تأثيرات السياسات الثقافية على الموقف من الإسلام

رضوان السيد

TT

قال صحافي فرنسي، مؤيد للرئيس ساركوزي، إنه ارتاع من موقف غالبية فرنسية من الغجر والمسلمين. وقد تأخر كثيرا حتى نزل به الروع! فقد بدأ الرئيس الحالي عام 2007، وكان وقتها وزيرا للداخلية، حملة من أجل إعادة تحديد «الهوية الوطنية الفرنسية»! وكان وقتها يخوض معركته للوصول إلى الرئاسة، ورأى أن «التمايز» عن الجاليات ذات الأصول الإسلامية، حري أن يكسبه شعبية بين العامة، كما سبق أن جرب في حياته السياسية. وقد صار للهجرة والهوية الوطنية وزير دائم في الحكومة، وقد كان ضمن الذين قادوا الحملتين الأخيرتين لمنع النقاب من جهة، ولسحب الجنسية الفرنسية من «الفرنسيين الجدد» الذين يعتدون على أحد رموز الأمن والدولة من جهة أخرى. وما أقصده من البدء بهذه الأمثلة عن فرنسا أن السياسيين الأوروبيين، في العقدين الأخيرين، ازداد خضوعهم لبعض الاتجاهات الشعبوية رجاء الحصول على المزيد من الأصوات من جهة، ولأنهم، من جهة أخرى، يريدون أخذ الريح من أشرعة اليمين المتشدد كما يزعمون. لكنك لا تستطيع كسب العامة الشعبوية إلى جانبك، إلا إذا نافست زعماءها المتشددين والعنصريين في الأطروحات التي اعتادوا عليها، والتي كانت تتركز على اليهود والغجر، وتتركز الآن على العرب والمسلمين. فإذا استغربت بعد ذلك انتشار التوجهات الرافضة «للغريب»، المسلم أو الغجري، فإنك إما أن تكون تاجر كلام وإما أن تكون ساذجا، والغالب الأمر الأول.

والواقع أن الظاهرة الفرنسية المتمثلة في اجتراح سياسات ثقافية وقانونية ضد «الإسلام الأصولي» ما عادت مقصورة على فرنسا، ولا هي بدأت فيها. وأيا ما تكن مواطن بدئها؛ فإنها صارت ظاهرة عامة، الجديد فيها أن سياسيي الوسط وليس اليمين فقط ما عادوا يخجلون في تبنيها والدفاع عنها. وقد بدأت مرحلتها الحاضرة في التسعينات، وبلغت الذروة في هجمات القاعدة بالولايات المتحدة وبالعالم. وقد قيل وقتها: إن المراد مكافحة العنف، والقيام بإجراءات احترازية أمنية وقانونية. ومن طريق ذلك صار كل عربي ومسلم مشتبها به إلى أن يستطيع إثبات براءته، وقد جرى هذا الأمر في بلدان أوروبية عريقة في حكم القانون، مثل بريطانيا وألمانيا. ومع ذلك فإن المسألة ما وقفت عند حدود الأمن والقانون لمكافحة العنف؛ بل تعدت ذلك سريعا إلى «المسائل الثقافية» بالتعبير الغربي. فقد صار شكل المسلم الملتحي مزعجا، وكذلك المرأة التي تضع غطاء للرأس. وصار يقال، كما كان يقال عن الأفارقة في السبعينات من القرن الماضي: إن هؤلاء يقيمون في غيتوات، ولا يشتغلون، ويعيشون على أموال الدعم من البطالة والضمان الاجتماعي. وتجاوز الأمر ذلك سريعا أيضا للقول: إن المشكلة الرئيسية حاصلة في «الثقافة» إذا صح التعبير. فهؤلاء المسلمون غرباء عن الثقافة المسيحية العريقة لأوروبا تارة، أو عن الثقافة العلمانية الفاصلة بين الدين والدولة تارة أخرى، أو عن ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان! بيد أن القائلين بذلك، حتى من رجالات الدولة، والنموذج على ذلك التدخل في مسألة اللباس، وهو حق فردي، والأفظع التفرقة في التعامل أمام القضاء. فلو أن فرنسيا «عريقا» قتل شرطيا، فإنه سوف يعاقب بعقوبة مختلفة عن تلك التي يعاقبها شخص «غير عريق»، أي لم يمض على حصوله على الجنسية الفرنسية أكثر من عشر سنوات! ويحصل هذا ثم يستغرب السياسيون، أو يظهرون الاستغراب، من بعض ظواهر «التمييز» لدى العامة والجمهور! والمشكلة هنا لا تقتصر على أطروحات ونزعات ساندها السياسيون للحصول على أصوات، بل إن الأطروحات «الثقافية» والدينية هذه آتية في الغالب من أطراف في النخبة، يدخل البابا الحالي في عدادها. فعندما كان مطرانا في ميونيخ كان غطاء الرأس لدى نساء العمال الأتراك يزعجه. وقد تطور الأمر لديه إلى فهم معين لعلائق الإسلام بالعقل والإيمان كما هو معروف من محاضرته بجامعة رغنسبورغ عام 2006. ثم إنه خشية التأثير السلبي على هوية أوروبا المسيحية، عارض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد عاد قبل سنتين لتأييد ذلك الدخول، إنما هذا لم يعد مؤثرا؛ لأن كل الدول الأوروبية، ربما باستثناء إسبانيا، صارت تعارض ذاك الدخول! وقد تنبه إلى علائق أو ترابط التوجه الثقافي بالتوجه السياسي أناس عاملون في الاقتصاد، مثل بول كروغمان وأمارتيا سن (الحاصلين على جائزة نوبل). فقد نبها إلى أن كثرة من الذين أيدوا هنتنغتون في أطروحته في «صدام الحضارات»، حتى الليبراليون المعروفون منهم، كانوا بين المتحمسين لغزو العراق. وعندما تعاظم «التمرد» بالعراق، خرج علينا وزير الدفاع السابق رامسفيلد بأطروحة «حرب الأفكار»، إلى جانب الغزو العسكري. ومع أن دعاة هاتين الحربين ظلوا يفرقون أحيانا بين الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف، لكن ظهر فريق ما عاد يخشى التصريح بأن الإسلام تجاه العنف واحد في كل الأحوال! ولا حاجة لذكر أمثلة أخرى؛ فالثقافة المدعاة صارت تتحول إلى قانون كما حدث في البرلمان البلجيكي، الذي لا تتفق فرقه منذ عشر سنوات على تشكيل حكومة، بيد أنها اتفقت على منع البرقع. والسويسريون الذين تحتاج استفتاءاتهم لكي تحصل إلى عشرات السنين، تمكنوا خلال أقل من عام من إجراء استفتاء على بناء المآذن، حصل فيه دعاة المنع على 59% من أصوات المشاركين في الاستفتاء. وكان آخر مواويل التمييز ضد المسلمين في ألمانيا كتاب ساراتسين، أحد الإداريين ورجال الأعمال والمال، والذي حذر فيه من أن «التفوق» الألماني، سيتعرض لانتكاسة خلال عقدين، بسبب تكاثر المسلمين من ذوي العقول والمواهب البدائية، وغربتهم عن عبقرية العقل الألماني وانفتاحه! وكانت المستشارة الألمانية ميركل بين المستنكرين لأطروحات الكتاب، لكنها ما جرؤت على الاستنكار والتوقف عند ذلك؛ لأن هذا هو الموضوع المطروح، بل أضافت لذلك القول إنها تستنكر أيضا الأصولية والانغلاق الإسلامي! وعندما تعرض التفاوض «غير المباشر» بين الفلسطينيين والإسرائيليين لأزمة، استعان الأميركيون بالأوروبيين لمعاونتهم في إقناع الإسرائيليين والفلسطينيين بالتحول إلى التفاوض المباشر. وهكذا جاء إلى المنطقة الفرنسيون والإسبان والإيطاليون... إلخ. وقد لاحظنا أن الموفدين يركزون على الفوائد المادية التي يمكن أن تحصل عليها السلطة الفلسطينية إن اندفعت في التفاوض من دون شروط. فخطر لأحد المستمعين سؤال رئيس أحد الوفود عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وعن «المرجعية» في التفاوض (حدود العام 1967)، وأبدى الموفد استغرابه من الاهتمام بهذه الأمور النظرية، والتي لم تعد تحظى بشعبية بين النخب والجماهير في أوروبا، بسبب «العنف والإرهاب»، والحساسيات ضد المسلمين بالغرب نتيجة إصرارهم على «خصوصياتهم» الثقافية والدينية، والتي لا تتلاءم مع الثقافة الأوروبية العامة! لقد قامت الثقافة المدنية والسياسية الأوروبية على عالمية القيم الإنسانية، وأن حقوق الإنسان الأساسية هي «حقوق طبيعية» لكل كائن بشري. وهناك منذ بعض الوقت توجهات خصوصية وثقافية جارفة في أوروبا، وصحوات دينية لا تقتصر على الإسلام. وقد غاب رجال الدولة الكبار الذين يتجاوزون لاعتبارات كبرى الموضات الثقافية والإعلامية العارضة، والخصوصيات الفرعية. وأقبل السياسيون على دغدغة مشاعر فئات من الجمهور تملأها الخشية من «الكثرة الإسلامية». وقد بدأت آثار ذلك في مجالات متعددة، ليس أقلها شأنا المجال الدستوري والقانوني. وهذا أمر في منتهى الخطورة.

لقد كان هناك رد معتدل على هذا الهياج الأوروبي والأميركي، قال به طارق رمضان، المفكر المعروف، وأوغلي، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، اللذان رأيا أن العلاج لا يكون إلا بالمسايسة والانفتاح والتزام الأعراف والقوانين حتى في بناء المركز الإسلامي على مقربة من «غراوند زيرو». وقد شنت عليهما حملات شعواء من جانب اليمين الغربي، لكنه أفق يبدو أنه لا بديل عنه في العلاقات بين الأمم والحضارات في المديات المتطاولة «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».