مسؤولية رعاية المسنين.. رؤى متعددة

صفات سلامة

TT

شيء جميل أن نتذكر ونعترف بجميل فئة المسنين، الذين أفنوا حياتهم في خدمة أسرتهم ومجتمعهم، وذلك بعد موافقة مجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب في اجتماعه الأخير على اعتماد يوم 25 سبتمبر (أيلول) من كل عام ليكون «اليوم العربي للمسنين»، الذي يعد بمثابة رسالة مهمة لتأكيد دورهم ورسالتهم النبيلة في حياة المجتمع والأمة وضرورة العناية بهم.

وعلى الرغم من انتشار الكثير من المراكز والمؤسسات الخاصة برعاية المسنين في منطقتنا العربية والإسلامية، وكذلك عقد الكثير من المؤتمرات وورش العمل التي أقرت حقوقهم وأصدرت الكثير من التوصيات المتعلقة ببرامج رعايتهم، فإن هذه البرامج دائما في حاجة للمراجعة المستمرة، في ضوء تزايد أعداد المسنين، وتعاظم دورهم في مختلف مجالات التنمية، هذا بالإضافة إلى ضرورة النظر لبرامج وأساليب رعاية المسنين من خلال رؤى متكاملة متعددة الجوانب والأبعاد.

لقد اهتمت المواثيق الدولية بالمسنين، وخاصة بعد تزايد عددهم حول العالم، ولمواجهة المشكلات التي تتعرض لها هذه الفئة، فقد أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة الأول من أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام ليكون «اليوم الدولي للمسنين»، وفي سياق خطة العمل نصت المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالمسنين على الالتزام باتخاذ إجراءات على جميع الصعد، بما فيها الصعيدان الوطني والدولي في ثلاثة اتجاهات ذات أولوية، هي: كبار السن والتنمية، وتعزيز الصحة والرفاه في السن المتقدمة، وضمان بيئة تمكينية وداعمة. كما عقدت الجمعية العامة في عام 1982 الجمعية العالمية الأولى للشيخوخة التي تمخضت عن «خطة عمل فيينا الدولية للشيخوخة» وصادقت الجمعية العامة على هذه الوثيقة المهمة، التي تعتبر مرشدا مفيدا جدا للعمل، لأنها تبين بالتفصيل التدابير التي ينبغي للدول الأعضاء اتخاذها من أجل المحافظة على حقوق المسنين في إطار الحقوق التي أعلنها العهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان، وهي تتضمن 62 توصية يتصل كثير منها اتصالا مباشرا بالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتدعو الخطة إلى إجراءات محددة بشأن قضايا، مثل الصحة والتغذية وحماية المستهلك المسن والإسكان والبيئة والأسرة والرعاية الاجتماعية والعمل وضمان الدخل والتعليم وجمع بيانات البحوث وتحليلها.

وبعيدا عن المواثيق الدولية ونصوصها، فقد كان لديننا الإسلامي فضل السبق على المواثيق والاتفاقيات الدولية كافة في تقرير حقوق المسنين ورعايتهم والتأكيد عليها، فبتوجيه من ديننا الحنيف وجد المسنون في المجتمع الإسلامي كل تقدير ورعاية واحترام، وذلك بالكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة ومواقف الصحابة رضوان الله عليهم، فقال تعالى في سورة الإسراء: «وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» (الإسراء: 23 و24)، كما حث النبي الكريم (صلى الله عليه وسلم) على رحمة الصغير وتوقير الكبير، حيث قال: «ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر» (رواه الترمذي وأحمد)، كما خص الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، الكبير بمزيد الرعاية، فقال: «إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم» (رواه أبو داود).

وهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يتعاهد امرأة عجوزا في بيتها، فتورد كتب التاريخ أنه (رضي الله عنه) «خرج في سواد الليل، فرآه طلحة، فذهب عمر فدخل بيتا، ثم دخل بيتا آخر، فلما أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، فإذا عجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل الذي يأتيك؟ قالت: إنه يتعاهدني منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني ويخرج عني الأذى». ولم تقتصر الرعاية والعناية في المجتمع المسلم بالمسنين المسلمين فقط، بل امتدت أيضا لتشمل حتى غير المسلمين، طالما أنهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، فقد سطرت كتب التاريخ موقف عمر (رضي الله عنه) مع ذلك الشيخ اليهودي الكبير، فيذكر أبو يوسف في كتابه «الخراج»: «أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) مر بباب قوم وعليه سائل يسأل، شيخ كبير ضرير البصر، فضرب عضده من خلفه فقال: من أي أهل الكتب أنت؟ قال: يهودي. قال: فما ألجأك إلى ما أرى؟ قال: أسأل الجزية والحاجة والسن. قال: فأخذ عمر (رضي الله عنه) بيده، فذهب إلى منزله، فأعطاه من المنزل شيئا، ثم أرسل إلى خازن بيت المال، فقال: أنظر هذا وضرباءه، فوالله ما أنصفناه إذا أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم؟ (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) (التوبة: 60) ووضع عنه الجزية وعن ضربائه».

المسنون طاقة وثروة تنموية لا يستهان بها إذا أحسن استغلالها واستثمارها، فهم ليسوا عبئا وعالة على الأسرة والمجتمع، وكل مسن له ظروفه وأوضاعه وحاجاته الخاصة التي تحدد الطريقة المثلى للتعامل معه بما يناسب إمكاناته وقدراته. وعلينا إدراك حقيقة مهمة، وهي أن مجرد شعور المسنين بالبطالة والعجز والاعتماد على الآخرين، هو الذي يساعد في تردى أوضاعهم في الكثير من المجتمعات والدول، لهذا من المهم أن ننظر إلى المسنين على أنهم عطاء ونشاط متجدد لا يتوقف ويخلد للسكون والكمون، حتى لا يصابوا بالكثير من الأمراض الجسدية والنفسية. فعلى سبيل المثال حالة تقاعد المسن عن العمل الرسمي يجب أن ينظر إليها على أنها مرحلة إيجابية نشطة جديدة في حياته، تحرره من قيود والتزامات العمل والوظيفة، وتطلق قدراته وطاقاته وإمكاناته التي ينبغي العناية بها بما يعود عليه وعلى أسرته ومجتمعه وأمته بالنفع والفائدة، ولن يحدث هذا إلا إذا تغيرت نظرتنا للمسنين ووجدوا الرعاية المناسبة واللائقة من الأفراد والمجتمعات التي تؤهلهم للقيام بأدوارهم المهمة المطلوبة، وذلك من خلال توفير الأطر الأساسية العامة المناسبة التي تبنى عليها خطط الرعاية المتكاملة لكي يستمر المسنين في عطائهم والقيام بدورهم المطلوب وبما يناسب ظروفهم وأوضاعهم.

وعلى الرغم من إقرار ديننا الإسلامي لحقوق المسنين، وتأكيده على أهمية رعايتهم، فإن هناك لدى بعض الأفراد والمجتمعات بعض القصور والتقصير نحو رعايتهم والاهتمام بهم، وقد يكون ذلك نتيجة ابتعاد وإهمال البعض للكثير من القيم والمبادئ والأخلاقيات الإسلامية الأساسية العظيمة التي تعد الأساس نحو رعاية المسنين، الأمر الذي أدى إلى انتشار الكثير من أصناف العقوق تجاه المسنين، وإنشاء الكثير من مؤسسات رعاية وإيواء المسنين.

لذلك يجب التأكيد على أن رعاية المسنين مسؤولية اجتماعية مشتركة تتطلب أولا ضرورة توجيه رسائل توعية فعالة نحو أهمية تلك الفئة ودورهم وقضاياهم ومشكلاتهم، توجه لجميع فئات وأفراد ومؤسسات المجتمع لتغيير نظرتنا السلبية إلى هذه الفئة، وضرورة التأكيد هنا على أهمية دور الإعلام بوسائله الكثيرة والحديثة لأداء هذا الدور المهم من خلال كثير من البرامج المتنوعة والمتميزة للمساهمة في رفع معنويات المسنين وتسليط الأضواء عليهم.

كما تجدر الإشارة إلى أن النظر لرعاية المسنين يجب أن يكون من خلال رؤى متعددة الأبعاد تشمل جميع الفئات والأعمار والمؤسسات، وتتضمن الكثير من مجالات الرعاية والاهتمام، وتؤكد على الكثير من القيم والأخلاقيات الأساسية، وكذلك تفعيل الكثير من التوصيات والقرارات المتعلقة بالمسنين.

على سبيل المثال، يجب أولا إرساء الكثير من الأسس والقواعد والقيم الأخلاقية التي تسهم في تحسين برامج وأساليب رعاية المسنين، ولتكن الأسرة هي البداية الأولى نحو ترسيخ والتشديد على أهمية رعاية المسنين من خلال قيم احترام وتوقير الكبير ورعايته والاهتمام به، حتى لا يحدث التفريط وينتشر العقوق من الأبناء تجاه الآباء، ويشارك الأسرة في هذه المسؤولية جميع مؤسسات وهيئات المجتمع، وبخاصة المؤسسات التربوية والإعلامية. وكذلك التأكيد على أن مؤسسات رعاية المسنين ليست بديلا عن دور الأسرة الأساسي المهم والحيوي، فوجود هذه المؤسسات لا يعني إهمال دور ومسؤولية الأسرة، ونعلم جميعا أهمية الجو الأسري للمسن مع الأبناء والأحفاد في رعايته وصحته الجسمية والنفسية. ومن المهم أيضا دراسة مؤسسات رعاية المسنين في مجتمعاتنا من حيث ظروف إنشائها وأنماط وأساليب الرعاية داخلها والقائمين والمشرفين عليها، من حيث أهمية أن يكونوا أكثر مسؤولية ووعيا وثقافة للإشراف على هذه الفئة المهمة التي هي أحوج ما تكون إلى كلمة احترام ولمسة حنان تشعرهم بأهميتهم ودورهم الرئيسي في حياتنا.