أزمة اليسار الإسلامي كما يعبر عنها مشروع التراث والتجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

حاول حسن حنفي من خلال مشروعه «التراث والتجديد» أن يشق طريقا ثالثا ما بين العلمانية المغالية من جهة، والسلفية التقليدية من جهة أخرى، وأن يكون مشروعا شابا يواكب فيه تطورات واقعنا المحلي، والإقليمي، والعالمي من دون أن يفقد التوازن المطلوب بين كل من: الالتزام الوطني، والوعي النقدي.. بين الوعي الإسلامي لحضارته، والوعي الأوروبي لحضارة الغرب المقابلة.

هذا وتعدد الأسباب المانحة مشروعه كل هذه الأهمية، فمنها ما يتعلق بمسار ذلك الطريق الثالث ذاته باعتباره ثالثا، وباعتباره مسارا متميزا تطبق فيه تقنيات فلسفية مبتكرة وشائقة، بل وشائكة، إلى أقصى الحدود. ومنها ما يتعلق بمواضيع ذلك المسار، وخطورتها في تشكيل العقلية الإسلامية المعاصرة، والدين الإسلامي بالمعنى التقليدي: كعلم الكلام، وعلم أصول الفقه وغيرهما. ومنها ما يرتبط بالأهداف الوطنية والقومية والأممية التي يرومها المشروع منذ بدايته. ومنها - عند دارسي الفلسفة بصفة خاصة - ما جذب الانتباه لترامي أطراف ذلك المشروع، وتعقدها، وتشعبها، وتوحدها مع ذلك تحت حدس أساسي واحد وقدرة مبهرة ومرجعية على التنظير، بالإضافة إلى اتساع أبعاد التحليل والنقد وثراء الفروض والمنهج بما يدير الرؤوس! لكن في المقابل من ذلك؛ أثار مشروع حنفي سخط الكثيرين، خاصة الإسلاميين، وأسهم في حدوث ذلك انتشار الفهم المغلوط، أو القاصر، للمشروع من ناحية، وما ارتبط بالمناخ الثقافي العام الذي وضع الرجل - إلى جانب آخرين بطبيعة الحال - في دائرة المشتبه بهم، خاصة بعد مواقفه المدافعة عن حرية الرأي والتعبير، واتهامه بالكفر أكثر من مرة، ووقوفه إلى جانب تلميذه الراحل نصر حامد أبو زيد إبان محنته التي تعرض لها من ناحية أخرى.

لكن إذا كان متوقعا من الإسلاميين أن يعارضوا قراءة حنفي اليسارية للتراث؛ فما الذي يدفع بكل من الماركسيين والعلمانيين لنقد المشروع ومعارضته، على الرغم من إعلان صاحبه صراحة أنه ينتمي إلى اليسار من جهة، وعلى الرغم من علمانيته المضمرة من جهة أخرى؟! للإجابة عن هذا التساؤل يصبح من الضرورة بمكان الوقوف على توصيف حنفي نفسه لذاته ومشروعه حتى يتضح لنا أن الصيغة التي عرف بها نفسه، ووسم بها مشروعه كانت أحد الأسباب الرئيسية في جلب سخط تلك الأطراف جميعا عليه. خاصة إذا وضعنا بعين الاعتبار أن من شأن الإيغال في صيرورة هذا التوصيف أن تبرز لنا الوجه الآيديولوجي المحرك للاتهامات من ناحية، والمعبر في أتم صورة عن طبيعة ومأزق وأزمة الاستقطاب الحاد الذي تعانيه ثقافتنا العربية المعاصرة من ناحية أخرى.

فمن المعلوم أن حنفي يتكئ في اجتراحه لمصطلح «اليسار الإسلامي» على خلفية التهاوي التام الذي لحق بمشاريع الإصلاح في العالم العربي بسبب وقوفه على أرضية المواجهة التاريخية ما بين موقفين حضاريين متصارعين ومختلفين في زمنهما الثقافي. ومن دون الدخول في تفصيلات شتى حول أسباب انتكاسة تلك المشاريع؛ يمكن القول إن التساؤل الرئيسي الذي أرق رواد النهضة: «لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا» قد أفضى - فيما أفضى - إلى تبلور مجموعة من الإجابات المختلفة بشأنه، طغى عليها هاجس البحث عن «إدراك ركب الحضارة»، والأخذ بأسباب التقدم البشري، سواء تم ذلك بالقطيعة مع الماضي والانفصام عنه، أو بالدعوة إلى الرجوع مرة أخرى إلى أسسه «النقية الخالصة».

ونتيجة لذلك؛ أفضى هذا المأزق إلى الثنائية الحادة التي هيمنت - ولا تزال - على الفكر العربي المعاصر؛ ألا وهي: إشكالية الأصالة والمعاصرة، بحيث انقسم هذا الفكر كما سبق وذكرنا إلى موقفين، أولهما «هووي» يكرس الدفاع عن الهوية، وثانيهما «تحديثي» يدعو صراحة إلى نبذ المعتقدات الماضوية، وتبني قيم الحضارة الغربية، ومن هنا برزت دعوة حنفي إلى تجاوز تلك الوضعية الخطيرة، عبر إعادة بناء المشروع الإصلاحي برمته، وتحجيم الغرب، وإرساء نهج جديد للتعامل معه، مطلقا على مشروعه الجديد هذا عبارة، أو توصيف، «اليسار الإسلامي»! في مشروعه هذا يرسم حنفي ما يصح أن نطلق عليه «خارطة طريق» تروم تحقيق المبادئ الإنسانية الكبرى وعلى رأسها: المساواة، والوحدة، والعدالة، والاستقلال، ودعم ثورات المستضعفين في الأرض، المضطهدين في كل زمان ومكان، ومن هنا أيضا جاء تقسيمه التاريخ الإسلامي إلى يسار ويمين: «فالمعتزلة يسار، والأشاعرة يمين. والفلسفة بها يسار ويمين، أيضا، فالفلسفة العقلانية الطبيعية عند ابن رشد يسار، والفلسفة الإشراقية الفيضية عند الفارابي وابن سينا يمين. والتشريع به يسار ويمين، فالمالكية التي تقوم على المصالح المرسلة يسار، والفقه الافتراضي عند الحنفية يمين. وفي التفسير، ثمة يسار ويمين أيضا، فالتفسير بالمعقول يسار، والتفسير بالمأثور يمين؛ والحسين سيد الشهداء يسار، ويزيد والأمويون يمين. وفي تاريخ الفتنة الكبرى، علي يسار، ومعاوية يمين.. إلخ».

على أن حنفي لا يكتفي بطرح ذلك التقسيم السطحي فحسب؛ وإنما ينحو إلى الاعتراف بأن التراث الإسلامي المعاصر هو عبارة عن تراث الغالب/ المنتصر، أي آيديولوجيا السلطة المتحكمة في مقابل حركات الاحتجاج والمعارضة التي تم قمعها وإقصاؤها كالمعتزلة والخوارج. ونتيجة لكل ما سبق؛ يحدد حنفي مهمة أو رسالة «اليسار الإسلامي» بالكشف عن الجوانب المهمشة من النصوص التاريخية وإبرازها، بل وأكثر من ذك يدعو حنفي صراحة إلى ما سماه «تثوير التراث»، أي تحويله من مستواه الميتافيزيقي حتى يصبح لاهوت أرض، وآيديولوجيا وطنية ثورية تعكس هموم الجماهير، وتطلعات المستضعفين.

أو بمعنى آخر تحويل الإلهيات إلى فكر نظري، ثم تحويل الفكر النظري إلى آيديولوجيا سياسية اقتصادية واضحة المعالم، بحيث يمكن صياغتها بطريقة عقلية علمية صرفة، ووضع برنامج شامل لها تتحقق فيه هذه الآيديولوجيات، ومن ثم يصبح هذا البرنامج بمثابة دليل للعمل الثوري، وهو بذلك يلتقي مع طروحات كل من: أحمد عباس صالح في «اليمين واليسار في الإسلام»، وهادي العلوي في «مدارات صوفية؛ تراث المشاعية في الشرق»، و«فصول من تاريخ الإسلام السياسي»، و«محطات في التاريخ والتراث»، وحسين مروة في عمله الأشهر «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، كما يتقاطع أيضا مع كتابات الدكتور محمود إسماعيل، خاصة «سوسيولوجيا الفكر الإسلامي»، و«فقهاء الرب وفقهاء السلطان»، و«النقد التأويلي عند بعض مؤرخي الإسلام».. إلخ.

لكن في المقابل من ذلك؛ وعلى الرغم من أن حنفي وظف المقولات اليسارية في مشروعه الضخم، فإن النقد الماركسي لمشروعه يتأتى من اعتبار منهجي في الأساس يتعلق باختياره للفينومينولوجيا الفويرباخية؛ تلك التي مارسها فويرباخ في «جوهر المسيحية»، التي ترجع بدورها إلى تحليلات هيغل للوعي الشقي وللوعي المغترب، ممارسا بذلك انقلابا هيغليا - فويرباخيا من داخل علوم التراث، وهو ما يشير إليه بلفظة «الثورة» في عنوانه الأشهر: «من العقيدة إلى الثورة».

ونتيجة لذلك؛ تظل محاولة حنفي - بحسب الطرح الماركسي - مجرد ثورة فكرية في الأساس منتظرة الثورة الفعلية. ومن هنا يخضع الماركسيون محاولتهم لنفس النقد الذي سبق أن وجهه ماركس من قبل لفويرباخ وللهيغليين الشباب، الذين كانت الثورة لديهم عبارة عن «ثورة فكرية»، معتقدين أن تغيير الواقع يتأتى بتغيير الأفكار! والأمر نفسه ملاحظ على مشروع حنفي الذي يصرح بأن الثورة التي يقصدها هي ثورة فكرية تعتمد - مثل اليسار الهيغلي - على أن ثورة في تصوراتنا عن الدين هي المقدمة الحتمية لثورة واقعية، أي قلبا للمضامين اللاهوتية لعلوم الدين إلى مضمون اجتماعي ثوري! وبذلك يكون حنفي واقعا في مرحلة اليسار الهيغلي الفويرباخي، وإن لم يحل ذلك دون تبنيه التطوير الماركسي لليسار الهيغلي مستعيدا بذلك مقولة ماركس: «ليس المهم لدينا هو فهم العالم كما كان عند القدماء؛ بل تغييره وتطويره والسيطرة عليه»، فكما يتناول ماركس فلسفة هيغل في «الدولة» لأنها أكثر الأشياء تقدما في ألمانيا، يتناول حنفي «علم أصول الدين» في التراث لأنه أكثر الأشياء تقدما! مع ملاحظة أنه يمارس في الوقت نفسه قراءة لواقعنا المتردي من داخل منظومة هذا العلم، وهو بذلك يكون جامعا لفويرباخ وماركس في آن معا.

وفي المحصلة؛ إن نقد ماركس الشاب لليسار الهيغلي ينطبق تماما على حنفي، خاصة أنه يعتقد أن الوعي هو الذي يحرك الشعوب، وأن مجرد تغيير الوعي كفيل بتغيير الواقع، في حين أن حنفي الذي أعلن أن مهمته ليست في فهم العالم بل في تغييره، يستمر في محاولة الفهم مرة بعد الأخرى، وفي هذه المرة ينصب فهمه على النصوص القديمة؛ صحيح أنه فهم ثوري تحرري إنساني، إلا أنه ينطلق من مسلمة رئيسية مفادها: أن تغيير واقعنا لن يتم إلا بتغيير فهمنا لهذا الواقع. ولهذا السبب ينجذب حنفي لفلاسفة الوعي الإنساني الذين يعتقدون في إمكانية حدوث مثل هذا التغيير، انطلاقا من الأفكار، وفي مقدمتهم: فخته، وهوسرل، وفويرباخ، وعثمان أمين.

أخيرا؛ يذكر ماركس الشاب في «مخطوطات باريس» أنه لكي يكون الفكر مؤثرا في الواقع وقابلا لأن يتحقق فيه، لا يكفي أن يقترب هذا الفكر من الواقع فحسب، بل يجب أن يرتفع الواقع نفسه إلى مستوى الفكر. وبحسب البعض؛ لقد قام حسن حنفي بمهمته وأنزل علوم العقيدة من سماء التأليه إلى الواقع الإنساني، وكان في ذلك محققا لهدف الفكر، ألا وهو الاقتراب من الواقع، لكن يبقى أن يرتفع الواقع نفسه إلى مستوى الفكر.. وتلك قضية أخرى! *كاتب مصري