برنارد لويس واقتصاد الوفرة والسائد

رضوان السيد

TT

صدر لبرنارد لويس، المستشرق المشهور، كتاب جديد هذا العام عنوانه: «الإيمان والقوة: الدين والسياسات في الشرق الأوسط». والكتاب هذا مثل سابقيه لأكثر من عشرين عاما، يجمع مقالات سبق نشرها، مع مقدمة وخاتمة جديدتين. وتنشر المقالات المجموعة في دور نشر شهيرة، فتظهر على لوائح الكتب الأكثر مبيعا لعدة أشهر. وما أن تختفي عن اللوائح حتى يكون كتاب جديد قد ظهر للرجل نفسه يسلك السيرة نفسها! هكذا كان الأمر مع كتاب «كيف حدث الخلل» (2001، 2002، 2003)، وكتاب «الحرب المقدسة والإرهاب غير المقدس» (2005)، وكتاب «أزمة الحضارة الإسلامية» (2007)، والآن كتاب «الإيمان والقوة» (2010).

وبرنارد لويس مستشرق، ومؤرخ مشهور للشرق الأوسط في أزمنته الإسلامية القديمة والحديثة. وله كتب صارت مشهورة ومعتمدة في الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية. ومن الأمثلة على ذلك كتابه عن العرب في التاريخ، وكتابه عن تركيا الحديثة، وكتابه عن اللغة السياسية في الإسلام، وكتابه عن القدس في القرن السادس عشر من خلال وثائق المحكمة الشرعية.. إلخ. وقد كان كل من هذه الكتب دافعا لسيل من الدراسات في موضوعه، إما من جانب تلامذة لويس، أو من جانب المعجبين والمدفوعين إلى الميدان الذي انفتح. إنما منذ أواخر الستينات غلب على العرب وطلاب دراسات الشرق الأوسط، اعتبار برنارد لويس صهيونيا، أن صهيونيته أثرت حتى على دراساته في الإسلام الكلاسيكي. وإن كان لنا أن نحكم على دراساته حتى مطلع السبعينات أو ما بعد، فهو أنه كانت لها ميزات دراسات المستشرقين الكبار، وسلبياتها وحدودها. فلويس من تلامذة هاملتون غب ومارغليوث وأربري، وهو يعرف عدة لغات إسلامية، وكتب دراسات استطلاعية وتاريخية جيدة، افتتحت أحيانا ميدانا جديدا أو جددت في خطرات سابقة. وهكذا فالخلاف معه في دراساته الكلاسيكية والعثمانية، هي مثل الخلاف مع كبار المستشرقين من أمثال هاملتون غب وآربري ووات وريتر وفان أس ومادلونغ ولاووست وسورديل وماسينيون.. إلخ. إنما الخلاف معه في دراساته بشأن العالمين العربي والإسلامي الحديث والمعاصر. وقد كان قبل التزامه بإسرائيل ينتهج المقاربة التحديثية القوية والعنيفة أحيانا. وكان كثير التشكك في الحركات الدينية والوطنية التحريرية، لأنه كان يخشى معارضتها للتحديث الفكري والثقافي والديني، واقتصار الأمر لديها على الجوانب التقنية وغير القيمية. ولذا لم يفز في غرباله غير العلمانيين الأتراك الراديكاليين في الفصل بين الدين والدولة، والحفاظ في الوقت نفسه على الديمقراطية، مثل التجربة الأوروبية تماما، كما كان يقول. وكان نقاده في الغالب من اليساريين العرب والأوروبيين، ومن باحثي الشرق الأوسط الأميركيين (ذهب لويس إلى الولايات المتحدة، إلى برنستون، عام 1963، ودرس هناك إلى حين التقاعد أواخر التسعينات من القرن الماضي). فالمقاربة التحديثية تؤمن بأن الطريقة الوحيدة الممكنة إلى العصرية هي الطريقة الأوروبية واستطرادا لمن لا يحب تذكر الفترة الاستعمارية: الطريقة الأميركية. وقد جاءت الحرب الباردة لتضع المصالح الأميركية والغربية على المحك - فما عاد الأميركيون يتمتعون برفاهية نقد المقاربات الأوروبية تجاه العرب والإسلام وهم بعيدون. بل هم صاروا الذراع الغربية الجديدة للهيمنة، التي ينافسها على ذلك الاتحاد السوفياتي بجاذبيته التحررية والاشتراكية. ولذا فإن أساتذة الشرق الأوسط الأميركيين وغيرهم، ما عاد الأمر بالنسبة لهم أكاديمية ورؤية وأيديولوجيا نظرية؛ بل صار عليهم أن يقرروا: هل يدعمون مصالح دولهم في الشرق الأوسط، أم يدعمون المقاربة السوفياتية التحررية والتحريرية؟ وقد اختار برنارد لويس وكثيرون غيره دعم المقاربة التحديثية الديمقراطية الغربية في رؤية الشرق الأوسط ومشكلاته. ويعني ذلك أن أنصار الغرب - ومنهم إسرائيل - في الشرق الأوسط هم معسكر الحداثة والديمقراطية، في وجه الدكتاتورية والاستبداد. ثم جاءت حرب عام 1967، والتي استمر الهياج بشأنها قبل حدوثها لعدة أشهر. وقد ارتاع أنصار إسرائيل من اليهود والصهاينة والإنجيليين الجدد، ممن لم تكن لهم خبرة بالمسائل العسكرية، من تهديدات العرب، وخافوا – ومنهم برنارد لويس - أن تكون إسرائيل مهددة في وجودها. ومنذ ذلك الحين، ارتبطت كل رؤية لويس للشرق الأوسط بهذه الواقعة. بل إنه عاد لينصر العثمانيين القدامى بعد أن كان قد امتدح أتاتورك للخلاص منهم، عاد لنصرتهم لأنهم آووا اليهود الذين طردتهم إسبانيا الكاثوليكية! وصارت رؤيته للعرب قديما وحديثا مرتبطة بمواقفهم من إسرائيل. وعاد لقراءة التاريخ الإسلامي القديم من وجهة نظر من هو مع التعددية الدينية، ومن هو ضدها. ولذا فإن إدوارد سعيد عندما هاجمه في كتابه عن «الاستشراق» (1978)، ركز على مقاربته الإمبريالية للعروبة والإسلام والثورة وإسرائيل! وظل موضوع من هو مع السلام والديمقراطية، ومن هو ضدهما؛ موضوعه الرئيسي حتى مطلع التسعينات من القرن الماضي. ودائما كانت إسرائيل ديمقراطية ومسالمة، ودائما كان العسكريون العرب العاجزون الذين أتى بهم للسلطة الاتحاد السوفياتي، يغذون الأحقاد لدى الجمهور العربي الساذج على أميركا وإسرائيل! لأنه منذ مطلع التسعينات، جرى التركيز من جانب برنارد لويس وغيره على ثلاثة مواضيع: الإرهاب وعلائقه بالإسلام، وأسباب تردي علائق العرب على الخصوص بالغرب، وإلى أين تسير الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية بالغرب وكيف يمكن إصلاحها؟! ففي سائر الكتب التي ذكرناها له، مما صدر في العقد الأخير، لا تكاد المواضيع السالفة الذكر تغيب. ففي الكتاب الذي بين أيدينا (الإيمان والقوة) يتحدث الفصل الأول عن بن لادن هكذا: إجازة أو إذن بالقتل، أسامة بن لادن وإعلانه للجهاد. وهناك ثلاثة فصول تعنى بارتباط السلام بالديمقراطية، وليس بتحرير فلسطين بالطبع! وهناك فصلان عن «العرب وأوروبا»، وفيهما وفي فصل آخر كلام عن ارتباط الديمقراطية الليبرالية بالنموذج الغربي.

وبحسب النظرة اللويسية، منذ مقالته عن «الغضب الإسلامي» مطالع التسعينات أن الإرهاب، الذي يربط نفسه بالجهاد، هو في الحقيقة تقليد لليسار الراديكالي، والجماعات الإرهابية اليسارية في الستينات والسبعينات، وليس تقليدا للجهاد. وهذا فضلا عن أن الجهاد الإسلامي الجديد يشمل الداخل الإسلامي، فلا يمكن أن يكون له علاقة من أي نوع بالجهاد الكلاسيكي. وعلى أي حال؛ فإن الجهاد عندما تسلمه الأتراك من العرب، تعقلن وصار عملا من أعمال الدولة ويخضع لاعتبارات غير اعتبارات الإيمان والكفر! لم تكن لجهاديات بن لادن علاقة بالجهاد الكلاسيكي، فلماذا ما جرى استنكاره بقوة من جانب علماء العرب والمسلمين؟ ويجيب لويس دون تردد: بسبب أن ذاك العنف موجه إلى الغربين الأميركي والأوروبي، وهما مكروهان بعنف من جانب المتدينين ومن جانب القوميين في العالم العربي. أما لماذا هذه الكراهية؟ فلأن الإسلام كان متفوقا في العصور الوسطى علميا وعسكريا، وظل العثمانيون يتوغلون في أوروبا إلى أن حاصروا فيينا لآخر مرة عام 1681م. ثم تقدم الغرب بسرعة، وسيطر على الشرق كله، كما سيطر على أجزاء العالم الأخرى في آسيا وأفريقيا. وفي حين ما ترتب لدى الآسيويين «عقدة» من التفوق الغربي؛ بل تعلموا منه ومنهم ونهضوا إلى مواقع الندية؛ فإن العرب والمسلمين، والعرب على الخصوص، ما أمكن لهم أن ينسوا التفوق السابق، وما صبروا للتعلم من هؤلاء «الكفار». ومع كل فشل سياسي أو ثقافي. كان الحقد يتزايد وينفجر مرة في شكل وطني، ومرة في شكل قومي، والآن في شكل إسلامي. أما منطلق ذلك الغضب فهو الحقد على النجاح الغربي وعلى التقدم الغربي. أما الاستعمار الأوروبي، وأما إسرائيل، وأما الجيوش الأميركية، فهذه جميعا لدى برنارد لويس ليست أسبابا تبرر الهياج على الغرب ومحاولة التحرر منه.

يتكرر هذان الموضوعان، الجهاديات الانتحارية، والحقد العربي والإسلامي على الغرب، وبصيغ مختلفة في كل كتب ومقالات برنارد لويس في الأعوام العشرين الأخيرة. وقد زادته نهايات الحرب الباردة، والانتصار الأميركي (والغربي) فيها جرأة في عرض هذه النظرات. وينسب إليه هنتنغتون (في كتابه: صدام الحضارات) أنه أول من استخدم هذا المصطلح، في سياق تحليله لردود الفعل العربية الحاقدة وغير العقلانية على التفوق الغربي! فالموقف العربي والإسلامي من الغرب وإسرائيل ثقافي، بمعنى أنه ناجم عن الإعجاب والحسد والعجز في الوقت نفسه، ولذا يلجأ الإسلاميون الراديكاليون للعنف ضد الغرب وإسرائيل لأسباب «نفسية» وليس لأنهم استولوا على فلسطين والعراق وأفغانستان! فلما حدثت واقعة 11/9/2001 ما عادت لبرنارد لويس وتلامذته في الولايات المتحدة وإسرائيل ضوابط من أي نوع. فهم لم يكتفوا بالتنظير لمواجهة «الأصوليين» و«العرب» بالعنف، لأنهم «لا يفهمون غيره»؛ بل أضافوا لذلك - شأن ما فعله دانييل بايس ومارتن كريمر - مهاجمة دراسات الشرق الأوسط بالولايات المتحدة، لأنها تخون واجباتها الوطنية، وتخون دافع الضرائب الأميركي؛ حين تشخص الوضع في الشرق الأوسط تشخيصا متحيزا يركز على أخطاء أميركا وإسرائيل، ولا تنبه إلى الخطر الأصولي الذي هاجم الولايات المتحدة يوم 11 سبتمبر (أيلول)! وما عاد الحماس والهياج متوافرين؛ وبخاصة بعد التعقيدات التي حصلت في العراق وأفغانستان، واستمرار المواجهة مع «القاعدة»، وازديادها مع إيران. لكن برنارد لويس تسعيني، وهو يملك ذخيرة وافرة من هذا القصص الإنشائي، ويجد دائما من يستمع إلى آرائه أو بعضها، أو يقتني الكتاب الأنيق لوضعه في المكتبة إلى جانب كتب لويس الكثيرة الأخرى. وقد لاحظ أحد المعلقين على الكتاب الأخير - متعجبا: أن كل تنبؤات لويس خابت، بما فيها انتصار العلمانية بتركيا على الإسلام! ومع ذلك فإن كتيباته تلقى رواجا، فلا بد أن ذلك يعود إلى سرده القصصي المسلي الذي يقال إنه كان يعجب الرئيس بوش الابن!