياء علوم الدين» للغزالي إلى اللغة البوسنية)، «فكل شيء يتعارض مع تعاليم الدين لا يجد له مكانا في النقشبندية»، إلى جانب «الفعالية للنقشبندية، فهي متحفزة، وتعيش عصرها وتفقه التغيرات التي تطرأ على الساحة، فتتكيف معها وتقابلها بمواقف عملية».

في القرن الثامن عشر وما بعده اتخذت الطرق الصوفية سياسة مختلفة، وهي ترك الحياة العامة من موقع القيادة، إلى الاهتمام بالبنية التحتية ثقافيا للحفاظ على البقاء الروحي، لكنها عادت مجددا للظهور في التسعينات من خلال المشاركة في الحرب، والانخراط في العمل السياسي، والتفاعل معه، سواء من خلال الأحزاب السياسية القائمة، أو المؤسسات الثقافية والاجتماعية المختلفة. لكن الصوفية لا يعبرون عن ذلك من منطلق طرقي، وإنما كأحرار في دول ديمقراطية.

كان التغيير في القرنين الثامن والتاسع عشر ناتجا عما تمخضت عنه الصراعات الدولية في منطقة البلقان، والعالم، وهي مرحلة الاحتلال النمساوي الهنغاري لمنطقة البلقان، وفق التقسيمات الاستعمارية، والخلافات بين الدول الغربية حول مناطق النفوذ التي أدت بعد ذلك إلى الحرب العالمية الأولى 1914/1919، والثانية 1939/1945، وما أعقبها من بروز الكتلتين الشرقية بقيادة ما كان يسمى بالاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، والغربية بقيادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، ثم انهيار الكتلة الشرقية والاتحاد السوفياتي، ثم انهيار يوغوسلافيا، وبروز القطبية الآحادية، ثم إرهاصات جديدة لتعدد الأقطاب.

حافظت «النقشبندية» على زخمها أيضا من خلال الرجال الذين قادوها، والذين كانوا من الطبقة المثقفة، وشيوخها من الذين يحسنون أكثر من لغة ومولعون كذلك بالفنون على اختلافها، مثل أسرة حاجي ميلي بدءا بالشيخ محمد ميلي، وقد نجح آل ميلي في اجتذاب عدد كبير من الناس إلى الطريقة النقشبندية، بما في ذلك سكان القرى. ويعود إلى آل ميلي الفضل في إعادة بناء التصوف أو بالأحرى إعادة تنظيم العمل الطرقي الصوفي، وقد نجحوا في ذلك نجاحا كبيرا.

لا تختلف الطرق الصوفية في البلقان عن بعضها، إلا في الأشكال فقط، أما غايتها فهي واحدة، فـ«هدف الجميع أن يكون الإنسان أقرب إلى الله، ولكن لكل منها طريقة في ذلك»، مثل «الذين يميلون إلى الفن فهم موجودون في (المولوية) أو كانوا دائما مولويين، والذين يحبون الزهد يذهبون إلى (القادرية)، والذين يهتمون أكثر بالأذكار والذكر الخفي ينتمون إلى (النقشبندية)، والذين لديهم صرامة وشجاعة يقبلون على (الرفاعية)، والذين يحبون زيادة العبادة يميلون إلى (الخلوتية)، فبرنامجها صارم». غير أن ذلك مجرد انطباعات لباحث في الصوفية، فليس كل هذه الصفات حكرا على طريقة بعينها، كما أنها لا تشمل كل الطرق التي تحمل الأسماء الآنفة. فما تتمتع به هذه الطرق في البلقان على سبيل المثال، لا يعني أنها كذلك في مناطق أخرى من العالم.

تختلف الأوراد (الأذكار) من طريقة إلى أخرى، ففي الغالب يضع شيخ الطريقة أورادا سواء من المأثور عن مشايخه أو التي يضعها هو بنفسه، وتتميز بها طريقته عن غيرها فـ«في (القادرية) بالبلقان هناك ورد معروف يسمى بـ(الورد الشريف)، وفي (النقشبندية) أوراد (الفتحية)، وفي (الرفاعية) أوراد مختلفة من بينها الأسماء الحسنى»، وهكذا.

بعد الحرب التي عرفتها منطقة البلقان، وتحديدا يوغوسلافيا السابقة، ظهرت طرق صوفية جديدة من بينها الطريقة الشاذلية المعروفة في المنطقة الإسلامية من أفريقيا، ولا سيما المغرب الكبير. وقد جاءت «الشاذلية» إلى المنطقة عن طريق بعض الشباب الذين درسوا في بعض البلاد العربية كسورية، وحصلوا على إذن من مشايخها بنشرها في المنطقة، ولديها حلقات ذكر قليلة لكنها تنمو مع مرور الأيام. ومشايخ الشاذلية يزورونها لا سيما من مصر، حيث حط بعض المشايخ الصوفية المصريين كالدسوقي ضيفا على حلقاتها، من أجل تكثير الأتباع وترسيخ قدمها في المنطقة.

تمتاز الصوفية باعتمادها مركزية روحية تسمى «قطب الزمان»، وهو المرجع الأعلى، الذي يأخذ طابعا روحانيا في مرحلة الاستضعاف، وقياديا في مرحلة التمكين، كما كان الأمر في أوج مجد الدولة العثمانية. وقطب الزمان في الجانب الروحاني للطرق الصوفية، لا تشترط معرفته أثناء حياته، فكثيرا ما عرف أقطاب بعد وفاتهم. كما لا يشترط وفقا لبعض القراءات الصوفية أن يكون قطب الزمان من طريقة بعينها، بل هي في المفهوم الصوفي «مرتبة يضعها الله لمن يشاء من الأولياء». وقطب الزمان وظيفة أيضا تتحول من شخص إلى شخص ومن طريقة إلى أخرى. ومن أقطاب الزمان الذين عرفهم العالم الصوفي، الشيخ يوسف الحمداني، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ أحمد الرفاعي، والشيخ أحمد البدوي. ثم توالى أقطاب الزمان بعد ذلك من دول مختلفة، مثل محيي الدين الأنصاري، من إسطنبول.

ويعتقد الصوفية بأن ثلاثة فقط أعلنوا عن أنفسهم أنهم أقطاب الزمان، وفي الغالب يغلب على الناس أحد الأسماء أو يبقى قطب الزمان غير معروف أو غير معلن. والثلاثة الذين يعتقد الصوفية بأنهم أعلنوا أنفسهم أقطاب الزمان: الإمام الحسين - رضي الله عنه - والشيخ عبد القادر الجيلاني، والإمام المهدي الذي لم يظهر بعد، والذي يؤمن بظهوره جميع طوائف الأمة الإسلامية من مناظير أو رؤى مختلفة.

إن الرفاعي، والبدوي، والأنصاري، أعلنوا كأقطاب بعد وفاتهم وليس في حياتهم. ومن غير الوارد أن يعلن أحد كبار الصوفية أنه قطب الزمان بشكل علني وواضح في الزمن الممتد إلى عهد المهدي المنتظر.

وعلى الرغم من التقارب الظاهر بين الصوفية (السنة) والشيعة أو(صوفية الشيعة)، حيث يغلب على الجميع الإيمان بنظرية الظاهر والباطن، والشريعة والحقيقة، فإنهم يختلفون في الكثير من المسائل. فالشيعة لا يعترفون بقطبية الجيلاني، ولا الرفاعي، ولا الأنصاري ولا غيره.

وتعود جذور اللقاء بين الصوفية والشيعة إلى ابن عربي المثير للجدل، الذي انقسمت الأمة حوله، فابن عربي التقى أحد مشايخ الشيعة في عصره، وهو الشيخ حيدر العاملي للتصالح بين الفريقين، واتفقا على أنهما «يتحدثان عن الشيء نفسه بطرق مختلفة أو مصطلحات مختلفة»، وهي عبارة حمالة أوجه، يمكن فهمها على محمل الاتفاق، كما يمكن فهمها على محمل النفي، والإصرار على طريق واحد للوصول. فالشيعة يعتقدون بأن قطب الزمان يجب أن يربطه رابط دموي بآل البيت، بينما يعتقد السنة بأن قطب الزمان يمكن أن يصل إلى هذه المرتبة بجدارة العمل والسعي، إذ إن التقوى كسب وتوفيق من رب العالمين، ولا تورث ولا تتوارث.

ينفي الصوفية في البلقان أي تأثير عقدي للتشيع على نشاطهم، كما ينفون أي حلقات مشتركة بين الطرق الصوفية، فضلا عن الشيعة. حتى العدد القليل من المتشيعين يعتبرون منقطعين عن الفعاليات الدينية، وفي الوقت الذي تسعى فيه الصوفية لملء المساجد، فإن التشيع يعمل على إفراغها، فالذي يتشيع لا يذهب إلى المسجد، لعدم وجود مسجد خاص بالشيعة، أو يركن إلى البطالة الروحية ولا سيما الصلوات الخمس في المساجد السنية في انتظار المهدي.

وما يختلف فيه الصوفية عن الشيعة هو حبهم للصحابة كحبهم لآل البيت، والرسول - صلى الله عليه وسلم. وبعضهم يرفع شعار «يزيد ولا تزيد»، أي أن الصحابة خط أحمر. ولا يرون أي تناقض بين حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وآل البيت، عليهم السلام، وحب الصحابة، رضي الله عنهم.

ويزور مشايخ الطرق الصوفية بعضهم بعضا في مختلف أنحاء العالم، كما تزور مجموعات منهم الطرق الصوفية في دول أخرى، وهو ما يسمونه «التجاذب الروحي».

ومن الظواهر المعروفة في العالم الصوفي، وراثة الابن المشيخة عن والده، لكن الصوفية يؤكدون أن ذلك ليس شرطا. فوراثة المرتبة لا علاقة لها بالتوريث وإنما بالاستحقاق، فـ«وراثة أبناء حاجي ميليتش للمشيخة نابعة من قدرات ذاتية للأبناء، قدرات مكتسبة صقلت على يد الآباء، وكان هناك مشايخ مجددون لم يورثوا المشيخة لأبنائهم، مثل المجدد الصوفي البلقاني، حسين بابا زوكيتش، وأخذ مكانه حضرة سيدي بابا، أما الشيخ محمد ميلي (مؤسس النقشبندية في غرب البلقان)، فقد جاء من سورية، مرورا بتركيا، وفي القرن الثامن عشر خلف ثلاثة مشايخ بعضهم ولم يكن بينهم رابط أسري».

ويجتمع المريدون في بعض الأحيان من مختلف الطرق الصوفية، ويرددون أذكار الطريقة المضيفة لا غيرها، احتراما لخصوصيتها. ويدافع الصوفية عن الأذكار التي أعدها مشايخهم، «لأن الالتزام بدعاء ليس من الأمور الوقفية»، ما لم تكن شركا، ويقولون إن الصحابة والتابعين كانت لهم أدعية ليست مأخوذة من القرآن والسنة. ويتبع الصوفية في البلقان العقيدة الماتردية، والمذهب الحنفي في الفقه. ومن المآخذ على بعض الطرق الصوفية، عدم الاهتمام بالأمور العقائدية والفقه، وهو ما جعل الكثير من الاعتقادات رهنا بما يبثه الشيخ بين مريديه، بما في ذلك الأدعية.