مشكلة إسلامية في أوروبا أم مشكلة للأوروبيين مع الإسلام؟

رضوان السيد

TT

أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن فكرة وممارسة التنوع والتعدد في ألمانيا فشلت! وهي بذلك ترد على الرئيس الألماني كريستيان فولف، وهو بدوره كان قبل رئاسته عضوا في الحزب الديمقراطي المسيحي الذي تتزعمه ميركل، الذي كان قد أعلن مرارا أنه ليست هناك في ألمانيا مشكلة مع الإسلام، وأن المجتمع الألماني مجتمع تعددي في الثقافة والدين، كما هو في السياسة! والواقع أنه وحتى وقت قريب، كان هناك نوع من التفرقة أو الفصل بين دستور الدولة وقوانينها ومؤسساتها من جهة، وآراء واتجاهات التيارات السياسية، وفي ألمانيا وبريطانيا والدول الإسكندنافية ودول البنلوكس، على الخصوص. إذ كانت الدولة ومؤسساتها تعمل على عناصر وعوامل الاندماج من خلال فكرة المواطنة ومبادئها، وعدم التفرقة بين المواطنين، على أساس الدين أو العرق أو اللون. وعندما ظهرت الاعتداءات الإرهابية أو تهديداتها بعد عام 2001، حدث تطور سلبي في ناحيتين: تشديد قوانين وإجراءات الهجرة، واتخاذ إجراءات بوليسية داخلية لمراقبة حركة الشبان من الجيلين الثاني والثالث؛ خاصة أن اثنين من المشاركين في هجمات «القاعدة» على الولايات المتحدة تعلما في ألمانيا، وانطلقا منها إلى أفغانستان فالولايات المتحدة، وأن شبانا من الجيل الثالث من المهاجرين المسلمين هم الذين صنعوا أحداث القطارات في بريطانيا وإسبانيا عامي 2004 و2005. بيد أن الرئيس الفرنسي جاك شيراك خلط لأول مرة وعلنا بين الدولة ومؤسساتها، ومواقف بعض التيارات السياسية من الإسلام والمسلمين، عندما نصر إقرار قانون في البرلمان الفرنسي، يمنع «الحجاب» - وليس النقاب، فالنقاب ومنعه بالقانون من صناعة ساركوزي الرئيس الحالي - في المدارس. ومنذ ذلك الحين انطلقت موجة من الحملات على «الدين الإسلامي»، وليس على المهاجرين وسوء تصرف بعضهم وحسب، ووصلت إلى سائر أنحاء أوروبا؛ من مثل الصور الكاريكاتورية، ومنع المآذن، وإصدار قوانين لا تمس غير المسلمين ولا تطبق إلا عليهم. فعندما يدعو يميني متطرف مثلا إلى منع المصاحف باعتبارها كتبا شريرة، أو تمزيق ملابس المحجبات، أو إلغاء جنسية من يربون لحاهم بطريقة معينة، يسارع أعضاء في الأحزاب الكبيرة المسيحية أو الاشتراكية إلى منافسة ذلك المتطرف، بحجة أخذ الرياح من أشرعته، وهذا ما يقوله الرئيس ساركوزي أحيانا. أو أن هذا الليبرالي أو ذاك لا يدلي بحجة أو تبرير من أي نوع، وإنما يتوسل بإظهار العداء للإسلام، للحصول على الشعبية. وهذا معناه أن الإسلاموفوبيا صارت داء متوطنا في أوروبا، ويمكن توسلها للنجاح السياسي، كما يحصل في سائر الدول الأوروبية، باستثناء السويد والنمسا حتى الآن! والأخطر من ذلك أن القوانين الأساسية في الدول الأوروبية - وهي مهد فكرتي المواطنة والديمقراطية - يمكن أن تبدل لصالح التمييز بين المواطنين، فما عاد هناك فرق كبير بين الدولة الديمقراطية الأوروبية، والدول الديكتاتورية (في العالم الثالث)، إلا أن التمييز والظلم يجريان في تلك الدول من دون قانون، في حين يمارسان في الدولة الديمقراطية الليبرالية بحكم القانون! ويعتبر تصريح المستشارة الألمانية ميركل أعلى البيانات الألمانية شأنا في السنوات الأخيرة؛ في حين أن الانتماء إلى المجتمع الألماني (من طريق التجنس أو الإقامة) يتطلب وحدة أو امتثالا ثقافيا، ومعروف ما بين الثقافة والدين من صلات. وكان الألمان - على الرغم مما أصابهم في الحرب العالمية الثانية - قد أصروا في دستورهم (الذين يسمونه القانون الأساسي وقد اشترعوه عام 1949)، على أن الحصول على الجنسية الألمانية أو المواطنة، أساسه الدم. وقد أفاد من ذلك ذوو الأصول الألمانية الحقيقية أو المدعاة الذين كانوا قد توطنوا منذ مئات السنين في روسيا وشرق أوروبا، أي قبل قيام الدولة الألمانية الواحدة عام 1870. لكنهم في التطبيق، ومع بروز استقلالية المحكمة الدستورية الاتحادية، ثم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، مالوا للتماثل مع المقاييس الأوروبية الليبرالية تاريخيا، ولذا يبلغ عدد المسلمين في ألمانيا ممن يتمتعون بالجنسية أو الإقامة الدائمة نحو الأربعة ملايين (من أصول تركية ويوغوسلافية وعربية)، من أصل خمسة وثمانين مليون ألماني. ولأن الدولة الألمانية فيدرالية؛ فإن السلطات المحلية في كل ولاية تتمتع بالكثير من الصلاحيات. وعندما كنت أدرس بألمانيا في السبعينات، كان الحصول على الجنسية الألمانية في ولايات الشمال الألماني (ما بين غوتنغن وبرلين) أيسر من الحصول عليها في ولايات الجنوب (ما بين ميونيخ وشتوتغارت وحتى الحدود الفرنسية). وقد اشتهر وقتها أن الولايات البروتستانتية أو الإنجيلية (التي يسود فيها الحزب الديمقراطي الاشتراكي)، أكثر ليبرالية من الولايات الكاثوليكية (التي يسود فيها الحزب الديمقراطي المسيحي). وهذه التفرقة نسبية طبعا، وصارت نسبيتها أكبر بعد الوحدة عام 1989، التي ألغت أكثر مفاعيل الحرب العالمية الثانية. فولايات ألمانيا الشرقية السابقة، وهي ذات أكثرية بروتستانتية (وجاءت منها المستشارة ميركل ابنة القسيس البروتستانتي)، هي التي ظهرت فيها النزعات الشعبوية ضد المسلمين في السنوات الأخيرة، بعد أن كانت متركزة في الولايات الكاثوليكية المحافظة، ما بين ميونيخ وشتوتغارت.

بيد أن «القيادة» إذا صح التعبير، لمسألة «الهوية الوطنية» ومقتضياتها، لا تزال متركزة في فرنسا وبلجيكا. وفي حملة ساركوزي للرئاسة عام 2007، كان من شعارات الحملة مسألة الهوية الوطنية الفرنسية، في وجه المهاجرين؛ خاصة ذوي الأصول المغاربية، وهم اليوم ما بين متجنس منذ جيلين أو مقيم دائم، يبلغون نحو الستة ملايين من أصل ستين مليون فرنسي. وفي الحكومة الفرنسية اليوم وزير للهوية الوطنية والهجرة والاندماج. وقد شنت سلطات وزارة الداخلية الفرنسية قبل أشهر، كما هو معروف، حملة ضد الغجر من أصل روماني، ورحلت آلافا منهم، وعددهم في فرنسا لا يزيد على الأربعين ألفا، فكيف بالمسلمين الذين يبلغون الملايين! والدولة البلجيكية ما عادت قائمة تقريبا بسبب الصراع المستشري منذ عقود بين الإثنيات الثلاث فيها، وما أمكن إقامة حكومة اتحادية منذ خمس سنوات، لتعذر الحصول على أكثرية في البرلمان. لكن هذا البرلمان العاجز أحيانا عن الاجتماع، استطاع تحقيق أكثرية كبيرة في اشتراع قوانين ضد الحجاب، توجسا من المسلمين، الذين لا يصل عددهم إلى المليون! والخطير في المسألة - كما سبق القول - أن الاشتراع لا يحصل على أساس تعديل قوانين اللجوء والهجرة أو شروط الحصول على الجنسية؛ بل على أساس «الهوية الوطنية»، وهي تعنى بمفهوم غامض مثل الثقافة، والثقافة الأوروبية العظيمة تتطلب في السنوات الأخيرة تماثلا في اللباس، وغطاء الرأس للمرأة يتنافى معها! الذي وصل إليه الأمر في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا والدنمارك وإسبانيا وإيطاليا (وإن تفاوتت الدرجة)، ما وصل بعد إلى بريطانيا، لكن البريطانيين اختاروا طريق الإجراءات التنظيمية الداخلية، التي توصل للعزل وتقييد الحركة، وإن لم توصل بعد إلى منع الحجاب! إن الواضح أن موجة العداء للمسلمين في أوروبا على المستوى الشعبي، في العقود الأخيرة، لها أسباب متعددة ومتداخلة، وتتنوع من بلد أوروبي إلى آخر. فهناك الخوف من كثرة أعداد المسلمين، وهي كثرة ازداد ظهورها في المجال العام، بسبب اللباس المتميز، وازدياد عدد المساجد وأماكن العبادة، وازدياد الجمعيات الإسلامية التي تتحدث باسم المسلمين في الصحف والتلفزيون. والسبب الثاني التغير المطرد في الأوضاع الاقتصادية، فقد مضت حقبة الرخاء والوفرة، وأثرت صرامة القوانين الجديدة التي أسقطت الكثير من التقديمات الاجتماعية، وبينها تقديمات البطالة، بالدرجة الأولى على الفئات الدنيا. فنشأ لدى تلك الفئات وعي مبالغ فيه بأن المسلمين المتأوروبين يأخذون من طريقهم فرص العمل، ويشاركونهم في التقديمات الاجتماعية المتضائلة. والسبب الثالث ما صار يعرف بالإرهاب الإسلامي، بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، والهجمات التي تلتها في بريطانيا وإسبانيا ودول أخرى. وفي حين كان المسؤولون عن الهجمات الأولى آتين من بلدان عربية وإسلامية خارج أوروبا، برز شبان من أبناء الجاليات الإسلامية بأوروبا والولايات المتحدة، في السنوات الخمس الأخيرة، باعتبارهم مسؤولين عن العنف في القارة القديمة. وقد استغل الظواهر سالفة الذكر بعض السياسيين الشعبويين، فزادت نسبة أنصارهم في الانتخابات؛ فروعوا سياسيي الأحزاب الكبرى، واندفعوا خلفهم.

لا ينبغي الاستخفاف بهذه الظاهرة، ذات الآثار الخطيرة، ليس على الجاليات الإسلامية في الغربين الأوروبي والأميركي وحسب؛ بل وعلى النظرة إلى الإسلام والعرب والترك بشكل عام. فمما له دلالته أن مثقفا مسلما مثل طارق رمضان، السويسري الولادة والثقافة، وأكبر دعاة الإسلام الأوروبي، ما عاد يستطيع الاستقرار والتدريس بأوروبا، وهاجر إلى الولايات المتحدة. ومما له دلالته أنه لم تعد هناك دولة أوروبية كبيرة، تقبل بدخول تركيا إلى عضوية الاتحاد الأوروبي. ومما له دلالته أن 59 في المائة من السويسريين صوتوا في استفتاء شعبي ضد بناء مآذن للمساجد! ولست أزعم أن المسؤولية تقع على عاتق السياسيين الأوروبيين وحدهم. لكن ينبغي أن نعترف بأن الطرفين تغيرا في العقود الثلاثة الأخيرة: تغير الأوروبيون باتجاه الانكفاء والانعزال سياسيا وثقافيا (إنما ليس باتجاه المسيحيات القديمة والجديدة شأن الأميركيين!)، وتغير المسلمون في اتجاه التمايز الكبير والقاطع ضمن فئات واسعة منهم. والعمل من جانب عقلاء الطرفين ومعتدليهم يشمل تغيير الوعي، سعيا لتغيير الواقع أو النظر إليه بعيون متعقلة. وهذه عملية معقدة تستغرق أجيالا، ولا تبدو التوترات الحالية مشجعة عليها.