بين السياسة الشرعية والإصلاح

رضوان السيد

TT

لا تزال الدراسات تتوالى حول مذاهب الفكر السياسي الإسلامي القديم، وعلائقها بالسياسة الشرعية. والواقع أن مقولة «السياسة الشرعية» هي بذاتها جزء من تفكير الفقهاء أو المدرسة الفقهية في قراءة التجربة السياسية العربية الإسلامية. وكنت قد استظهرت في دراسات سابقة أن هناك أربع مدارس رئيسية في التفكير السياسي الإسلامي القديم: مدرسة الفقهاء، ومدرسة كتاب الديوان أو نصائح الملوك، ومدرسة الفلاسفة، ومدرسة المتكلمين. ولكل من هذه المدارس تحليل أو إشكالية تحكم نظرتها للنظام السياسي، والتطورات التي تحدث فيه. أما مدرسة الفقهاء، فإشكاليتها هي الشرعية ومدى تحقيق النظام السياسي القائم لشروطها ومقتضياتها. وفي أقدم الرؤى التي نعرفها للفقهاء، كانوا - بخلاف المتكلمين - يعتبرون نظام الخلافة هو المثال الأعلى للشرعية. لكنهم هم وأهل الحديث تداولوا الأثر المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم، والقائل: تكون الخلافة ثلاثين عاما، ثم يكون ملك عضوض. ولذا فقد شاع بينهم أولا جعل الولاء على درجتين: الطاعة والنصرة، أو الطاعة وحسب. فالفقيه أيا تكن الظروف، لا يقول بالسيف أو بالتمرد على السلطة، وهذا هو المعروف عن الإمام أحمد بن حنبل وآخرين. وفي القرن الثالث الهجري وما بعد بدأت مناقشة مسألة «السياسة الشرعية»، والغالب أن أصل النقاش انطلق من ذهاب كتاب الديوان إلى الحديث عن السياسة أو ضرورات السياسة في مقابل الشريعة. وإزاء هذه المقولة انقسم الفقهاء إلى فريقين: فريق يرى أنه لا سياسة إلا ما وافق الشريعة، وفريق آخر يرى أن ضرورات السياسة استثناء يمكن إقراره مؤقتا، لأن الضرورات تقدر بقدرها، من مثل «تغليظ العقوبة» على الجناة في حالات الفوضى والفتن. ثم جاء شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته في السياسة الشرعية؛ فوضع لشرعية السلطة أسسا تتعلق بالوظائف التي يكون على السلطة أن تؤديها، ويتعلق بعضها بثوابت الشريعة، وبعضها الآخر بثوابت العدالة، وبعضها الثالث بحماية الأمة والبيضة. فتقاس الشرعية بقدر الأداء لتلك الوظائف في المجالات الثلاثة.

أما مدرسة كتاب الديوان أو نصائح الملوك أو مرايا الأمراء؛ فإن إشكاليتها ظلت الاستقرار وقدرة السلطة على تحقيقه. وقد كان هناك من الكتاب المحدثين من اعتبر هذه المدرسة في التفكير السياسي مؤسسة للاستبداد؛ من حيث إنها لا تعنى بالشرعية على الإطلاق. لكن الواقع أن كتاب هذا الجنس من الأدبيات السياسية، يعتبرون العدالة الأساس الأول للاستقرار. فهم غير ملومين لهذه الناحية؛ بل هم ملومون لعدم اهتمامهم بكيفية وصول القائم في السلطة إليها. والحق أن أكثر من نصف الرسائل السياسية التي وصلتنا هي من هذا النوع، وإن كنا لا ندري بمدى تأثيرها في الجو العام، وبين النخب الثقافية والسياسية. ويريد بعض الباحثين المعاصرين التأكيد على أن هذا الجنس الأدبي أثر في الكتابات الأوروبية الوسيطة؛ ومن ذلك كتابات مكيافيللي وبودان وأشباههما.

وتهتم مدرسة الفلاسفة في الكتابة السياسية بوصف النظام الذي يحقق السعادة، على طريقة أرسطو في وصفه لأشكال الحكومات، وغايات النظام السياسي. ومن ذلك كتابات الفارابي وابن سينا والعامري وابن رشد. بيد أن هذه المدرسة بسبب أصولها الكلاسيكية، تفترض وجود عامة وخاصة، كما تفترض وجود نظام اجتماعي طبقي - بمعنى أن السعادة إنما تتحقق بما يلائم كل طبقة من «الأحرار» وليس مجموع الناس. وكان ذلك مستند كل من الجابري وكمال عبد اللطيف للقول إن كتابات نصائح الملوك، وبعض الفلاسفة، شكلت مستندات للاستبداد. ويمضي الجابري قدما للقول إن الذي ساد في الحقيقة النموذج الإيراني/الساساني الذي يغلب أخلاق الطاعة والخنوع. لكنه يعود فيستثني من ذلك ابن رشد في تلخيصه أو شرحه لجمهورية أفلاطون؛ بحجة أنه يورد خلال الشرح ملاحظات ناقدة، تقطع مع الاستبدادية الكلاسيكية، ومع الأنظمة العربية الإسلامية. وما استطعت في الواقع أن أجد شيئا من ذلك في الملاحظات المنسوبة إليه.

وتبقى مدرسة المتكلمين، على اختلاف عقائدهم. والمعروف أن نظرية الإمامة عند الشيعة تشكل المثال الأعلى للشرعية. ولأن الفقهاء والمتكلمين السنة ما كانوا يعتبرون النظام السياسي من التعبديات؛ بل هو تابع للمصالح؛ فقد تأخروا في الاهتمام بمبحث الإمامة في الكتب الكلامية. وعندما فعلوا ذلك، صاروا يوردون فصلا أخيرا في كتبهم للدفاع عن رؤية الاختيار، وعهد الراشدين، وأن ترتيبهم في الفضل هو مثل ترتيبهم في الخلافة. أما متكلمو الإباضية - والذين قامت لهم دول منذ القرن الثاني الهجري بالمشرق والمغرب - فقد ظلوا يشددون على الاختيار من جانب الفقهاء من أهل الحل والعقد.

وعلينا لكي نفهم مصائر هذه المدارس في الفكر السياسي، أن ننتبه إلى قيام السلطنات منذ القرن الخامس الهجري تحت مظلة الخلافة، ثم بدونها. وفي ظل السلطنات، نشأت تقاليد أخرى لا علاقة وثيقة لها بأي من المدارس السالفة الذكر. وإن تكن تتوسل بعض أدبيات المدارس الأربع، لكي تسوغ سطوتها وامتداداتها.

لقد زالت المجتمعات والدول التي نشأ هذا الفكر في ظلها، في جوانبه الإيجابية والسلبية. وظهرت على أنقاضها الدول الوطنية التي تعتمد مقولة الشعب ومشاركته. وفي حين ذهب كثيرون إلى ضرورة اعتبار «المصلحة»، أي مصلحة المجموع؛ بما في ذلك ما تقتضيه نظم المشاركة، ذهب آخرون إلى أنه ينبغي العودة للأصول التاريخية وللخلافة. وقال الحزبيون الجدد: بل ينبغي إنشاء أنظمة على أساس الشريعة وشرعيتها. وفي كل الأحوال؛ فإن مقولة «السياسة الشرعية» ما عادت مطروحة، كما لم تعد نظرية الخلافة وتجربتها مطروحتين. والمعروف أنه عندما قال علي عبد الرازق في العشرينات إن نظام الخلافة ليس جزءا من الدين، احتج على ذلك كثيرون. لكن الذين انصرفوا إلى الحديث عن فضائل الخلافة، ذكروا فضائل هي أشبه بالأنظمة السياسية الحديثة. في حين أوضح أنصار مقولة «السياسة الشرعية» أن المقصود بها قيام سلطة قوية، تستطيع اعتبار مصالح الناس واهتماماتهم؛ باعتبار أن الإسلام يقول بالدولة المدنية، وليس بالدولة الدينية على الطريقة الأوروبية الوسيطة.

وأيا تكن صوابية ومسوغات التأصيل في النظام السياسي؛ فلا شك أنه إذا أريد الإفادة من دروس التجربة الوسيطة؛ فإن مثالاتها هي الحقيقة بالإفادة. ومن مثالاتها الاختيار، والعدالة، والاستقرار، ورعاية مصالح الناس واهتماماتهم. وقد رأى مفكرو عصر النهضة مثل الطهطاوي والتونسي ومحمد عبده ورفيق العظم والكواكبي ورشيد رضا، أن من الضروري لتحقيق مصالح الناس: الاهتمام بالمصالح العامة، وإقامة المؤسسات الكفيلة بتحقيق تلك المصالح؛ سواء سُميت الأنظمة القائمة على المصالح والمؤسسات أنظمة عدالة أو أنظمة شورى ومشاركة وسياسة شرعية.