الأعياد الإسلامية والمسيحية.. دعوة للوفاق لا للافتراق

إميل أمين

TT

سن الخالق سبحانه وتعالى الأعياد للأمم والشعوب قاطبة من أجل مزيد من الوصل والتواصل بين الخالق والمخلوق، ولغسل الأنفس من أدران الحياة الدنيا، وكشف مباهج الحياة الأخرى، ولذلك قيل إسلاميا إن يوم العيد يوم فرح وسرور لمن طابت سريرته وخلصت لله نيته، وإن العيد ليس لمن لبس الجديد وتفاخر بالعدد والعديد، وإنما العيد لمن خاف يوم الوعيد واتقى ذا العرش المجيد، وسكب الدمع تائبا رجاء يوم المزيد.

وعلى الجانب المسيحي الدعوة واضحة جلية «لنعيد ليس بخميرة عتيقة ولا بخميرة الشر والخبث، بل بفطيرة الإخلاص والحق».

ولعل السؤال الذي يطل برأسه من نافذة التشارعات والتنازعات الطائفية والمذهبية في الأعوام الأخيرة: هل يمكن أن تكون الأعياد الإسلامية والمسيحية على حد سواء فرصة للتلاقي والاتفاق، لا دعوة للتباعد والافتراق؟

الثابت أن الأعوام الأخيرة قد شهدت تقاربا تاريخيا ملحوظا يكاد يقترب من التداخل بين الأعياد المختلفة، فيجيء شهر رمضان الفضيل ذات مرة في زمن الميلاد «الكريسماس»، أو يصادف صوم مسيحي، صوم الشهر الكريم، وقد حدث أكثر من مرة أن التقى رأس السنة الهجرية ببعض الأعياد أو الاحتفالات المسيحية، وكأن الأقدار تقودنا للتوقف أمام هذه الإشكالية المحدثة، إشكالية العيش الواحد – ولا نقول المشترك – وروح الابتهاج الواحدة، والمسيرة المتبادلة نحو مدينة الله، حتى إن كانت من باب العادة وليس على سبيل العبادة.

وعلامة الاستفهام المتقدمة في واقع الأمر لا يمكن أن يحار المرء في جواب لها إلا في ضوء التجربة التاريخية، وفي المبتدأ وفي المنتهى فإن كل تجربة لها قاض طبيعي ينظر ويحكم، والقاضي هنا هو التاريخ، فكيف عاش المسيحيون والمسلمون في العالم القديم بهجة الأعياد؟ وإلى أي حد ومد قد فهم الأقدمون المعنى الاسمي من ورائها؟ وهل أخذ المحدثون بتجربة الأوائل أم «حفروا لأنفسهم آبارا مشققة لا تمسك ماء»؟

يطيب لنا في هذا المقام أن نتوقف مع مثالين، الأول في عالمنا العربي، والثاني أوروبي.

أما الأول فيتعلق بمصر، صاحبة التجربة الإنسانية والإيمانية الثرية، وكيف أن قبول المصريين لأديان جديدة كالمسيحية والإسلام لاحقا، أمر لم يقدر له أن ينتزع من تراكمها الحضاري فرحة الاحتفال بالعيد الواحد، خاصة عبر المناسبات التراثية، التي اكتست لاحقا بالثوب الديني.

الشاهد أن من يقرأ بتحقيق وتدقيق للمؤرخين المصريين المسلمين في العصور الوسطى مثل القلقشندي، والمقريزي، وأبي المحاسن بن تغري بردي، والسخاوي، والعيني، أولئك الذين كتبوا عن حياة أهل الذمة في مصر وعن مذاهبهم وأعيادهم وتعايشهم مع إخوانهم المسلمين، يلاحظ أن المصريين - مسلمين ومسيحيين - كانوا يحتفلون بالأعياد الإسلامية والمسيحية على السواء.

ولعل ذلك يرجع إلى الكثير من المصريين المسلمين الذين كانوا من أصل قبطي، وقد عدد المؤرخون القدامى تلك الأعياد، أو وصفوا الاحتفال بها، ومن المؤرخين الذين اهتموا بالكتابة عن أعياد الأقباط واحتفالات المصرين بها: المقريزي، وهو عمدة مؤرخي العصور الوسطى في مصر.

يكتب المسعودي عن الاحتفال بليلة عيد الغطاس في مصر بعد أن شاهدها بعينيه، فيقول: «ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها – يجمع الغطاس بين مصر المسيحية والفرعونية عبر نهر النيل - وهي ليلة إحدى عشرة تمضي من طوبة وستة من كانون الثاني، ولقد حضرت سنة ثلاثين وثلاثمائة هجرية، 941 ميلادية، لليلة الغطاس بمصر، والإخشيدي محمد بن طغج في داره المعروفة بالمختارة في الجزيرة الراكبة للنيل، والنيل مطيف بها، وقد أمر فأسرج من جانب الجزيرة وجانب الفسطاط ألف مشعل غير ما أسرج أهل مصر من المشاعل والشمع وقد حضر النيل في تلك الليلة مئات الآلاف من الناس والمسلمين والنصارى».

إلى آخر هذا الوصف الطريف الذي يبين فيه المسعودي بهجة هذا الاحتفال واشتراك المسلمين والأقباط فيه، فضلا عن أمير مصر محمد بن ضغج الإخشيدي مؤسس الدولة الإخشيدية.

وقد اختلفت هذه الاحتفالات من حيث البهجة والعظمة باختلاف الأزمنة، ومن أقدم ما نعرفه عن هذه الاحتفالات ذات البعد الإنساني الواحد ما كتبه ابن رستة في كتابه «الأعلاق النفيسة» الذي أُلف سنة 290 هجرية.

وقد امتدت هذه المشاركة الوجدانية إلى العصور المحدثة، فيخبرنا «جورج يونغ» في كتابه «مصر» عند حديثه عن الأقباط والمسلمين قائلا: «إنه لمن المثير للفضول أن يلاحظ المرء العلاقة بين المصريين والتي تظهر أوثق ما تكون في المناسبات الدينية؛ إذ يبني الأقباط مساجد المسلمين، كما يعيد المسلمون بناء الكنائس القبطية، ويشترك الشيوخ والقساوسة في الاحتفالات الدينية وما بقي من مظاهر الديانات القديمة مثل وفاء النيل وشم النسيم، ويذهب المسلمون والأقباط إلى زيارة الأضرحة ذاتها للأولياء والقديسين المحليين، ويتناقلون الأقاصيص ذاتها ويهزجون بالأغاني ذاتها، ولهم الفضائل عينها، والصفات نفسها، ووجهات النظر هي هي عن الحياة الآخرة».

ومما لا شك فيه أن حياة ثقافية دينية فكرية على هذا النحو لم تكن لتتأتى إلا من خلاف أطروحات فكرية وتعليمية رفيعة الشأن، فلم يكن الأزهر يومها موصدا بابه من دون القبط، وقد ذكرت وثائق عدة أنه كان للأقباط رواق قديم في الأزهر يتلقون فيه العلوم المنطقية والشرعية، وقد تخرج في الأزهر إخوة أقباط من أئمة المؤمنين ومنار للدين مثل «أولاد العسال» الذين هم علماء دين ودنيا، ومن أسف شديد معروفون عالميا وأوروبيا خصيصا بأكثر مما هم معروفون عربيا، ومن أشهر أعمالهم المجموع الصفوي للشيخ صفي أبي الفضائل بن العسال.

ويطول بنا الحديث عن التجربة المصرية، ومنها نشد الرحال إلى التجربة الأوروبية، ويا زمان الوصل في الأندلس.

هي الأندلس إذن، بوابة التسامح الأوروبي في القديم والمثال على التعايش بين اليهود والمسلمين والمسيحيين على السواء.

والمعروف أن المجتمع الأندلسي في فترة الحكم الإسلامي الممتدة من 92 هجرية إلى 798 هجرية اتسم بالتنوع والتعدد الثقافي والعراقي، فقد كانت البلاد مزيجا من عرب وبربر، ومن مسيحيين ومسلمين، من إسبان وصقالبة، وغيرهم من الأوروبيين، هؤلاء جميعا انصهروا في بوتقة واحدة، تجلت في طرح الحضارة العربية الإسبانية صاحبة حرية العبادات ومانحة التصريحات بإقامة الشعائر الدينية، حتى اشتهر من اليهود والمسيحيين هناك عدد وافٍ من أعلام الأندلس في الطب والفلسفة والأدب وسائر العلوم والفنون.

وما من شك أن التمازج الذي حدث بين المسلمين والمسيحيين إبان الحكم الإسلامي للأندلس قد أسهم في انتشار هذه الظاهرة وقد كان من الطبيعي، والحالة هذه، أن نصارى الأندلس بدورهم يشعرون بالشعور المشترك ذاته من البهجة عندما تحين أعياد المسلمين كالفطر والأضحى وعاشوراء والمولد النبوي.

وباختصار القول، فإن التجربة الأندلسية في زمن الأعياد تقودنا إلى فهم متقدم تجاه مجتمع احترم تعدد الثقافات الفرعية في داخله وجعل من تنوعها عنصر إثراء يتجاوز المعتقدات والعادات الفردية ليرسخ ثقافة المجتمع المتسامح، الذي عرف كيف تكون له أعياد أو مناسبات مشتركة، يلتئمون من حولها ويعبرون فيها عن تألفهم مع خصوصية كل منهم العقدية، وهذه هي المعضلة والسهل الممتنع الذي قيض لهم النجاح فيه، ومن خلاله قدموا أنموذجا فريدا يعز مثيله في عالمنا المعاصر.. هل من بقية باقية لهذا الطرح الحضاري الخلاق أم أنه أضحى أثرا بعد عين؟

نميل دائما إلى النظر عبر نصف الكوب الممتلئ، وليس أدل على الأمل في الغد من الكثير من المسيحيين العرب ومنهم المصريون على نحو خاص جاهروا مرارا وتكررا بأنهم «مسيحيو الديانة، مسلمو الثقافة والوطن»، كما قال القطب الوفدي الكبير مكرم عبيد في الأربعينات من القرن الماضي، أما الأب سرجيوس، زميل النضال في ثورة 1919 الذي اعتبر خطيب الثورة المفوه من على منبر الأزهر، فقد باتت دعوته ولا تزال حتى الساعة مثار جدال فكري «ليمت الأقباط وليحيا المسلمون أحرارا»، وقد قالها في معرض الحديث عن محاولات الاحتلال الإنجليزي اللعب على حبائل الطائفية الدينية لتفريق المصريين.

صحة أي حضارة ترتبط ارتباطا مباشرا بقدرتها على تصويب مسارها وعلى تعلية إيجابياتها عبر تجارب الماضي المنير والسير في هدية لجهة المستقبل الأكثر إشراقا.. فهل من أمل في غد يحمل مشهدا مختلفا وموقع نظر مغايرا يستحق الذهاب إليه والوقوف عنده بعض الوقت من دون أن يكون الوقوف زمانا ضائعا؟

* كاتب مصري