مسيحيو مصر ومسلموها.. مشاهد ليلة عيد الميلاد

إميل أمين

TT

تجد هذه الكلمات طريقها على السطور صبيحة يوم عيد ميلاد السيد المسيح، ذاك الذي قيل عنه إنه «لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد صوته في الشوارع»، وفي موضع آخر وصفت حياته بأنه «كان يجول يصنع خيرا»، ووصف أمير الشعراء، أحمد شوقي، مولده بقوله: «ولد الحب يوم ولد عيسى».

عشية عيد الميلاد ملأت سماوات مصر وأرضها المخاوف وانتابها القلق خوفا من أن يتكرر سيناريو كنيسة القديسين الإرهابي في مدينة الإسكندرية، لكنها سرعان ما توارت وراء مشاعر تعبر عن جوهر علاقة غالبية أقباط مصر بمسلميها في أوقات المحن والنوازل، وحبذا لو سادت تلك المشاعر عموم الأيام حتى لا يضحي المشهد «وحدة وطنية مؤقتة» تزول بزوال المؤثر الخارجي.

يضيق المسطح المتاح للكتابة عن الإلمام بالمشهد المصري الآني، لا سيما منذ ليلة رأس السنة وحتى الساعة، والسؤال الحائر على الألسنة: أهو مشهد طائفي أم إرهابي؟

وهل استطاع الإرهاب تسخير الأجواء المحتقنة طائفيا مؤخرا لتحقيق أهداف استراتيجية تتمثل في تفكيك وحدة مصر البنيوية عبر طرق تكتيكية تبدت في إزهاق الأرواح البريئة، وتاليا إثارة الفتنة الدينية؟

نصف الكوب المليء في المشهد المصري الديني تجلى ليلة عيد الميلاد في عدد العائلات - ولا أقول الأفراد - المسلمة التي مضت في طريق الكنائس المصرية يدا بيد مع الأسر المسيحية رفضا لما جرى في الإسكندرية.

قالت لي سلوى، ذات الحجاب، وهي تعانق جورجيت في إحدى كنائس حي شبرا بوسط القاهرة، والمعروف برمزيته لتعايش المسيحيين والمسلمين فيه بأعداد وفيرة، وبامتلائه بالكنائس من كل الطوائف المسيحية: «لقد عشنا العمر كله منذ الطفولة معا، وحضرت الليلة أنا وزوجي وأولادي إلى هنا، حتى إذا قضينا نقضي سويا وإذا عشنا فلنعش بمحبة، كما كنا على الدوام».

من يقف وراء ما جرى في الإسكندرية إذن؟ سؤال يأتي من حيث الأهمية في تقديري في مرتبة لاحقة، على أهميته، أما الأهم بإطلاق المشهد فهو ما الذي يريدونه لمصر؟ وما الذي يجب أن تتيقظ له مصر حكومة وشعبا، أزهرا وكنيسة قبطية على حد سواء؟

ربما أراد هؤلاء بمصر والمصريين شرا، وأراد الله الخير، فالحادث خلق حالة غير مسبوقة من المشاعر الطيبة والتضامن مع مسيحيي مصر، سواء من الداخل المصري أو من المحيطين العربي والإسلامي، فانتفض المصريون في الداخل عن بكرة أبيهم، بدءا من رئيس الجمهورية الذي توعد بأن دماء شهداء الأقباط والمسلمين لن تذهب سدى، مرورا بأطياف وأطراف مصر المحتقنة، فنانين وأدباء ومفكرين وسياسيين، نقابيين وإعلاميين، كلهم عند ساعة الخطر الأعظم باتوا دروعا بشرية لحماية الأقباط عشية عيدهم، في مشهد يحمل ملمح الفرح من عمق الألم والحزن.

ليس المسيحيون وافدين ولا مسلمو مصر أجانب غرباء عنها، كما حاولت بعض الأصوات التي خالفها الحظ في تقديراتها وتصريحاتها مؤخرا القول، فجميعهم مصريون حتى النخاع قلبا وقالبا، ولهذا كان الطبع يغلب التطبع، والأصل والمعدن الطيب يظهر في مقدمة المشهد، حتى وإن وجدت هويات ذات طباع ديني منحرف على أي جانب.

ومن المتفق عليه تاريخيا أن لفظة مصر في اللغة الهيروغليفية تعني «كيميت» أي الأرض السوداء، وفي اللغة اليونانية «إيجبتوس» ومنها اشتق العرب لفظة «قبط»، وعليه، فإن مسلمي مصر ومسيحييها هم أقباط بالمعنى الأنثروبولوجي، بعضهم بقي على المسيحية وبعضهم اعتنق الإسلام دينا، ولهذا فإن القول إن مسلمي مصر بالمطلق غير مصريين أو ضيوف هو أمر تجاوزه حقائق التاريخ ووقائع علم الإنسان، وهذه قصة أخرى.

من هذا المنطلق يستطيع المرء فك مشاهد ليلة عيد الميلاد في كنائس مصر حيث المشاركة الإسلامية الواضحة عن مودة حقيقية لا عن زيف لمسيحييها، فالمصريون من أكثر الشعوب تجانسا ووحدة في الأصول الجنسية والتكوين البشري، وأقربها إلى فكرة «الأمة المثالية»؛ فالمسلمون والأقباط سواء في تكوين السلالة القومية، ولا فرق بين هؤلاء وأولئك في الأصالة والقدم عند الانتساب إلى هذه البلاد، فوحدة الجنس والأصل أقدم من كل دين، بل إن عميد الاحتلال الإنجليزي في مصر، اللورد كرومر، قال في كتابه «مصر الحديثة»: «إن خبرتي الخاصة بالمصريين تجعلني أقرر أن الفرق الوحيد بين القبطي والمسلم هو أن الأول يعبد الله في كنيسة، في حين أن الثاني يعبد الله في مسجد».

ولذلك عندما أثير عقد مؤتمر للأقليات في الوطن العربي في قبرص عام 1994، رفض الأقباط الاشتراك فيه، لأنهم لم يعتبروا أنفسهم ذات يوم أقلية، ولم يكن هذا موقفا حديثا أو مستحدثا؛ ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر «أرسل قيصر روسيا يدعو بطريرك الأقباط لأن يضع المسيحيين المصريين تحت حماية القيصر مباشرة، فما كان من كبير القبط وقتها إلا أن سأل: هل القيصر يموت؟ فأجاب المندوب الروسي: نعم، يموت، فأردف البطريرك: نحن في حماية من لا يموت»، ولهذا كتب قنصل روسيا في مذكراته لاحقا يقول: «لم تدهشني عظمة الأهرام في مصر، ولا ارتفاع المسلات وكتاباتها، ولم يهزني كل ما في مصر بمقدار ما أثرت في نفسي زيارتي لبطريرك الأقباط».

هذه الحقائق تؤكد فكرة المواطنة للأقباط الكاملة غير المنقوصة، وتبعد بهم كثيرا عن إشكالية «القبطي التائه»، التي يحاول البعض طرحها، على غرار اليهودي التائه المشهورة في دياسبورا الشعب اليهودي منذ عام 70 ميلاديا.

وعند العلامة المصري، الأب متى المسكين، أن الأقباط ليسوا أقلية مثل أقليات باقي الشعوب التي تعيش في وسط عرقيات غريبة عن قوميتها، وتطلب لنفسها حكما ذاتيا أو إقليما مستقلا تعيش فيه، فهم منذ ما قبل التاريخ يعيشون في وطنهم مصر الذي يعتزون ويفخرون به ويخلصون في خدمته، ويتباركون بالمواضع المقدسة فيه، ويشتركون مع مواطنيهم جميعا في بناء مصر ديمقراطية متحضرة، لذلك لا يليق بكرامة الأقباط أن يُشبّهوا باليهودي التائه الذي تغرب في كل بلاد العالم مطرودا ومهانا.

على أن علامة الاستفهام في هذا المقام، إذا كان ذلك كذلك؛ فلماذا جرى ما جرى في مياه نهر العلاقات الطائفية الإسلامية - المسيحية بين المصريين وبعضهم بعضا؟ وأي تغيرات جذرية تلك التي دخلت في النسق الإقليمي المصري حتى بات الذين يقتلون الأقباط - ومِن قبلهم، في حقيقة الأمر، المسلمين - في زمن إرهاب التسعينات يظنون أنهم يقدمون قربانا لله؟

من دون مواراة ولا مدارة، وعلى الرغم من الحديث الإيجابي المتقدم وصحته التاريخية، فإن شكل العلاقة اليوم بين مسلمي مصر ومسيحييها تستدعي حالة من حالات «تداعي» العقلاء والحكماء في الوطن إن جاز التعبير، لا سيما أن الاحتقان تصاعد بشكل غير مقبول، وتسنم مشهد مظاهرات منطقة العمرانية مؤخرا قمة سلبية المشهد، ويخشى المرء القول إن حادثة الإسكندرية، على بشاعتها، ربما لا تكون نهاية طريق الآلام لمصر والمصريين كافة.. لماذا نقول ذلك؟

الشاهد أننا أمام متغيرات دولية عالمية متعددة الأوجه، بعضها يتمثل في الصحوة الدينية اليمينية التي تجتاح العالم كله بكافة أديانه ومذاهبه، وردود أفعالها عربيا وإسلاميا. وهناك متغيرات محلية تدور في سياق إشكالية ضعف الانتماء العام للدولة وظهور هويات دينية بديلة، بعضها يذهب في تطرفه وتعصبه إلى حد الانتحار وقتل الآخرين.

ولا ينكر عاقل أن المنظومة الفكرية المصرية قد حدث لها خلل تكتوني منذ أوائل السبعينات؛ عندما راهن الرئيس السادات على فكرة التوازنات السياسية عبر تشجيع تيارات ذات طابع ديني ليواجه بها خصومه من اليساريين والناصريين والشيوعيين المصريين، وبالذات داخل الجامعات.

كما أن أحدا لا ينكر أن حركة الهجرة المؤقتة للعمالة المصرية خارج البلاد أثرت بالفعل على أشكال وأفكار وأنماط كثير من مناحي الحياة المصرية، تشددا وتعصبا.

أضف إلى ذلك أن الهجرة الدائمة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية قد أفرزت بدورها ما هو أقرب إلى فكر جماعات المصالح ذات العلاقات مع صناع القرار في تلك البلاد، الذين يقدر لبعضهم من وقت لآخر التأثير سلبا على مجريات الأمور في الداخل.

وعطفا على ما تقدم، هناك أبعاد، مثل التغيرات الاقتصادية المثيرة والخطيرة التي جعلت الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يوحلون فقرا، ولهذا كانت، ولا تزال، الهجرات إلى الله هي الأقرب، مهما كان شكل النهايات لهذه الهجرات، مع الأخذ في الاعتبار كذلك أن العولمة التي أسقطت الحدود وأزالت السدود جعلت بدورها الضعفاء في مواجهة ما يرونه غزوا ثقافيا أو دينيا أو فكريا، يحتمون بالأصول والجذور والدين في أولها ومقدمتها العاصم الأكبر.

لم تعد إذن الحياة في مصر في العقود الأربعة السابقة كما كانت من قبل، ولهذا رأينا تصاعدا مخيفا في التوترات الطائفية، ويأسف المرء أن يستنتج أنها مرشحة للتصاعد والتكرار عند أي أزمة مستقبلية، لافتقاد استراتيجية حقيقية ناجعة تعود بنا إلى فكرة الانتماء الأوسع للدولة المركزية، والبعد عن الهويات القبلية، والهوية التي يتخبط فيها عالمنا، وفي أنانية يدعي أصحابها القداسة، وما أبعدها عن ذلك الوصف، حيث لا تزال الصدقية الخلقية مادة نادرة في حاضرات أيامنا، وفي أوقات بات البعض فيها يضحي بالدين على مذبح الإنسانية، وفريق آخر يضحى بالإنسان في سبيل العقيدة.

عبر أربعة عشر قرنا كان هناك في مصر تعايش إسلامي مسيحي واحد، نعم حدثت نزاعات دينية بين المسلمين والمسيحيين في بعض الفترات المتفرقة، لكن لم يحدث أن استمرت أربعة عقود كما الحال مؤخرا، كان النزاع وقتها يرجع إما إلى أزمات العصر، مثل المجاعات أو استغلال الحكام الطغاة لمناصبهم، ولم يكن أبدا يتمحور حول القيم وحول هوية مصر.

والثابت أن الإشكالية الكبرى الآنية هي أن التنازع حول الهوية الدينية للدولة بات قضية تطفو على السطح، وبقوة، وما عمّق الأزمة أنه في الماضي كان المجتمع المصري قويا برجاله ومؤسساته وتكويناته الاجتماعية، وقياداته المجتمعية، أي بالرجال والمرجعيات القادرة على حل أي أزمة، فهل غاب هذا النموذج لصالح سيطرة الدولة، وبالتالي لم تعد هذه الرموز حاضرة مما أضعف كيان المجتمع المصري، وسهل ظهور تلك النزاعات، ولاحقا التفجيرات؟

عودة على بدء.. هل كان تفجير الإسكندرية عملا إسلاميا استهدف مسيحيي مصر؟

يمكن للمرء بداية أن ينفي عن الإسلام والمسلمين بالمطلق الربط الحتمي مع الإرهاب، وفي الوقت ذاته وللموضوعية ربما يجدر بنا أن نُذكّر بما قاله العلامة الراحل الدكتور جمال حمدان، من أن الحركات المتطرفة، التي أحيانا تتدثر في الرداء الديني الإسلامي هي وباء دوري يصيب العالم الإسلامي في فترات الضعف السياسي أمام العدو الخارجي، كنوع من التشنج الطبيعي بسبب عجز الجسم عن المقاومة، وعنده كذلك أن حركات الإسلام السياسي ظاهرة تجسد العجز السياسي في ظل التخلف الحضاري، وفي وجه الخطر الاستعماري الخارجي كذلك.

ومعنى ما تقدم هو ما يجب أن يخيف مصر والمصريين، مسلمين ومسيحيين، في حقيقة الأمر، أي أن يكون الجسد المصري قد ضعف ووجدت فيه تلك الخلايا مسارب فعلت من خلالها فعلتها، ولهذا تمنينا، ولا نزال، أن تكون الأيدي الخارجية، لا الداخلية، هي المسؤولة مسؤولية كاملة ومباشرة عما جرى في الإسكندرية.

ليس شرا مطلقا، على الرغم من ألم وبشاعة ما رأيناه في كنيسة القديسين، ذلك أن انتفاضة المصريين الأخيرة في وجه الإرهاب، ورفض دعوات العزل والإقصاء والتفرقة، ومشاهد ليلة عيد الميلاد، وشعارات الهلال مع الصليب التي ملأت شوارع حي شبرا، دليل على أن بعث مصر الموعود عن طريق توافق ديمقراطي وطني مصري على الأبواب، ليُكتب اسمها من جديد في كتاب الأحياء، بعدما اشتهرت طويلا عبر كتاب «الخروج إلى النور» والمعروف عن طريق الخطأ باسم «كتاب الموتى».

*كاتب مصري