مسألة الدراسات الإسلامية ـ المسيحية.. وعلاقات المسلمين بالمسيحيين

TT

أعلنت مطرانية صيدا بجنوب لبنان، في حفل كبير يوم السبت الماضي، بمناسبة إعادة افتتاح المطرانية بعد ترميمها وتجديدها، عن إنشاء مركز للدراسات الإسلامية -المسيحية في قاعات بدار الطائفة الكاثوليكية هناك. ويأتي هذا الإعلان ذو الدلالة، بعد انعقاد سينودس (=مجمع) مسيحيي الشرق بالفاتيكان بين 10و24 أكتوبر (تشرين الأول) 2010. وكان للبطريرك غريغوريوس لحام رئيس طائفة الروم الكاثوليك بالمشرق، كما كان لمطارنة الطائفة موقف متميز من قضية فلسطين أثناء انعقاد المجمع وبعده. وقد ظهر ذلك في التوصيات الأربع والأربعين التي صدرت عنه، كما ظهر في المحاضرات التي ألقاها مطارنة الطوائف المسيحية الكاثولكية ممن حضروا المجمع، وشاركوا في وضع أوراقه وتوصياته ومقرراته.

يبلغ عدد المسيحيين العرب اليوم قرابة العشرين مليونا، أكثرهم من الأقباط والروم الأرثوذكس. وفي إحصائية للفاتيكان قبل انعقاد المجمع، أن عدد المسيحيين الكاثوليك بالمشرق يبلغ الخمسة ملايين. والكاثوليك في الأصل حديثو الوجود بالشرق العربي، وأكثرهم في الأصل من الطوائف الأرثوذكسية، والمسيحية الشرقية (السريانية). والأكثر عددا بين الكاثوليك هم الروم الكاثوليك. وكما هو واضح من التسمية فهم قسم من الأرثوذكس (كنيسة الدولة البيزنطية القديمة في الأصل)، انضموا إلى الفاتيكان في حدود العام 1724م. ويأتي بعدهم في العدد الموارنة (السريان) الذين انضموا إلى الفاتيكان أو التبعية لروما في القرن السادس عشر أو السابع عشر. وهناك طوائف سريانية عراقية وسورية صغيرة انضمت أيضا في القرنين التاسع عشر والعشرين. ويضاف لذلك في فلسطين على الخصوص طائفة اللاتين، وهم أبناء وأحفاد الذين جاءوا من أوروبا الكاثوليكية مع الإرساليات والاستعمار، وبقوا ببلدان المشرق.

لقد أوردت هذه التفاصيل عن الكاثوليك العرب والمتعربين، لأنهم هم عماد النشاط الفاتيكاني بالمشرق العربي، كما أنهم الأكثر حيوية في التواصل مع المسلمين. ورغم أن الثقافة الدينية لمعظم المسيحيين على اختلاف طوائفهم صارت عربية منذ أزمان؛ لكن الروم الكاثوليك هم الأكثر إبرازا لها وتأكيدا عليها، وليس في لغة القداس فقط؛ بل وفي الكتابة والتدريس، مع أنهم يتقنون في الغالب الفرنسية كأبنائها. وبطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس لحام، والذي عمل أسقفا من قبل في القدس ودمشق، معروف بأنه أضاف إلى التأكيد على العروبة والانتماء العربي قبل عشر سنوات الذهاب إلى أن كنيسة الروم الكاثوليك الأنطاكية إنما هي «كنيسة المسلمين»، أي إنه لا حساسية لديهم من الإسلام، وأنهم إنما يريدون العيش في كنف المسلمين، كما كان عليه الحال على مدى التاريخ. ويزداد هذا الإعلان أهمية بعد موقف الكاثوليك العرب، في سينودس الفاتيكان؛ وخاصة بعد مقتل نحو الستين مسيحيا بالعراق (على أيدي جماعات إسلامية متطرفة فيما يقال)، وإقبال مسيحيين كثيرين على الهجرة من طريق سورية والأردن أو اللجوء إلى سهل نينوى، أي إلى المنطقة الكردية!

بدأت الحركة الفاتيكانية باتجاه المسلمين كما هو معروف بمجمع الفاتيكان الثاني (1962-1965) حيث جرى الاعتراف بالإسلام باعتباره ديانة إبراهيمية توحيدية يمكن أن تشكل سبيلا للخلاص. وقد تجلى ذلك مباشرة في تكاثف مؤتمرات الحوار التي كان أفراد من المسلمين يدعون إليها للبحث في المشتركات، وإقامة علاقات مع المؤسسات الدينية الإسلامية بالبلدان العربية، ومنها مصر والمملكة العربية السعودية. وفي أواسط السبعينات من القرن الماضي، ومع اشتداد النزاع الداخلي في لبنان، أقدم اليسوعيون الكاثوليك بجامعة القديس يوسف (=الجامعة اليسوعية) على إنشاء معهد الدراسات الإسلامية المسيحية بالاشتراك مع جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية. وقد وضع للمعهد برنامج علمي شارك فيه الطرفان، إضافة إلى نشاطات علمية واجتماعية وثقافية حضورها حر ويجمع شبانا وشابات من أبناء الدينين، والمدرسون من الطرفين أيضا. ولا يزال المعهد قائما، وقد احتفل قبل أسابيع بمرور خمسة وثلاثين عاما على إنشائه. بيد أن الحضور المسلم بالجامعة اليسوعية لا يقتصر على المعهد، بل هناك قسم الدراسات العربية العريق، ونائب رئيس الجامعة مختص باللغة والآداب العربية؛ فضلا عن أن أكثر من 40% من طلاب الجامعة هم من المسلمين. وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي، عمد الأستاذ الألماني البارز من أصول لبنانية عادل تيودور خوري (وله علاقة وثيقة بالفاتيكان، ومن زملاء البابا الحالي) إلى إنشاء «مركز أبحاث الحوار المسيحي - الإسلامي» بحريصا بجبل لبنان، فأقام مؤتمرات، وأصدر، ولا يزال، نحو الخمسين كتابا في الدراسات الدينية والثقافية الإسلامية والمسيحية، ولبعض تلك الدراسات قيمة أكاديمية معتبرة. وإذا كان معهد الدراسات ومركز الحوار ذوَيْ اهتمامات معاصرة؛ فإن الأب اليسوعي من أصل مصري سمير خليل نقل إلى الجامعة اليسوعية بلبنان المركز الذي أنشأه لنشر النصوص التراثية للمسيحيين العرب، والتي كتبت بالعربية منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. وقد نشر هو وزملاؤه وتلامذته نحو الخمسين نصا أيضا، كما نشر أطروحات للماجستير والدكتوراه في موضوعات قديمة ومعاصرة متصلة بالعلاقات الإسلامية - المسيحية. وفي العام 1996 قامت جامعة البلمند (الأرثوذكسية) بإنشاء مركز للدراسات المسيحية - الإسلامية، ظل ناشطا لأكثر من عشر سنوات، في إعطاء الدرجات العلمية، وفي إصدار المنشورات وأعمال المؤتمرات. وعندما كنت مديرا للمعهد العالي للدراسات الإسلامية بالمقاصد (حتى العام 2000) كنا نتبادل الأساتذة والمحاضرات والمؤتمرات مع كل من البلمند واليسوعية.

يشعر المسيحيون العرب بقلق شديد نتيجة تضاؤل أعدادهم، واستشراء الهجرة في صفوفهم. وهم يشكون من بعض الارتفاع في الحساسية ضدهم بسبب التيارات الأصولية، والتي قد لا تمارس العنف عليهم تعصبا، وإنما للضغط على الحكومات التي تتخاصم معها. بيد أن الداء الأكبر في العلاقة ليس الاضطهاد، بل عدم الاهتمام، وانكفاء فئات المجتمع على ذاتها، وعلى خصوصياتها. ولذلك تتضاءل تأثيرات المسيحيين الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، كما تتضاءل «المشتركات» التي كان الطرفان المسلم والمسيحي يحرصان عليها. فالطرفان أو سائر الأطراف تغيرت في الوعي والاهتمام، وتنقضي لدى كل الفئات بقايا المرحلة السابقة التي قاومت حتى السبعينات من القرن الماضي، وفي سائر أنحاء المشرق العربي، وليس في العراق وفلسطين فقط. ولدينا شواهد على العلاقات المتغيرة في أحداث العنف ليس في العراق فقط؛ بل وفي مصر أيضا.

ولا شك أن الكاثوليك بالمشرق هم الأكثر مبادرة لمواجهة هذه المتغيرات السلبية، بسبب وجود القيادة الواحدة، وما يخطط له الفاتيكان من دور أو أدوار في فلسطين ولبنان على الخصوص، حيث لا يزال للمسيحية دور فاعل في السياسة والثقافة والوجود الحر والمتحرك. ولا شك أن مركز الدراسات الإسلامية - المسيحية الجديد بصيدا هو مبادرة تصب في المنحى نفسه، وتستدعي استجابة من المسلمين ما كانت ظاهرة حتى الآن. ففي العقود الماضية - وباستثناء معهد الدراسات الدينية بالأردن - ما كان هناك نشاط إسلامي علمي أو ثقافي داع لنوع من الشراكة أو التشارك مع المسيحيين. والفرصة متاحة الآن بعد السينودس، الذي عبر فيه المسيحيون عن واقعهم وآمالهم، أن تصير الجهات الإسلامية إلى ملاقاتهم في الوسط على المستويين الديني/الثقافي، والسياسي/الاجتماعي.

على مشارف عيد الميلاد ورأس السنة، نشر صحافي ألماني كتابا يتضمن مقابلة طويلة مع البابا بنديكتوس السادس عشر، استبشر فيها خيرا بعلاقات جديدة ومتطورة مع المسلمين العرب والأتراك. وذكر في هذا الصدد زيارة الملك عبد الله بن عبد العزيز للفاتيكان في العام 2007، ومبادرته المستمرة لحوار الأديان والثقافات. كما ذكر بيان الـ 138 عالما مسلما بعنوان: «الكلمة السواء» والموجه للمسيحيين من الأردن وأبوظبي. فمما له فائدته وإيجابياته أن تبادر المؤسسات العلمية والثقافية والدينية للتواصل مع الهيئات المماثلة في الطرف المسيحي، للحفاظ على العيش المشترك، وللتعاون معا في صنع المستقبل العربي، والعلاقة الصحية بالعالم.