يوم زرتُ ليبيا

د. عائض القرني

TT

سعدت بإجابة دعوة كريمة من مؤسسة «واعتصموا» لحفظ كتاب الله بليبيا في رمضان الماضي، وقد حضر الحفل ممثلو أكثر من اثنتين وستين دولة ممن يحفظ كتاب الله من النساء فضلا عن الرجال، وعند ليبيا مشروع مليون حافظ وحافظة لكتاب الله، وقد وجدتُ أنا وإخواني الدعاة ما أبهج خواطرنا وشرح صدورنا من إقبال عجيب على كتاب الله، وكنا في هذه الزيارة بمعية الدكتور علي بن محمد الصلابي، المفسر والمؤرخ الليبي، ووجدنا من حضور الناس في المساجد والأندية ما فاق الوصف، وأكد لنا القناعة بأن الشعوب لا تريد إلا الإسلام عقيدة وعبادة ومنهج حياة، نحضر الدرس بعد العصر والناس صائمون في رمضان، ونأتي إلى الجامع فإذا الناس وقوف على الأبواب وفي السكك، فضلا عن داخل الجامع، يحتفون بالزائر، يحرصون على الفائدة والحوار والمناقشة. وقد أسلم في حفل توزيع جوائز القرآن ما يقارب العشر من النساء من بلدان شتى، كل واحدة رفعت صوتها في الحفل تقول: «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله». وصادف في طرابلس العاصمة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، وهو ذكرى تاريخ غزوة بدر تماما، فجعلت الخطبة معركة بدر الخالدة، والحديث عن ذلك اليوم المشهود، وانتصار رسولنا - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين على عبدة الأصنام، وحصول الفتح المبين، والفوز العظيم، وقيام دولة الإسلام، وحيينا أحفاد المجاهد الشهيد عمر المختار. وكان معي من الدول العربية طائفة من الدعاة والعلماء، كلٌّ يصف لنا إقبال الناس وحضورهم وازدحامهم، ثم انتقلنا إلى مدينة بنغازي، مدينة الصمود والجهاد والاستبسال في وجه المستعمر الإيطالي، وكانت بلدة القائد الكبير عمر المختار قريبة منها، فاستقبلنا الشيوخ والشباب في المطار، أخرجوا لنا عند سلم الطائرة ثلة من الأطفال ينشدون ويرحبون ويرفعون العلم، ثم خرج منهم طفلان ذكيان جريئان، أحدهما ألقى قصيدة مرتجلة يحفظها حفظا ويلقيها بشجاعة مع كثرة الحضور، والثاني ألقى خطبة ترحيبية حفظها حفظا ثم ألقاها في حماس وثبات، فسلّمنا ورحبوا، وحيينا وعانقوا، وأجبناهم بأبيات وكلمات طيبات، وتحايا زاكيات عاطرات، وبنغازي هي مدينة أخينا الدكتور علي الصلابي، وكان الإفطار مع الغروب في بيت أحد الوجهاء ببنغازي، فجعلها ضيافة حاتمية، وفتح أبوابه ومجالسه وحديقته للضيوف والجيران، وقدّم لنا سفرة عامرة، ثم أتبعها بحفل مصغر لخطبائهم وشعرائهم، وألبسونا اللباس الليبي الجميل الذي يدل على الرجولة والشهامة، ثم انتقلنا إلى قاعة فينيسيا المشهورة ببنغازي، فما وصلنا إليها إلا بشق الأنفس، ويشهد بذلك إخواني الدعاة الذين حضروا مع ترتيب المرور ورجال الأمن، ثم دخلنا القاعة بين تكبيرهم وترحيبهم، ثم جلسنا، فابتدأ القرآن، ثم قصيدة ترحيبية، ثم أنشودة حماسية تذكرنا بحركة الجهاد والتحرير التي قادها عمر المختار، ثم قام خطيبان فصيحان مصقعان من بنغازي، كلٌّ منهما يلقي فقرة ثم يتلوه الآخر، مرحبين ومكرمين ومحتفين، فما كان مني، لما طُلب مني الحديث، إلا أن قلت لهم: في العادة أنا ألقي المحاضرات والدروس جالسا، ولكن إكراما لكم يا أحفاد عمر المختار سوف أقف ثلاث دقائق بمقطوعة شعرية وكلمة حماسية، ثم كانت المحاضرة، ولم نخرج من القاعة إلا بشق الأنفس من الزحام، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أصالتهم وكرمهم، وحبهم لكل من يحمل لا إله إلا الله، ثم استضافنا أحد وجهائهم بمزرعته الجميلة المنظومة نخلا باسقا وشجرا مثمرا، فجعلوها أمسية شعرية وليلة أدبية، بعدها عدنا إلى حفل الختام في طرابلس الذي أقامته المؤسسة، فكان حفلا بهيجا رائدا وكبيرا، وسمعنا دعوات بعض الحافظات، وحضر البكاء والدموع من الجميع، تأثرا بكتاب الله، فقام الخطباء وتكلموا عن كتاب الله المعجز الخالد، ثم كُرم فضيلة الشيخ الدكتور عمر عبد الكافي باعتباره شخصية العام لمؤسسة «واعتصموا»، وعجبي للإخوة والأخوات في ليبيا من إقبالهم وحرصهم على العمل والمعرفة وحفظ كتاب الله، مع كرمهم وترحيبهم بالزائر، وحفظهم للأخوّة الإسلامية، وحرصهم على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم.

شكرا لأحفاد عمر المختار، شكرا لأتباع النبي الأمي إمام الأبرار، وشكرا لأبناء ليبيا رجالا ونساء، ولن أنسى أن أذكر أن ليبيا تعيش حوارا وانفتاحا ومصالحة وطنية، وقد زرت مع إخواني السجن السياسي بطرابلس، والتقيت أكثر من أربعمائة شاب من سجناء الرأي، وألقيت فيهم محاضرة، وكان عندهم من التقبل وروح الاعتدال وسماع الدليل وقبول المناقشة ما أثلج صدورنا، وقد سبقنا مشروع مصالحة وحوار تبناه الدكتور علي بن محمد الصلابي، وفي اليوم الثاني أفرج عن أربعين سجينا، والبقية في الطريق ليكونوا أعضاء فاعلين نافعين في بلدهم ليبيا.