مفكر بوسني: التخلف التقني الذي يعيشه المسلمون يحرض الآخرين عليهم

حافظوفيتش لـ «الشرق الأوسط»: الإسلاموفوبيا ليس وليد اللحظة

TT

الدكتور رشيد حافظوفيتش، البوسني، من الأكاديميين والكتاب المسلمين الذين لا يعرفهم كثير من العرب، رغم إسهاماتهم الفلسفية، وكل ما يتعلق بالعلوم الإنسانية. وهو منذ عدة سنوات يبحث في المنابع الأصيلة للأفكار، وعلاقتها بالبيئة التي نشأت فيها، وبالإرث التاريخي لجذورها المتشعبة. وعلاقتها بالدين والميتافيزيقا، وطلاسم العقل البشري بتناقضاته المختلفة والمعقدة. فالعقل البشري ليس آلة، وإنما آلية، قادرة على النمو، وقابلة للضمور، لدى كل فرد. وكما العقل، لا يستقر الكثير ممن يأخذ طابع المعقول على إطلاقاته، أو معقولياته. والمعقوليات ليست واحدة لدى جميع العقول، فهي متعددة، ولا توجد وحدة للعقل البشري حول الكثير من «المعقوليات». وتاريخ الفلسفة والعلوم جميعا يؤكدان هذه الحقيقة، ولا تزال المدارس الفكرية تستدرك الواحدة على الأخرى، والأساتذة على أساتذتهم، والطروحات على الطروحات الأخرى، وستظل هكذا حتى يوم القيامة. فليس للبحث نهاية، ويمكن إعادة قراءة مسلمات التاريخ في ضوء المعارف وطرق البحث المعاصرة للوصول لبعض الحقيقة، فالحقيقة الكاملة الجامعة الشافية، تبقى غيبا، وحتى يوم القيامة.

* الأمر الذي يدفعنا لطرح السؤال التقليدي، ما الذي جرى، لتتوقف أرض المسلمين عن الدوران، وتتسطح بيضة الإسلام العلمية في العالم؟

- يعيد البعض ذلك إلى وقف باب الاجتهاد لمدة 800 عام، ولكن ذلك على وجاهته، ليس السبب الوحيد لتأخر المسلمين، وتقدم غيرهم. فقد مرضت السياسة وفقدت روح التحفيز على الإبداع والاجتهاد، فتجمد التفكير وتوقف البحث وانحصر التأمل. وكانت المقولة التي لا تزال سائدة اليوم في بلاد المسلمين، ليس بالإمكان أحسن مما هو كائن. وعندما تستمع للبعض وهو يعدد الإنجازات، تحسب أن بلده هو القوة العظمى الوحيدة في العالم. توقف البحث والإبداع واكتفى الجميع بالتقليد. فالقضية أكبر من وقف عملية الاجتهاد، لأن الاجتهاد أوقف أكثر منه توقف. في موضوع الدين ترك الأمر للأموات الأحياء بعلمهم، وفي موضوع الدنيا ترك الأمر للساسة الأحياء الأموات بأنانيتهم، وتقديم ذواتهم وشهواتهم على مسؤولية السلطة، وعلوية النص، وشرعية اليمين، أو الأمة. وإذا نظرنا إلى التراث الفقهي في مجال العبادات نجده بحورا من الحبر، وجبالا من الورق. وهذا ليس استنقاصا من أهميته بل إشادة بجهود المحبرين والكاتبين. لكننا لا نجده كذلك فيما يتعلق بالاقتصاد والسياسة، مما يعني أن الاجتهاد لم يوقفه الفقهاء وإنما السلاطين. والسياسة كان لها دور أيضا في ظهور الفرق، وانزواء الكثيرين إلى زوايا، في بناء الإسلام الفسيح، هربا من الحياة ومن تبعات تحمل المسؤولية والشهادة على الناس. وربما مثل الأئمة الأربعة، وعدد قليل من العلماء عبر العصور، كالعز بن عبد السلام، استثناء في التاريخ الإسلامي. وهذا بعض وجوه تأخر المسلمين، وهو تأخر له نظير في العالم الغربي، لكنهم ومنذ القرن الثامن عشر بدأوا بقلب المعادلة التي كانت سائدة.. وتاريخنا يختلف عن التاريخ الغربي، فعلاقة الدين بالسلطة في الغرب كانت تحالفا. أما في التاريخ الإسلامي فهي هيمنة السياسة على الدين، وهي حالة لا تزال قائمة حتى اليوم.

* السياسة كان لها دور في تخلف المسلمين منذ عصور الانحطاط.. وفي الوقت الراهن؟

- السياسة مارست دور التخدير، وتفجير الخلافات داخل الأمة، وتقديم أهل الثقة على أهل الخبرة، وتحويل الأمة إلى قطعان، وثرواتها إلى ممتلكات خاصة. والفرق التي ظهرت في التاريخ الإسلامي كالقدرية والجبرية وغيرها نتاج سياسي بامتياز بشكل مباشر أو غير مباشر. ولكن للإنصاف كانت هناك، فترات ذهبية في التاريخ الإسلامي أدى فيها الحكام دورا إيجابيا شجعوا العلماء، وحثوهم على البذل والعطاء. أما اليوم فحال المسلمين لا يسر، إذ إن البحث العلمي والتكنولوجي بالأخص لا يحظى بالأهمية التي تليق به. لا سيما ونحن في عصر القوة والأقوياء، وليس الأدب والشعراء. فقد بلغ الأدب والشعر أوجهما عندما سقطت الأندلس. وبعض بلاد المسلمين تعيش إرهاصات أندلسات أخرى. من خلال تشجيع التيارات المعادية لقيم الأمة بأسماء يخفى كثير من حقائقها على مردديها.

* كثير من العلماء والمفكرين المسلمين، مثل مالك بن نبي، والشيخ محمد الغزالي، ومحمد عمارة، وعلي عزت بيجوفيتش، وغيرهم، يرون أن من أسباب تخلف المسلمين، ما يصفه الدكتور يوسف القرضاوي بالجمود والجحود.. فما تعليقكم؟ - البحث عن الحلول السهلة، لا يمكن أن يخرج الأمة من التخلف. سواء باستنساخ النموذج الغربي، تحت أسماء ومصطلحات تؤخذ من بيئتها الخاصة، لتزرع في البيئة الإسلامية بشكل متعسف، وأحيانا مجرد استجابة للضغوط، أو إرضاء للغرب، مع دعاية الضرورة. أو باستنساخ الحلول من الماضي دون مراعاة لطبيعة العصر الذي نعيش فيه، وتطور الحياة في مختلف المجالات. والحل الصحيح هو توظيف الطاقات والإمكانيات من أجل إيجاد حلول لمشكلاتنا، بالاستفادة من الماضي ومن تجارب الآخرين دون ببغائية أو نسخه طبق الأصل. الحل الإسلامي على مستوى المصارف، وعلى مستوى القيم الاجتماعية، وعلى مستوى البيئة، وفي مجال التسامح والتعدد الثقافي والإثني وغيره أثبت جدارته، وإن كانت بعض جوانبه في حاجة لتوضيح أكبر. وأنا أنصح المشتغلين بقضية التطوير أن يقوموا بحوارات واسعة مع العلماء والمفكرين والمثقفين المسلمين وتبادل الأفكار معهم قبل إعلان أي آراء أو إطلاقات معينة، هي مجرد تأثر بشكل ما بالغرب. والتأثر طبيعة إنسانية، وأنا هنا لا أنكرها ولا أتجاهلها، ولكن على المشتغلين بالتطوير أن يكونوا فاهمين لتاريخهم وللثقافة الإسلامية، حتى تكون أفكارهم تجديدية حقيقة وليس استنساخا. ولينتجوا أفكارا جديدة تحافظ على المبادئ الأساسية للإسلام، لأنه لا نهضة لأمتنا من دون ذلك. ونفي هذه المبادئ أو الدعوة للقطع مع التاريخ والثقافة الإسلامية دعوة للانتحار الثقافي وللتلاشي، فالذاتية مطلوبة لا سيما وأن الآخر لن يعطيك هويته مهما تتيمت بها. وستظل الآخر التابع، أو الآخر النسخة غير الأصلية. بل الآخر المغلوب وحتى القرد الذي يحاول تقليد (العالم الحر) دون أن يملك جميع خصائصه وذاتيته.. روح الإسلام هي الطاقة التي نحتاجها للفعل الحضاري والتميز الثقافي. لا يمكن أن نضيف شيئا للعالم، إن لم نكن مسلمين. لأنه من دون الإسلام لن نكون نحن، وفي نفس الوقت لن نكون الآخر. من دون الإسلام سنكون مسخا ليس له هوية، وفي نفس الوقت لا يمكنه الحصول على هوية بديلة.. إذن الإسلام قدرنا، ونحن في حاجة إليه أكثر من حاجته لنا. العالم يريد أن يسمع آراءنا لعلها تضيف شيئا، وليس أن نكرر على مسامعه آراءه هو، فهو عندما يسمع البعض ممن يكررون آراءه يشعر بأنه يتقيأ.

* لو نتحول إلى موضوع ساخن وهو، الإسلاموفوبيا في الغرب. ما هي أسسه ودوافعه، وتوقيته؟

- الإسلاموفوبيا ليس وليد اللحظة، بل ظهر مع ظهور الإسلام كما تعلمون، لإطفاء نوره، وهذا الهدف لا يزال قائما، وسيظل قائما إلى قيام الساعة. لكن في مراحل تاريخية معينة شهدت حالة الإسلاموفوبيا طفرات كبيرة، كالمرحلة التي سبقت وتزامنت مع احتلال بلاد المسلمين. والسبب الأساسي للإسلاموفوبيا، هو ضعفنا، ثم الخلافات الحاصلة بين المسلمين، وغياب الحوار بينهم. وفي نفس الوقت يتسارعون لإقامة الحوارات مع الغرب، تحت لافتة (حوار الحضارات)، أضف إلى ذلك غياب الوحدة السياسية بين المسلمين، وتعدد آيديولوجيات الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين، وتعدد ولاءاتها الدولية، وتناقضاتها. وهناك عقدة مزدوجة من الهوية الإسلامية، سواء لدى البعض في بلاد المسلمين، أو في الغرب. والتخلف التقني الذي يعيشه المسلمون يحرض عليهم الآخرين، ويعجزهم عن الكثير من أوجه الرد. وفي نفس الوقت يحرث الغرب في العالم الإسلامي ويزرع ما يشاء من أفكار ومؤسسات لتغيير الخرائط وكسب الولاءات.

وإذا تحدثنا عن الإسلاموفوبيا، نجد أن الجذور أعمق مما يبدو للبعض، فهو ليس مجرد بحث عن عدو بديل، وأكثر من محاربة انتشار الإسلام في الغرب. بل محاربة الإسلام في أرضه للسيطرة عليه لاحقا. فالجذور العدوانية المعاصرة ضد الإسلام بدأت من القرن الثامن عشر أيضا، فأكثر الكتب عدائية للإسلام كتبت في تلك الفترة التي سبقت احتلال بلاد المسلمين. وهناك إرهاصات دورة استعمار جديدة من خلال ما نشاهده من مظاهر الإسلاموفوبيا. فقد عمد الغرب لتشويه الإسلام والمسلمين لتبرير غزو أراضيهم. أما في الوقت الراهن فهو يقوم بتشويه الإسلام والمسلمين وهو يحتل عددا من بلاد المسلمين كالعراق وأفغانستان وفلسطين، وتوجد أطراف كثيرة في العالم الإسلامي تحت الاحتلال من قبل غير غربيين، حلفاء للغرب. وهناك آلاف الجنود الغربيين في بلاد المسلمين، في القواعد العسكرية، يزيد عددهم عن عدد الجنود الغربيين في الحروب الصليبية 22 مرة.