ماذا وراء الأزمة الأخيرة بين إسرائيل والفاتيكان؟

إميل أمين

TT

هل جاء سينودس الشرق الأوسط الجديد الذي عقد مؤخرا في حاضرة الفاتيكان ليشكل حجر عثرة في طريق علاقات الكرسي الرسولي مع الدولة العبرية، المضطربة في جوهرها، وإن حاول الجانبان تغطية عمق هذه الخلافات ظاهريا؟ ربما يتوجب علينا العودة إلى صفحات التاريخ، فالماضي يلقي بظلاله أبدا ودوما على الحاضر، سيما وأن قيام الدولة العبرية لم يكن يوما محل ترحيب من الفاتيكان، ففي عام 1904 وجه تيودور هيرتزل مؤسس الحركة الصهيونية رسالة إلى البابا بيوس العاشر يطلب فيها الدعم الأدبي لتسهيل تهجير اليهود إلى فلسطين، وما كان من البابا إلا أن أجابه بالقول: «نحن لا نستطيع أبدا أن نتعاطف مع الحركة الصهيونية، وأننا وإن كنا لا نقدر على منع اليهود من التوجه إلى القدس فإننا لا يمكن أن نقره أبدا».. ويكمل: «إنني بصفتي قيما على الكنيسة لا أستطيع أن أجيبك في شكل آخر».

وفي عام 1917 رفض البابا بندكتوس الخامس عشر وعد بلفور ورفع الفاتيكان شعارا تاريخيا «لا لسيادة اليهود على الأراضي المقدسة»، كما أنه كان وراء تشكيل لجنة التضامن الإسلامي - المسيحي عام 1920 التي كانت مهمتها مطالبة السلطات البريطانية بإعادة النظر في وعد بلفور.

ويطول الحديث عن الشكوك التي كانت ولا تزال كامنة من قبل تل أبيب تجاه الفاتيكان حتى بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1961 - 1965) الذي حاول أن يرفع عن اليهود القائمين في أيامنا هذه ما وصفه بوزر صلب السيد المسيح.

وقد تجلت النوايا الإسرائيلية تجاه الفاتيكان كما يروي الكاتب الإنجليزي توماس غوردن في كتابه العمدة «جواسيس جدعون»، في بحث مدير الاستخبارات الخارجية الإسرائيلية (الموساد) عام 1973، زافي زامر (1968 - 1974)، عن الأماكن التي يستطيع الموساد زرع أجهزة تنصت فيها داخل مباني الفاتيكان حالما يبني علاقة عمل مع الحبر الأعظم، وكان ذلك على هامش إعداده للزيارة الأولى لرئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير، من أجل مقابلة البابا بولس السادس (1965 - 1978)، وفي وقت كانت روما تعج بالخلايا الفلسطينية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي.

ومن الماضي عودة إلى الحاضر، إذ في أعقاب انتهاء أعمال سينودس الشرق الأوسط كان نائب وزير الخارجية الإسرائيلي داني أيالون، يصرح بالقول: «نعبر عن خيبة أملنا إزاء تحول هذا المجمع المهم إلى منبر للهجمات السياسية على إسرائيل في سياق الدعاية الغربية». ويضيف: «لقد أصبح المجمع رهينة غالبية مناهضة لإسرائيل».

هذا التصريح وجد ردا مباشرا من الأب فيدريكو لومباردي، مدير دار الصحافة الفاتيكانية الذي أشار إلى أنه «إن كانت هناك رغبة في الاطلاع على مواقف السينودس بشكل مختصر فلا بد من التقيد بـ«الرسالة» التي تعتبر النص المكتوب المشترك الأوحد الذي وافق عليه السينودس خلال الأيام الأخيرة». ويكمل: «الإسهامات التي قدمها الآباء تمثل ثروة عظيمة، وتنوعا كبيرا، في وجهات النظر لذلك لا يمكن اعتبار كل فرد على حدة كالصوت المعبر عن السينودس برمته».

والشاهد أن الأب لومباردي كان يرمي بتصريحاته إلى المطران كيرلس بسترس، مطران الروم الكاثوليك في الولايات المتحدة الأميركية، الذي أشار على هامش أعمال السينودس إلى إشكالية باتت تزعج إسرائيل، سيما إذا تحولت إلى تيار عام في هذه الآونة التي تفقد فيها فرط نفوذها التاريخي في الغرب إلى.. «إننا نحن المسيحيين لا يمكننا الحديث عن أرض الميعاد حقا حصريا ومطلقا للشعب اليهودي.. فقد أبطل هذا الحق بمجيء المسيح».. وأكمل: «إنه لم يعد هناك شعب مختار، فكل الرجال والنساء من كل الدول أصبحوا شعبا مختارا».

هذا التصريح أصبح ولا شك مثار قلق في إسرائيل، والخوف أن يذهب الفاتيكان إلى ما هو أبعد مما وصلت إليه المناقشات في السينودس الأخير، وما يعد اختصاما تاريخيا من أي رؤية إيجابية تصب في خانة إسرائيل أو اليهود بشكل عام.

ولذلك كان أيالون يدعو الفاتيكان لأن ينأى بنفسه عن تصريحات المطران بسترس التي تشكل - على حد قوله - افتراء في حق الشعب اليهودي ودولة إسرائيل، وينبغي ألا تطرح باعتبارها الموقف الرسمي للفاتيكان.

ولعله يحق لنا أن نتساءل هل كان موقف السينودس الأخير من اليهود بشكل عام، واستحقاقات هذا المجمع لاحقا بشكل خاص، وراء أزمة جديدة سوف تظهر على الأفق في علاقات تل أبيب بالفاتيكان؟

الشاهد أنه في النص الأول الكامل لتقرير ما بعد المناقشة الصادر عن الجمعية الخاصة من أجل سينودس الشرق الأوسط بتاريخ 18 أكتوبر (تشرين الأول) المنصرم نقرأ في شان الحوار مع اليهودية ما نصه: «ترفض كنائسنا معاداة السامية واليهودية. إن صعوبة العلاقات بين الشعبين العربي واليهودي سببها الصراع السياسي الحالي. ونحن نميز بين الواقع الديني والواقع السياسي».

وفي التوصيات النهائية للسينودس والمتوقع تضمينها في الإرشاد الرسولي الذي سيصدر عما قريب توصية رقم 41 وفيها.. إننا نرفض العداء للسامية والعداء لليهودية، مميزين بين الدين والسياسة.. لماذا غضبة إسرائيل إذن؟

الثابت أن السينودس نفسه ميز بين النظر إلى اليهود بوصفهم أهل كتاب ودين سماوي وبين أعمال الدولة الإسرائيلية المتجاوزة لكل حد ومد، إذ طالب المجتمعون المجتمع الدولي والأمم المتحدة بوضع حد للاحتلال الإسرائيلي لمختلف الأراضي العربية من خلال تطبيق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة، ومن ثم التوصل إلى حل سلمي ونهائي في المنطقة.

وعطفا على ذلك نجد أن هناك إشارة واضحة في بيان السينودس لتهافت استغلال إسرائيل لفكرة الأرض الموعودة في الكتاب المقدس، ولابوكريفية طرح الشعب المختار لتبرر الاستيطان في القدس أو احتلال الأراضي، وأن اللجوء إلى المواقف اللاهوتية والمقدسة التي تستخدم كلمة الرب لتبرير الظلم أمر غير مقبول.

ومما لا شك فيه أن هذه الرؤى المثيرة تعد تقدما نوعيا في طريقة التفكير المسيحي الغربي الكاثوليكي لجهة الدولة العبرية، وهذا أمر مزعج أيما إزعاج لإسرائيل التي تعرف أن البنية البابوية شديدة التماسك وقادرة على تحقيق أهداف بعينها متى عنّ لها ذلك، وكما حدث مع الشيوعية في دول أوروبا الشرقية.

ورغم أن الفاتيكان يعمل دون أحزاب أو اتحادات عمال، فإن نظامه محكم السيطرة، فالبابا رأس الكنيسة المسيطر على إدارتها الممثلة في الأساقفة حول العالم، وهؤلاء بدورهم يبسطون نفوهم الروحي على الكهنة والأخيرين هم صلة الوصل الأقرب لنحو مليار ومائتي مليون كاثوليكي في قارات الأرض الست، واصطفافهم الآيديولوجي بعيدا عن، أو مناوئا لدولة إسرائيل خسارة تاريخية للدولة العبرية. هل هذا الخلاف هو الأول من نوعه؟

بالمطلق لا، فقد جن جنون إسرائيل منذ نحو عامين غداة وصف الكاردينال ريناتو مارتينو، رئيس مجلس العدالة والسلام في الفاتيكان، لما يجري في قطاع غزة، بأنه «معسكر اعتقال ضخم»، الأمر الذي دفع إيلان شتاينبرغ، نائب رئيس التجمع الأميركي للناجين من المحرقة، للقول: «إنها تصريحات مسيئة وتمثل إهانة لذكرى المحرقة والناجين منها في أنحاء العالم». وبلغت ذروة الخلافات عندما صرح المتحدث باسم الخارجية الإسرائيلية وقتها نمرود بركان لصحيفة «الجيرزواليم بوست» بالقول: «إن الكرسي الرسولي يعتمد منذ سنوات سياسة تقضي بعدم إدانة الإرهاب في إسرائيل». وهو تصريح ينافي ويجافي الحقائق، فإسرائيل وعلى حد قول الدكتور خواكين نافارو فالس، مدير دار الصحافة التابعة للكرسي الرسولي في زمن حبرية البابا يوحنا بولس الثاني، تريد أن يصدر الفاتيكان إدانة فورية لكل حادث يواجهها، ناسية أن ردود فعلها العسكرية لم تكن تتفق أبدا ومبادئ القانون الدولي. وشدد الرجل وقتها على أن «الكرسي الرسول لا يقبل بأن يتلقى دورا وتوجيهات من أي سلطة بشأن وجهة ومضامين تصريحاته».

ومما لا شك فيه أن إسرائيل وحكومة نتنياهو بنوع خاص تنظر لكل تقارب مسيحي - إسلامي على أنه فعل مكروه، وهي صاحبة المصلحة الأكبر في توسيع هوة الخلاف بين المسيحيين والمسلمين في العالم برمته وفي الشرق الأوسط بنوع خاص، ولهذا فإنها عندما تقرأ في النص الختامي أن المسيحيين العرب قادرون على أن ينقلوا للمسيحيين الغربيين صورة طيبة عن التعايش الإسلامي - المسيحي في الشرق الأوسط، تنفي الصورة النمطية السلبية للمسلمين في عيون الغربيين، وتشجب تكريس فكر الإسلاموفوبيا داخل الذهنية العالمية، وفي هذه الأوقات التي يكثر فيها الجدل أوروبيا وأميركيا حول نجاحات وإخفاقات العيش المشترك.

وعندما تقرأ إسرائيل ما ورد في نص السينودس الختامي.. أن الله المحبة يحب المسلمين، ولهذا يتعين علينا كمسيحيين إيجاد لغة لاهوتية جديدة للتعبير عن هذا السر (سر المحبة) وجعله أكثر منالا في حوار الحياة، فإنه حتما ولا بد أنها ستعتقد أن السينودس قد أضحى رهينة في أيدي غالبية مسيحية عربية مناهضة لإسرائيل كما يرى أيالون.

في يوليو (تموز) من عام 2009، تناقل الضباط والجنود الإسرائيليون في معسكرات الجيش الإسرائيلي كتيبا عنوانه «من على جانبي الحدود»، ملخصه أن البابا ومطارنة الكرسي الرسولي يتعاونون مع حزب الله، وينظمون لعناصر فيه جولات في اوشفيتس كي يتعلموا كيف يبيدوا اليهود.

وقد ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أن الجنود يقرأون الكتيب من على نقاط تمركزهم بتشجيع من ضباط رفيعي المستوى، ومنهم قائد كتيبة نحشون في لواء كفير، تمير شالوم، وأن الكتاب صادر عن اتحاد الجماعات الأرثوذكسية في شمال أميركا، بالتعاون مع الحاخام الأكبر لمدينة صفد شموئيل الياهو، وهو الرجل الذي قال إن السيدة راحيل ظهرت لجنود إسرائيليين في حرب غزة وحذرتهم من بيوت فلسطينية ملغومة. لماذا تعيش إسرائيل الخوف من كل تجمع لا يتفق مع عنصريتها؟! ما الخطأ إذن في وثيقة سينودس الأساقفة العرب، إذ ينزعون عن إسرائيل لفظ المختارة؟

* كاتب مصري