التأصيل المقاصدي للوسطية: ابن عاشور نموذجا

الصحبي بن مسعود*

TT

كثر الحديث عن الوسطية، وأصبح لها رواج في الساحة الفكرية، وقد توسع نطاق استعمال هذا المصطلح حتى غدا فضفاضا ضبابيا ومَرْكبا لكل تيار، حتى لأولئك المتحللين من نصوص الشريعة المروجين للغثاء المستحدث، الذين جعلوا من الوسطية ستارا لمواجهة أصول الإسلام ودعاته، وربما توظف الوسطية لشرعنة العلمانية وتبرير الانحراف والتسيب باسم الاعتدال والتسامح - وهما جوهر الوسطية - وكأن الإسلام لا يحمل ثوابت ولا يملك تخوما.

* مسألة التأصيل الشرعي بين الفكر التقليدي وسطوة الحداثة التأصيل هو بحث في كل مسألة عن أصل شرعي لها من خلال النصوص أو السيرة النبوية أو التجربة الراشدة أو في أقوال علماء الأمة المشهود لهم بالعلم والالتزام الأخلاقي. وهذه المرجعية تمثل إطارا يحكم سياق الموقف بحثا عن وجود شرعية في جذور «الأصول» تؤسس أو تشرع لهذا المسلك أو الموقف أو الرأي. فالتأصيل في تعريف الدكتور عبد المجيد النجار يعني «أن يكون كل ما يصدر عن العقل من رؤى وأفكار ذات طبيعة نظرية أو ذات بعد عملي موافقا للأصول الدينية، بل نابعا عنها، إما بصفة مباشرة أو غير مباشرة». فالتأصيل هو الانسجام مع الإطار التشريعي الصادر عن مصادر الوحي الكريم، والبحث في كل مسألة عن حكم نابع من هذه المنظومة، وغير خارج عن حدود الشريعة، وبالبحث في «الأصول» و«المرجعية» ينتهي الأمر إلى:

- البحث في القياس عن علل فرعية.

- البحث في فهم الدلالات الالتزامية منطوقا ومفهوما، وهو بحث في مسالك استثمار النص وجدلية العلاقة بين حركات الألفاظ ومنطق المعاني والتأويل.

- البحث في «المقاصد القريبة» بتعبير العلامة محمد الطاهر بن عاشور، وهي الكليات الخمس مع تفعيلها وتوسيعها.

- البحث في «المقاصد العالية»، وهي الموازنات بين المصالح والمفاسد، وهذا في مجال المسكوت عنه أو الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا نظير يقاس عليه. وهذه كلها طرق لاستمداد الحكم التفصيلي الذي يتعلق بكل فعل.

واليوم، تطرح قضايا معاصرة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والطب من واقع التشابك بين الفكر التقليدي والفكر الحداثي الذي يخترق الأمة ويضغط عليها بسطوة القوة التكنولوجية والإعلامية والمالية والعلمية والعسكرية في زمن النظام العالمي الجديد، ليجعل الأمة وطلائعها (حركات وأحزابا وعلماء ومثقفين) بين «مسايرة الواقع الضاغط وهمّ الحفاظ على الهوية كما تتجلى في النص». وأمام سطوة هذه الحداثة واستحقاق الواقع الضاغط يصبح التأصيل عملا صعبا لأنه يلاحق الواقع المتغير، وهذا الواقع أنتجت أغلب مفاهيمه في حقل حضاري مرجعيته غربية، لذلك يغدو التأصيل عملية معقدة للبحث عن حكم لكل عمل في النصوص الدينية والتراث الفقهي والتاريخ الإسلامي، أو بالبحث عن أفق للتجديد والاجتهاد جمعا بين ثوابت النصوص ورعاية مقاصد الشريعة وتحقيق مصالح الأمة بعيدا عن التبسيط القائم على الترقيعات والاستعارات من الفكر الغربي ونقلها إلى الفكر الإسلامي وعزلها عن سياق نشأتها وفضائها الثقافي والحضاري وأرضيتها الاجتماعية والتاريخية التي أفرزتها كالديمقراطية والتعددية والتداول على السلطة والمواطنة وحقوق الإنسان.

> التأصيل المقاصدي للوسطية: ابن عاشور نموذجا لا يمكن بحال إغفال العلامة محمد الطاهر بن عاشور في التأصيل المقاصدي، فهو صاحب التجديد في المقاصد بعد الإمام الشاطبي، وصاحب قواعد جليلة في الفكر المقاصدي، ورائد في الفكر الترتيبي والتركيبي المنظم للاجتهاد، وكان رحمه الله إماما كبيرا في الفكر الوسطي، إلا أنه لم يلق حظه كما قال الشيخ محمد الغزالي رحمه الله. والعلامة ابن عاشور يطرح اصطلاح «السماحة» للتعبير عن الوسطية، ويعتبر مراعاة الفطرة من حكمة السماحة لميل الإنسان بفطرته لليسر والرفق.

الفطرة والسماحة: السماحة هي سهولة المعاملة في اعتدال، فهي وسط بين التضييق والتساهل، وهي راجعة إلى معنى الاعتدال والعدل والتوسط، ذلك المعنى الذي نوه به أساطين حكمائنا الذين عنوا بتوصيف أحوال النفوس والعقول، فاضلها ودنيها، وانتساب بعضها من بعض، فقد اتفقوا على أن قوام الصفات الفاضلة هو الاعتدال، أي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط؛ لأن ذينك الطرفين يدعو إليهما الهوى الذي حذرنا الله منه في مواضع كثيرة، منها قوله تعالى «ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله» (سورة ص/26) فالتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط هو منبع الكمالات، وقد قال تعالى في وصف الأمة أو وصف صدرها «وكذلك جعلناكم أمة وسطا»، وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الآية «إن الوسط هو العدل»، أي بين طرفي الإفراط والتفريط.. وبه فسر قوله تعالى «قال أوسطهم» أي أعلمهم وأعدلهم، وقد شاع هذا المعنى في الوسط.

فالسماحة عند ابن عاشور «السهولة المحمودة في ما يظن الناس التشديد فيه، ومعنى كونها محمودة أنها لا تفضي إلى ضر أو فساد»، ووصف الإسلام بالسماحة ثبت بأدلة القرآن والسنة، فقد قال تعالى «يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر» (البقرة/185) وقال «وما جعل عليكم في الدين من حرج» (الحج/78)، وقال عليه الصلاة والسلام «أحب الدين إلى الله الحنفية السمحة» (البخاري). وقال الإمام الشاطبي «إن الأدلة على رفع الحرج عن هذه الأمة بلغت مبلغ القطع» (الموافقات). يقول ابن عاشور «لقد ظهر للسماحة أثر عظيم في انتشار الشريعة وطول دوامها، فعلم أن اليسر من الفطرة لأن من فطرة الناس حب الرفق، لذلك كره الله من المشركين تغيير خلق الله فأسنده إلى الشيطان إذ قال عنه (ولآمرنّهم فليبتكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله)/ (النساء/119)». يقول ابن عاشور «إن حكمة السماحة في الشريعة أن الله جعل في هذه الشريعة دين الفطرة، وأُمور الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة: النفور من الشدة والإعنات، قال تعالى (يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)/ (النساء/28)، وقد أراد الله تعالى أن تكون شريعة الإسلام شريعة عامة ودائمة، فاقتضى ذلك أن يكون تنفيذها بين الأمة سهلا، ولا يكون ذلك إلا إذا انتفى الإعنات». وهكذا ربط الإمام ابن عاشور السماحة بالفطرة التي اعتبرها أصل المقاصد، ووصف الشريعة الأعظم، بل يرى أن «جميع أصول الإسلام وقواعده تنفجر من ينبوع معنى الفطرة». ويعني وصف الإسلام بأنه فطرة الله أن «الأصول التي جاء بها الإسلام هي من الفطرة، ثم تتبعها أصول وفروع هي من الفضائل الذائعة المقبولة، فجاء بها الإسلام وحرض عليها إذ هي من العادات المتأصلة في البشر والناشئة عن مقاصد من الخير سالمة من الضرر راجعة إلى أصول الفطرة» (ابن عاشور، المقاصد). والفطرة عنده هي «الخلقة، أي النظام الذي أوجده الله في كل مخلوق، ففطرة الإنسان هي ما فطر عليه أي خلق عليه الإنسان ظاهرا وباطنا، أي جسدا وعقلا. فمشي الإنسان برجليه فطرة جسدية، ومحاولة أن يتناول الأشياء برجليه خلاف الفطرة، واستنتاج المسببات من أسبابها والنتائج من مقدماتها فطرة عقلية، واستنتاج الشيء من غير سببه المسمى في علم الاستدلال بفساد الوضع خلاف الفطرة العقلية». فالشريعة الإسلامية تدعو إلى تقويم الفطرة والحفاظ على أعمالها، وإحياء ما اندثر منها، وتخليصها من الشوائب التي اختلطت بها. لذلك يقول ابن عاشور «ونحن إذا أجدنا النظر في المقصد العام من التشريع نجده لا يعدو أن يساير الفطرة والحذر من خرقها واختلالها»، بل يذهب ابن عاشور إلى اعتبار الفطرة مدار الأحكام الشرعية، فما أفضى إلى خرق كبير في الفطرة يعد ممنوعا (المحرم)، وما أفضى إلى حفظ كيانها يعد واجبا (الواجب)، وما كان بين ذلك فهو منهي عنه أو مطلوب (المندوب والمكروه)، وما لا يمسها يعد مباحا (المباح). ولا يرى ابن عاشور مانعا من الاستفادة من الآخر، فالحضارة عنده من الفطرة لأنها من آثار حركة العقل الذي هو من الفطرة، وأنواع المعارف الصالحة تدخل في الفطرة لأنها نشأت من تلاقح العقول وتفاوضها. وفي هذا المعنى الذي ذكره ابن عاشور تندرج كل المكتسبات البشرية الصالحة لأن الحقيقة ضالة المؤمن والحقائق من الفطرة أيضا.

الضرورة العامة المؤقتة/ المصلحة العامة كالضرورة الخاصة:

يرى ابن عاشور أن من مقاصد الشريعة أن تنفذ في الواقع وتحترم وتمتثل لها الأمة، والشريعة تسلك لتحقيق ذلك مسلكين:

- مسلك الحزم في إقامة الشريعة «تلك حدود الله فلا تعتدوها» (البقرة/229)، وقال عليه الصلاة والسلام: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» (البخاري).

- مسلك التيسير، ويرى ابن عاشور أن فطرية الشريعة تعني أن أحكامها مبنية على التيسير، كما «أنها تعمد إلى تغيير الحكم الشرعي من صعوبة إلى سهولة في الأحوال العارضة للأمة أو الأفراد».. «وما جعل عليكم في الدين من حرج»، «إلا ما اضطررتم إليه»، ومن هنا جاءت قواعد «رفع الحرج» و«المشقة تجلب التيسير»، وكذلك تشريع الرخصة. يقول الإمام ابن عاشور «وقد حافظ الإسلام على استدامة وصف السماحة لأحكامه فقدر لها أنها إن عرض لها من العوارض الزمنية أو الحالية ما يصبرها مشتملة على شدة انفتح لها باب الرخصة». وقد اعتبر ابن عاشور أن «الفقهاء لا يمثلون إلا بالرخصة العارضة للأفراد في أحوال الاضطرار» وفي هذا الإطار يقسم ابن عاشور الضرورة إلى ثلاثة أنواع:

- ضرورة عامة مطردة كانت سبب تشريع عام كالسلم والمساقاة والمزارعة «فكان حكمها حكم المباح باطراد».

- ضرورة خاصة مؤقتة تدخل تحت ما جاء به القرآن والسنة.. ويقول «قد اقتصر الفقهاء عليها في تمثيل الرخصة».

- ضرورة عامة مؤقتة «وذلك أن يعرض الاضطرار للأمة أو طائفة عظيمة منها تستدعي إباحة الفعل الممنوع لتحقيق مقصد شرعي.. ولا شك أن اعتبار هذه الضرورة عند حلولها أولى وأجدر من اعتبار الضرورة الخاصة»، وهذا النوع مغفول عنه لغلبة النظرة الفردية والتجزيئية والغفلة عن خطاب الأمة في منهج الاستنباط الأصولي. بل يرى أنه قد يطرأ من الضرورات ما هو أشد من ذلك، فالواجب رعيه وإعطاؤه ما يناسبه من الأحكام، مستدلا بقول الإمام العز بن عبد السلام الذي يرى أن «المصلحة العامة كالضرورة الخاصة»، وهذه المقولة يمكن أن تفتح للمسلمين أبوابا واسعة من الاجتهاد خاصة في مجال السياسة الشرعية.

يقول الونشريسي «الصواب غير منحصر في العزيمة، وإن كان الأفضل الأخذ بالعزيمة تورعا واحتياطا واجتنابا لمظان الريب والتهم».

* كاتب وباحث من تونس