مفتي مصر لـ «الشرق الأوسط»: ليست هناك ضغوط سياسية على إصدار الفتاوى.. واستثمار الأموال في البنوك «جائز» شرعا

د. علي جمعة: لا يجوز شرعا تجسيد الأنبياء والعشرة المبشرين بالجنة في الأعمال الفنية

د. علي جمعة مفتي الديار المصرية («الشرق الأوسط»)
TT

حذر الدكتور علي جمعة، مفتي الديار المصرية، من استمرار حالة الفوضى والبلبلة التي أحدثها دعاة الفضائيات والتي انعكست تأثيراتها السلبية على الثقافة وعلى الخطاب الديني. وطالب بضرورة تبني دور الإفتاء في البلاد الإسلامية ومجامع الفقه الإسلامي لمشروع توحيد الفتاوى. وأكد مفتي مصر في حديثه لـ«الشرق الأوسط» في القاهرة على أنه لا يجوز تجسيد الأنبياء وأمهات المؤمنين ومشاهير الصحابة في أي أعمال فنية. وأوضح أن استثمار الأموال في البنوك التي تعطي فائدة «جائز»، وأنه يجوز لمن أودع أموالا في البنك أن يحج منها، وحجه صحيح ولا وزر عليه، مؤكدا على أنه ليست هناك ضغوط سياسية على إصدار الفتاوى في مصر.

* ما الهدف من زيارتك الأخيرة إلى تركيا؟

- زيارتي لتركيا كانت بهدف المشاركة في «المؤتمر الدولي حول هدي النبي (صلى الله عليه وسلم)»، والذي نظمته مجلة «يني أوميت» (الأمل الجديد)، ومجلة «حراء» الصادرة باللغة العربية، وكان الهدف من المؤتمر إلقاء نظرة متجددة على سنة النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) في إطار القرآن والسنة ومنهج الصحابة والخلفاء الراشدين، وشارك في المؤتمر نخبة كبيرة من العلماء المسلمين البارزين في تركيا والعالم الإسلامي. واستعرضت في كلمتي التي ألقيتها في المؤتمر نماذج من تعايش المسلمين الأوائل مع الآخر، وأوضحت أن حياة المسلمين في عهد النبي اكتنفتها أربع مراحل هي «العهد المكي، والعهد الحبشي، والعهدان الأول والثاني في المدينة»، وأن المسلمين يعيشون حاليا في كل بلد مرحلة من هذه المراحل، وأكدت على أن النبي (صلى الله عليه وسلم) استطاع التعايش مع الآخرين رغم اختلاف ظروفهم وأحوالهم وعقائدهم، ولذا علينا أن نستلهم العبر والدروس من حياته، وأن نستفيد من نظرته إلى الآخرين والأحداث، وإدارته للدولة، وحياته التعبدية.

* أثار مسلسل «يوسف الصديق» جدلا واسعا بين علماء الأزهر، من وجهة نظرك ما هو الحكم الشرعي في تجسيد الأنبياء والصحابة في الأعمال الفنية؟

- عموم الصحابة يجوز تمثيل أدوار حياتهم بشروط ثلاثة تتضمن سلامة الغرض وصدق العرض واستقامة المنهج، وحسن سمعة الممثلين وسلامة سيرتهم. أما الأنبياء وأمهات المؤمنين ومشاهير الصحابة، وتحديدا العشرة المبشرين بالجنة، وآل بيت النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأهل الذكر من علماء الأمة وفقهائها، فلا يجوز تمثيل أدوار حياتهم لما في ذلك من المفاسد التي تفوق جانب المصلحة في تمثيل حياة تلك الفئة من الصحابة، مع مخالفة ذلك لنصوص الكتاب والسنة المقيدين لحظر تمثيل حياتهم، ومع عدم توافر الداعي لتلك الوسيلة في إبراز حياتهم، وانتفاء الضرورة لها لوجود غيرها من وسائل التعليم والتثقيف التي تتجرد من مساوئها، وذلك ما نراه ونميل إليه، والله أعلم.

* طالبت منذ سنوات بإنشاء مجلس أعلى للإفتاء في العالم الإسلامي، لتوحيد الفتوى، ما الهدف من وراء هذه الدعوة على الرغم من وجود مجامع للفقه في العالم الإسلامي؟

- الهدف من الدعوة الوصول إلى وحدة في الرأي، والخروج من حالة الخلاف الفقهي خاصة حول القضايا العامة التي تهم المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بمعنى أن هذا الكيان لا يهدف إلى توحيد الفتوى بشكل عام، حيث إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والأشخاص والهيئات، ولا ينكر تغير الأحكام بتغير هذه الجهات، والمراد بالأحكام هنا الأحكام المبنية على الأعراف والعادات، والأحكام الاجتهادية التي استنبطت بدليل القياس أو المصالح المرسلة أو الاستحسان أو غيرها من الأدلة الفرعية، وإنما نسب التغير لتغير الزمان في كلام بعض أهل العلم، لأن الزمان هو الوعاء الذي تجري فيه الأحداث والأفعال والأحوال، وهو الذي تتغير فيه العادات والأعراف، وإنه لو ظل العرف كما هو عدة قرون لم يكن أحد يستطيع أن يغير الفتوى. أما الأحكام التي لا تبنى على الأعراف والعوائد والأحكام الأساسية النصية بالأمر أو النهي فإنها لا تتغير بتغير الزمان ولا بتغير المكان ولا بتغير الناس، كوجوب الصلاة والصيام والزكاة والحج وإباحة البيع والشراء والرهن ووجوب الميراث وغيرها من الأحكام المأمور بها، وكذا حرمة الزنى وشرب الخمر والقمار وغيرها من الأمور المنهي عنها.

* ما رأي فضيلتك في فتاوى الفضائيات الذي يصدرها غير المتخصصين في أمور الشريعة؟

- هؤلاء دخلاء على مجال الإفتاء وأحدثوا بلبلة وفوضى في الثقافة وفي الخطاب الديني، فحينما تشاهد برنامجا في إحدى القنوات إذا بك أمام رجل متشدد يريد أن يحتكر لنفسه الحقيقة، وتنتقل إلى قناة أخرى لتجد متسيبا، ثم تتركه وتتحول إلى قناة ثالثة لتجد رجلا يدعو إلى الوسطية، وتتركه وتذهب إلى قناة رابعة لتشاهد وتسمع من يحصر الدين في الروحانيات، وتتحول إلى خامسة لتجد من يحصر الدين في السياسة وهكذا.

* برأيك كيف تحدث فوضى الفتاوى؟

- فوضى الفتاوى تحدث عندما نسمي الإجابة عن أي سؤال بأنها «فتوى»، فمثلا عندما يسألني أحد عمن كان مع الرسول (صلى الله عليه وسلم) في الغار فهذه ليست فتوى، وقس الأمر على ذلك، والناس يسمونها فتوى، ونحن وراءهم نسميها كذلك، ومن هنا نؤكد أن الفتوى أمر يتعلق بالتفريق بين المسائل والقضايا وبين الرأي.

* من وجهة نظرك، هل هناك ضغوط سياسية تمارس من أجل إصدار بعض الفتاوى؟

- لا مطلقا، وكل المفتين يشهدون بهذا، ونحن لدينا أكثر من 120 ألف فتوى أصدرتها دار الإفتاء المصرية منذ عام 1895 إلى يومنا هذا، ولا توجد فتوى واحدة فيها أيدت ورسخت شيئا يتعلق بالحاكم أو الحكومة، والحقيقة أنني لم أجد مطلقا أي لون من الخلط بين الفتوى والسياسة على مدى 112 عاما، ولم يحدث أي تأثير أو ضغوط سياسية، وإن كان الشائع غير هذا.

* إذن كيف يتم إصدار الفتاوى؟

- أصل الفتوى بها ثلاثة أركان هي المصادر، والواقع الذي نسقط عليه الفتوى، وكيفية الوصل بينهما، فالواقع جزء من الفتوى وركن من أركانها، والوصل يتم عن طريق دراسة المصالح والمقاصد الشرعية ودراسة ما ستؤول إليه هذه الفتوى، ودائما ما نتحرى ذلك لأن هذه أصول الفتوى.

* هناك بعض الفتاوى صدرت عن دار الإفتاء وأثير حولها الجدل، مثل المعاملات البنكية مع البنوك غير الإسلامية، ما تعليقكم.. وما هو الرأي الشرعي الذي تؤيدونه في مسألة المعاملات البنكية؟

- هذه مسألة خلافية بين العلماء، والمسألة الخلافية عادة ما تدور حولها التساؤلات هل هذا فيه حلال أم حرام. وأقول إن استثمار الأموال في البنوك التي تعطي فائدة جائز، خصوصا أن الفوائد البنكية على ما يجري عليه العمل الآن مختلف فيها اختلافا واسعا منذ أكثر من مائة عام، والخلاف يجري فيها، فبعض العلماء أكدوا على أنها حرام، وآخرون اعتبروها ربا ومضاربة فاسدة، والقاعدة تقول إن المذاهب إذا اختلفت في شيء ما، فإنه تكتنف هذا المال شبهة «وتسمى شبهة المذهب»، وشبهة المذهب يستحب الخروج منها، ولا يجب الخروج منها، والذي يجب الخروج منه هو شبهة المحل، وشبهة المحل عندما يأتيني طعام لا أعرف إن كان ذبح على الشريعة الإسلامية أم لم يذبح، فيجب ألا آكل منه. فالخروج من شبهة المحل واجبة، والخروج من شبهة المذهب والطريق مستحبة.

* وهل يجوز الحج من الأموال المستثمرة في البنوك؟

- اختلف الفقهاء منذ ظهور البنوك في العصر الحديث في تصوير شأنها طبقا لاختلاف أهل القانون والاقتصاد في ذلك التصوير فيما إذا كانت العلاقة بين العملاء والبنك هي علاقة القرض كما ذهب إليه القانونيون أم هي علاقة الاستثمار كما ذهب إليه الاقتصاديون، والاختلاف في التصوير يبنى عليه اختلاف في تكييف الواقعة، حيث إن من كيفها قرضا عده قرضا جر نفعا، فكان الحكم بناء على ذلك أنه من الربا المحرم، ثم اختلفت الفتوى فرأى بعضهم أن هذا من قبيل الضرورات التي يجوز للمسلم عند الاضطرار إليها أن يفعلها بناء على قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات»، ورأى بعضهم أنه ليس من باب الضرورة حيث إن الضرورة تعرف شرعا بأنها «ما إن لم يتناوله الإنسان هلك أو قارب على الهلاك»، وبعض هؤلاء رأوا الجواز من قاعدة الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، ومن سلك في التكييف مسلك الاستثمار فبعضهم عدها من قبيل المضاربة الفاسدة التي يمكن أن تصحح بإجارة، وبعضهم ذهب إلى أنها معاملة جديدة وعقد جديد في الفقه الإسلامي الموروث فاجتهد فيه اجتهادا جديدا.

* ومن وجهة نظرك لماذا هذا الخلاف في مسألة البنوك؟

- إن الخلاف قد وقع في تصور مسألة التعامل في البنوك ومع البنوك وفي تكييفها، وفي الحكم عليها، وفي الإفتاء بشأنها والقواعد المقررة شرعا؛ فأولا: إنه ينكر ترك المتفق على فعله أو فعل المتفق على حرمته ولا ينكر المختلف فيه.

ثانيا: إن الخروج من الخلاف مستحب.

ثالثا: إنه من ابتلي بشيء من المختلف فيه فليقلد من أجاز.

ومن المعلوم من الدين بالضرورة حرمة الربا حيث وردت حرمته في صريح الكتاب والسنة، وأجمعت الأمة على تحريمه، لكن الخلاف حدث في ما إذا كان هذا الحاصل في واقع البنوك من قبيل الربا المحرم شرعا، أم أنه من قبيل العقود الفاسدة المحرمة شرعا، أم أنه من قبيل العقود المستحدثة، والحكم فيها الحل إذا حققت مصالح أطرافها ولم تشتمل على ما حرم الله تعالى. وبناء على ما سبق فإنه يجب على كل مسلم أن يدرك أن الربا قد حرمه الله تعالى وأنه متفق على حرمته، ويجب عليه أن يدرك أن أعمال البنوك اختلف في تصويرها وتكييفها والحكم عليها والإفتاء بشأنها، وأنه يجب عليه أن يدرك أن الخروج من الخلاف مستحب، ومع ذلك فله أن يقلد من أجاز ولا حرمة عليه حينئذ في التعامل مع البنك بكل صوره أخذا وعطاء وعملا وتعاملا ونحوها، وعليه يجوز لمن أودع أموالا في البنك ويريد أن يحج منها أن يحج منها وحجه إن شاء الله صحيح ولا وزر عليه.