حاجة الأزهر إلى الإصلاح والتجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

«كنت أزهريا فرزقني الله التوبة»!.. ما زلت أتندر حتى الآن مع بعض أصدقائي بهذه الجملة، وكذلك يفعلون، خاصة حين يتطرق حديثنا إلى معارك الإصلاح والتجديد في الأزهر. فقد نشأتُ في بيئة دينية، حيث كان والدي، رحمه الله، شيخا لإحدى الطرق الصوفية، في الوقت عينه الذي كان يعمل فيه مقيما للشعائر في وزارة الأوقاف المصرية. وعلى الرغم من أنني التحقت بالتعليم المدني حتى انتهيت من المرحلة الابتدائية؛ فإنني انتقلت ابتداء من المرحلة الإعدادية للتعليم الأزهري إلى أن تخرجت في الجامعة الأزهرية.

ولا أزال أتذكر حتى الساعة أيام نشأتي الأولى، قبل التحاقي بجامعة الأزهر في القاهرة، حين كنت أطالع بنهم بالغ كتابات شيوخ الأزهر المستنيرين أمثال: حسن العطار (توفي 1834)، ومصطفى المراغي (توفي 1945)، ومصطفى عبد الرازق (توفي 1947)، وغيرهم ممن يجمعون في كتاباتهم بين الأصالة والمعاصرة، ويؤمنون بالنقل والعقل في آن معا. طالعت، على سبيل المثال، تقديم مصطفى عبد الرازق، شيخ الجامع الأزهر، مسرحية «أهل الكهف» لتوفيق الحكيم، واستغربت حينها لهذا الشيخ الجليل الذي علمت في ما بعد أنه كان عضوا في لجنة قراءة النصوص في مجلس إدارة «الفرقة القومية»، وأنه كان من المترددين على دار الأوبرا المصرية وعلى الحفلات التمثيلية، وأنه كان يرى فيها وسيلة من وسائل ترقية الذوق وتنبيه الإحساس، بل كان يقول: إن مجال التمثيل من مقاييس الرأي العام! على أنني، في ما يبدو، قد أخذ مني الخيال كل مأخذ، فتخيلتُ - سامح الله شيطان خيالي - أنني حين أذهب إلى الجامعة الأزهرية سأنال شرف التلمذة على يد تلامذة هؤلاء الأعلام الأفذاذ، فإذا بي أصطدم بمناخ علمي باهت، ومستوى تعليمي هابط، مما أصابني بيأس كظيم على شبابي الذي ضاع هدرا في حفظ المتون بلا مقابل! ورحت أنظر - كما نظر الشيخ مصطفى عبد الرازق من قبل - «في أمري بعدما قضيت ما قضيت في الجامع الأزهر، وأضعت ما أضعت من صحتي وشبابي في طلب العلم، فلم أجد ثمنا لما بذلت إلا حشدا من الصور والخيالات لا يضيء البصيرة، ولا يبعث العزيمة، ولا يُعِد للسعادة في الحياة الدنيا ولا في الآخرة»! في تلك الأثناء؛ كان استبداد الشيوخ/ الأساتذة بالطلبة يبلغ مداه، لدرجة أن أحد شيوخي قام بطردي من محاضرته، لأنني تجرأت وناقشته في مسألة تتعلق بعبقريات العقاد. فبحسب الشيخ، أخطأ العقاد خطأ جسيما حين استخدم منهج التحليل النفسي في تشخيص الرسول (صلى الله عليه وسلم) وصحابته الكرام، لكنني دافعت عن العقاد حينها قائلا «شخصيا أعتقد أن العقاد كان على صواب؛ فكأنه بكتاباته تلك يوجه رسالة إلى الغربيين مفادها: إذا كنتم لا تؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، كنبي، فهذا محمد - وفقا لمنهجكم العلمي الذي تؤمنون به - إنسان في أعلى درجات الإنسانية»!.. فما كان من أستاذي سوى أن سخر مني قائلا «اقعد يا شاطر»!.. وطبعا لم «أقعد»، وإنما غادرت القاعة، فحرمني من الاستفادة من علمه ومعرفته! لكن ذلك لم يكن الجانب الوحيد الذي لفت انتباهي في العملية التعليمية الأزهرية؛ وإن بقي على حاله حتى اليوم، وإنما كان ثمة أمر آخر على درجة كبيرة من الخطورة والأهمية، ألا وهو: عدم تحديد، أو وضوح «البنية المفاهيمية في الدرس الفلسفي». فعلى سبيل المثال، كان شيخنا الجليل يدرّس مادته تحت عنوان «الاستشراق والتبشير»! وهكذا ليس ثمة سبيل للاعتراف بعظيم جهد لأحد المستشرقين ما دام نُظر إليه من زاوية التبشير! كما كان أستاذ الإعلام يُعرّف الشيوعية بأنها عين الإمبريالية، والماركسية، والاشتراكية.. إلخ! فيما كان البعض الآخر لا يتورع - دون أدنى سبب ظاهر أو مباشر في أغلب الأحوال - عن اتهام الآخرين بالزندقة والمروق والهرطقة تارة، والعلمنة والتغريب تارة أخرى!.. من دون أن يوضح المقصود بمعنى العلمنة سوى أنها تعني فصل الدين عن الدولة! الغريب في الأمر، أن ثمة ملمحا بارزا ظل مرتبطا بأطروحات الماجستير والدكتوراه في الجامعة الأزهرية منذ نشأتها حتى الآن يتمحور في مظهرين رئيسيين: أولهما، وهو خاص بالناحية الشكلية، يتعلق بحجم تلك الأطروحات التي يفترض أنها علمية، حيث تقارب الألف صفحة في كثير من الأحيان! فقد أتيح لي في أكثر من مناسبة أن أطلع على عينة من هذه الأطروحات، ولفتت انتباهي أمور عدة؛ في مقدمتها: ضخامة حجمها الذي لا يتناسب بالمناسبة في كثير من الأحيان مع ضحالة الموضوع!.. وندرة الجانب الإبداعي فيها، حيث تغلب عليها كثرة الاقتباسات لدرجة يشبهها معها البعض بأطروحات «القص» و«النسخ»! ونتيجة لذلك؛ يُطالب بعضُ المناقشين الباحثَ بحذف فصول كاملة ليست ذات أهمية في سياق أطروحته، لكن ذلك لا يمنع بطبيعة الحال من حصول الباحث على درجته بتقدير مرتبة الشرف الأولى! أما الجانب الثاني فيتعلق بطبيعة الموضوعات أو الأطروحات ذاتها، حيث يغلب عليها في كثير من الأحيان الانشغال بمسائل بعيدة كل البعد عن الواقع المعيش، فضلا عن عدم تحديد إطار تاريخي أو جغرافي لها. فعلى سبيل المثال تحظى مسألة الحكم على توجهات الآخرين بنصيب وافر من العناوين، لدرجة أنني التقيت زميلا لي يعد أطروحة دكتوراه في «نقد العلمانية عند فؤاد زكريا»! ومرة أخرى التقيت باحثة كان عنوان أطروحتها - على ما أذكر - «الاستشراق والقرآن»، ولم أملك حينها سوى أن أسألها: أي استشراق تقصدين؟ وفي أي حقبة زمنية؟ وأي فرع من فروع «علوم القرآن» تناوله هذا الاتجاه، أو تلك المدرسة من اتجاهات ومدارس الاستشراق؟.. فإذا بها لا تملك جوابا! واليوم، وقد مضى على تخرجي في الأزهر قرابة اثني عشر عاما، لا أزال أحمل بين جوانبي همّا كبيرا، وأنا ألاحظ حجم التردي الذي بلغته العملية التعليمية فيه، لدرجة بتّ أتحسر معها على أيامي الماضية فيه!.. فهل ينهض شيخ الأزهر الجديد الأستاذ الدكتور أحمد الطيب بعبء استكمال مسيرة الإصلاح والتجديد في الأزهر: جامعا وجامعة.. والتي بلغت ذروة نضجها على يد الأستاذ الإمام محمد عبده (توفي 1905)؟ وهل يعيد إلى الأذهان، مرة أخرى، سيرة المصلحين المجددين أمثال: الشيخ المراغي، ومصطفى عبد الرازق وغيرهما، ليتبوأ الأزهر مكانه اللائق به، وبما يتناسب مع مكانته وتاريخه العريقين؟ في اعتقادي أن ذلك يبقى إلى حد بعيد رهنا بوفاء شيخ الأزهر الجديد لخط الإصلاح والتجديد من جهة، واستقلال المؤسسة الأزهرية من جهة أخرى.

* أكاديمي وباحث مصري