علي عزت بيغوفيتش: «التأمل والتعليم» في أعماله الكاملة باللغتين البوسنية والإنجليزية

بمناسبة الذكرى السابعة لرحيل المفكر والزعيم السياسي البوسني المسلم

الرئيس البوسني الراحل علي عزت بيغوفيتش («الشرق الأوسط»)
TT

تأتي الذكرى السابعة لرحيل المفكر والزعيم السياسي الإسلامي البوسني، علي عزت بيغوفيتش، (1925/ 2003) والرجل لا يزال حاضرا في المشاهد كلها، سياسة وثقافة. وقد كان أجمل تعبير عن وفاء البوسنيين للراحل، انتخاب ابنه، باكر، لرئاسة البلاد في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 2010. كما شهدت البوسنة عدة فعاليات، كان منها هذا الجهد المتواضع الذي نقدمه للقراء حول «التأمل والتعليم» كما يراهما، علي عزت بيغوفيتش، من خلال أعماله الكاملة التي طبعت مؤخرا باللغتين البوسنية والإنجليزية.

يؤكد بيغوفيتش على أن «الحضارة تعلم، أما الثقافة فتنور» وأن الأولى، «تحتاج إلى تعلم، أما الثانية فتحتاج إلى تأمل». ويشرح علي عزت، رحمه الله، التأمل بأنه «جهد داخلي (جواني) للتعرف على الذات وعلى مكان الإنسان في العالم»، ويميز بينه وبين التعلم أو الدراسة: «هو نشاط جد مختلف عن التعلم وعن التعليم وجميع المعلومات عن الحقائق وعلاقاتها بعضها ببعض». أما النتيجة فيحددها الراحل بمكوني الإنسان؛ الروحي والمادي: «يؤدي التأمل إلى الحكمة والكياسة والطمأنينة، وإلى نوع من التطهير الداخلي (الجواني) الذي سماه الإغريق (قطرسيس). إنه تكريس النفس للأسرار والاستغراق في الذات للوصول إلى بعض الحقائق الدينية والأخلاقية والفنية». وعلى الرغم من أن علي عزت يستلهم مبادئ القرآن في تفسيره للإنسان الموضوعي، وهو ما حفلت به آيات الذكر الحكيم، كقوله تعالى: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، وقوله تعالى: «ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا فقنا عذاب النار»، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «فكر ساعة خير من عبادة سنة»، إلا أنه اكتفى بالمعنى لأن الخطاب موجه للعقل الغربي ابتداء. وعلى الرغم من الاحتفالية الزائدة بالعلمانية في الغرب، فإن بيغوفيتش يشير في أحد هوامش أعماله إلى انتشار التنجيم في العصر الحديث بما لا يقارن مع العصور القديمة، على الرغم من تقدم الحضارة، وهو ما يعني أن الجانب النفسي فرض نفسه وإن كان بطريقة خاطئة لتعويض الجوع الروحي في العصر الحديث. ويمضي علي عزت في تعريف التعليم، وما يختلف فيه عن التأمل، مظهرا قدرة هائلة على التحليل وتبسيط المعقد من دون إخلال أو سقوط في التعميم، أو إمعان في الترميز أو تشفير الكلمات والعبارات. أما «التعليم فيواجه الطبيعة لمعرفتها ولتغيير ظروف الوجود. يطبق العلم، الملاحظة والتحليل والتقسيم والتجريب والاختبار. بينما يعنى التأمل بالفهم الخالص، بل إن الأفلاطونية الجديدة تزعم أنه طريقة للفهم فوق عقلانية»، الملاحظة التأملية، كما ينقل بيغوفيتش عن، أرتور شوبنهور، «متحررة من الإرادة ومن الرغبة، إنها ملاحظة لا تتصل بوظيفة أو مصلحة». فالتأمل «ليس موقف عالم، بل موقف مفكر، أو شاعر، أو فنان، أو ناسك». ولا ينفي الكاتب أن يكون العالم متأملا، ولكن ليس بصفته عالما»، وقد تعرض للعالم بعض لحظات من التأمل «لكنه يفعل هذا، لا بصفته عالما، ولكن باعتباره إنسانا أو فنانا، فجميع الناس فنانون بشكل أو بآخر». ويقول: «يمنح التأمل قوة على النفس، أما العلم، فإنه يعطي قوة على الطبيعة. وتعليمنا في المدارس يزكي فينا الحضارة فقط ولا يساهم بشيء في ثقافتنا».

يرى بيغوفيتش أن التأمل أمر مهم في عصرنا، لكن الواقع لا ينبئ بذلك «في عصرنا هذا يتعلم الناس، لكنهم كانوا في الماضي معتادين على التأمل. لقد كان حكماء (لابوتا) يستغرقون في تأملاتهم حتى إنهم لم يكونوا يلتفتون أو ينصتون إلى أولئك الذين كانوا يزعجونهم بكثرة الأسئلة». ويتطرق إلى عدة قصص عن المتأملين المشهورين في التاريخ: «تذكر لنا الأسطورة بأن، بوذا، قبل أن يتلقي الإلهام كان يقف على ضفة النهر طوال ثلاثة أيام نهارا وليلا مستغرقا في التفكير غير شاعر بمرور الوقت. وترك لنا (زينوفون) قصة مماثلة عن الفيلسوف سقراط، قال: (في صباح أحد الأيام كان سقراط يفكر في أمر لم يجد له حلا، فلم يستسلم بل استمر في التفكير من الفجر الباكر حتى وقت الظهيرة، ظل واقفا لم يبرح مكانه مستغرقا في تفكيره. وعند الظهيرة جذب وضعه اهتمام الناس، وسرت شائعة بين الجمهور المحب للاستطلاع أن سقراط لا يزال واقفا منذ طلوع الفجر يفكر في شيء. وفي المساء، جاء رهط من الأيونيين، بدافع حب الاستطلاع، وقد أحضروا معهم الحصير فاضطجعوا عليه في العراء ليشاهدوا سقراط، وليروا ما إذا كان سيظل واقفا طوال الليل. وظل سقراط بالفعل واقفا حتى الصباح التالي. وما إن ظهر ضوء النهار حتى استقبل الشمس بالصلاة ثم انصرف لحال سبيله».

لقد نجح سقراط في هذه القصة، فقد كان يعلم الناس الحكمة من خلال التأمل، وجلب الاهتمام واندفاع الناس لمراقبته وقتا طويلا، حقق به قصده وهو لفت الانتباه إلى التأمل والصلاة.

ويضرب لنا بيغوفيتش قصة أخرى: «لقد أمضى، تولستوي، حياته يفكر في الإنسان ومصيره، بينما كان، نيوتن قد استولت عليه طوال حياته مشكلة، الجسم الساقط». ويقول: «أن تتأمل أو تتعلم، أو تدرس، نشاطان مختلفان أو نوعان من الطاقة يستهدفان اتجاهين متعارضين؛ أدى الأول، بتهوفن، إلى إبداع السمفونية التاسعة، وأدى الثاني، نيوتن، إلى اكتشاف قوانين الجاذبية والحركة». ويشدد على أن «التعارض بين التأمل والتعلم يكرر نفسه في التعارض بين الإنسان والعالم، بين الروح والذكاء، بين الحضارة والثقافة».

تساءل بيغوفيتش مرة قائلا: «ما موضوع التأمل؟»، ثم يجيب: «في الطبيعة نستطيع أن نكشف العالم والإنسان، في حقيقة الأمر كل شيء يمكن اكتشافه ما عدا الذات الإنسانية أو الشخصية، إنه فقط من خلال هذه الذات نتصل باللانهائي خلال الذات، ومن خلالها فحسب، نشعر بالحرية، وندرك العالم الآخر الذي نشترك معه في ميراث واحد». وخلافا لكل الكائنات الأخرى التي تحركها الغريزة، «الإنسان وحده فقط يستطيع أن يشهد بوجود عالم الأرواح والحرية. ومن دون الذات يستحيل أن نشهد عالما وراء عالم الطبيعة. لأن كل شيء آخر بجانب ذات الإنسان هو وجود داخلي (براني) ظاهري».

يقر بيغوفيتش بأن «التأمل استغراق في الذات.. محاولة للوصول واكتشاف هويتنا وحقيقة حياتنا ووجودنا. لهذا السبب، فالتأمل لا يحاول الإجابة عن أسئلة عن المجتمع أو البشر. إنه معني فقط بالتساؤلات التي يضعها الإنسان أمام ذاته. وإذا دققنا النظر في التأمل، نجد أنه ليس وظيفة من وظائف الذكاء». وكعادته، لا يترك بيغوفيتش القارئ ضائعا بين مفرداته وقوة معلوماته، بل يضرب الأمثلة المتعددة والمتكررة حتى لا يبقى أمام القارئ أي لبس مهما كانت درجة استيعابه، «فالعالم وهو يصمم نوعا جديدا من الطائرات لا يتأمل، إنما يفكر أو يدرس ويبحث ويختبر ويقارن، وكل هذه الأنشطة في مجموعها أو منفردة ليست تأملا. أما العابد والشاعر والمفكر والفيلسوف والفنان، فإنهم يتأملون، إنهم يحاولون الوصول إلى الحقيقة الكبرى.. السر الوحيد الأكبر.. هذه الحقيقة تعني كل شيء ولا شيء.. كل شيء بالنسبة للروح، ولا شيء بالنسبة لبقية العالم». من أجل ذلك، «كان التأمل نشاطا دينيا». ويعود بيغوفيتش إلى أبي الفلسفة، أرسطو: «عند أرسطو الفرق بين العقل والتأمل هو الفرق بين الإنساني والإلهي. في البوذية الصلاة مجرد تأمل. وفي المسيحية نجد أن طقوس الرهبانية التأملية ظاهرة جد منطقية. ويذهب الفيلسوف، سبينوزا، إلى أن التأمل أرقى شكل وهدف للأخلاق». وفي الإسلام التأمل أفضل من عبادة سنة كما ورد في الحديث.

ويعطي بيغوفيتش وجها آخر للمقارنة بين التعليم والتأمل: «التعليم وحده لا يرقى بالناس ولا يجعلهم أفضل مما هم عليه أو أكثر حرية أو أكثر إنسانية. إن العلم يجعل الناس أكثر قدرة، أكثر كفاءة، أكثر نفعا للمجتمع». ويؤكد: «لقد برهن التاريخ على أن الرجال المتعلمين والشعوب المتعلمة يمكن التلاعب بهم؛ بل يمكن أن يكونوا أيضا خداما للشر، ربما أكثر كفاءة من الشعوب المتخلفة»، كما أن «تاريخ الإمبريالية سلسلة من القصص الحقيقية لشعوب متحضرة شنت حروبا ظالمة استئصالية استعبادية ضد شعوب متخلفة أقل تعليما، كان أكبر ذنبهم أنهم يدافعون عن أنفسهم وحرياتهم. إن المستوى التعليمي الراقي للغزاة لم يؤثر على الأهداف أو الأساليب، لقد ساعد فقط على كفاءة الغزاة وفرض الهزيمة على ضحاياهم».