حول موقف الإسلاميين من التراث والتجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لا شك أن مواقف الإسلاميين من أي قضية أو مشروع يثار من حوله الجدل تعد هي الأبرز والأقوى لجهة ردود الفعل؛ خاصة عندما يتعلق الموضوع بالإسلام أو ما يمت له بصلة. ومع ذلك؛ لا يخلو نقد أصحاب هذا الاتجاه من معنى، ومغزى، ودلالة، وإفادة، أكثر من كونه دفاعا عن الدين، وإن اتسم في عمومه بمجموعة من الأخطاء الفادحة التي تتكرر في كل موقف يصدر عن أصحاب هذا الاتجاه تقريبا، وفي مقدمتها: الانتقائية الشديدة التي تصل حد الابتسار إذا صح التعبير، وغلبة السطحية في التناول، والسذاجة في الطرح أحيانا، ومحاكمة النوايا وليس الخطاب، واتكاء النقد على المنظور الديني وليس العلمي أو الموضوعي.. إلخ.

وليس أدل على ذلك – في ما يتعلق بموضوعنا - من أن أحد ناقدي مشروع «التراث والتجديد» لا يجد أدنى غضاضة في أن يختزله في النقاط التالية: «أن العقل أساس النقل، وأن العلمانية أساس الوحي، وأن الوحي ليس دينا، والطعن في آيات التحريم وألفاظ الجلالة والرسول والدين والجنة والنار بحجة أنها لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها، وأن لفظ الجلالة يحتوي على تناقض، وأن السلام أفضل من الإسلام، وأن الألفاظ الأصولية توحي بأن الإنسان مجرد آلة، وأن الحديث عن الله وصفاته هو حديث عن الإنسان الكامل في الشعور، وأنه لا تقديس للقرآن والسنة، وأخيرا الدعوة إلى التخلي عن اللغة المنغلقة إلى لغة أكثر عقلانية، وأن الحجاب عبارة عن كبت جنسي»!! وبطبيعة الحال؛ لا يكتفي الرجل بهذا الابتسار، وإنما يسارع إلى رد أفكار حسن حنفي إلى المعتزلة الأوائل، الذين فتحوا المجال للعلمانيين ومن سار على دربهم للنيل من الإسلام وعقيدته، فأطلقوا سلطة التحسين والتقبيح على حساب الشرع.. «ثم زين المستشرقون آراء هذه الفرق الضالة، فسار على تلك المنظومة - خاصة في القرنين المنصرمين - قلة من أبناء المسلمين المتسمين بالإسلام!! فبعد الطهطاوي، جاء الرجل اللغز جمال الدين الأفغاني، وتلامذته محمد عبده، ومحمد مصطفى المراغي، وشيخ الأزهر الأسبق شلتوت، وعبد العزيز جاويش، ومحمد فريد وجدي، وعلي عبد الرازق، وغيرهم، وعلا صوت هذه المدرسة، وتم تلميع أئمتها كالأفغاني ومحمد عبده!! فصارت فتاواهم عمدة وتكأة لآراء العلمانيين ومن ينعتون أنفسهم بالإسلام المستنير!! ونتيجة لذلك؛ صار كل من هب ودب يتكلم في الإسلام، كطه حسين الذي لم يجد نقيصة إلا ووصم بها الإسلام. طه حسين الذي قدم لنا الآداب الميتة ولغتها المندثرة كاليونانية، وكان ينقب عن النشاز في التاريخ فيبرزه كثورة الزنوج والقرامطة تزلفا وعرفانا بالجميل لأسياده المستشرقين! في ظل هذا الجو الكئيب وسيطرة الفكر الاعتزالي على جامعاتنا ومراكز الدراسات كان من الطبيعي أن يفرز ذلك المناخ الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة على الفكر الاعتزالي والمنظومة الماركسية الحمراء، فأخرج لنا مؤلفاته التي تسير على غرار المنظومة الماركسية، ولما كان مصرا على الاحتفاظ باسم مسلم فإنه صار على منهج المتناقضات بغية التوفيق، أو قل التلفيق، في تأويل الحدث التاريخي الطويل من البحث والتنقيب حتى ظهر سلخ جديد اسمه اليسار الإسلامي»!! ويخلص هاني السباعي في نهاية مقاله إلى القول: «هكذا ظهر المخبوء، وانكشف المستور، واستبان لكل منصف كذب الدكتور حسن حنفي وضلاله، بل وزندقته. فبعد كل هذا الإفك والافتراء على الله وعلى رسوله وعلى دينه يزعم حسن حنفي أنه مسلم! أي إسلام يريده حسن حنفي والإسلام في نظره عبارة عن ألفاظ جوفاء لوصف واقع فقط؟! إن الإسلام الذي يقدمه لنا من خلال مشروعه اليساري لم ينزل على محمد بن عبد الله رسول الله، صلى الله عليه وسلم. هذا الدين الذي يدعونا إليه حسن حنفي لم يعرفه الصحابة، رضوان الله عليهم، وسلف هذه الأمة!! أما الدكتور أستاذ الفلسفة: فنحن براء من مشروعك اليساري، فكن صريحا مع نفسك، وأفصح بإلحادك، ولا تتمحك في الانتساب إلى الإسلام!! فمحاولات التلفيق والتزوير وزعمك أن العلمانية هي أساس الوحي حديث خرافة (ليس إلا)»!! وفي السياق ذاته؛ يمضي الدكتور أحمد بن إبراهيم خضر في مقال له بعنوان «الفقيه القديم حسن حنفي.. وألمع العلمانيين فؤاد زكريا.. قراءة في فكر هدام»!! حيث يبدأ مقاله بتقرير مفاده أن موقع «إسلام أون لاين» - الذي يحظى باحترام وتقدير الكثير من المسلمين - قد انخدع على ما يبدو بما صوره البعض عن «حسن حنفي» من أنه علامة فكرية في تاريخ مصر، وأنه مناضل في سبيل الارتقاء بهذا الفكر، وأنه قد بدأ عطاءه ابتداء من التراث الإسلامي، وانتهى إليه، وقرأ التراث الأوروبي ليثبت أنه ليس بالتراث الإنساني، فأفرد له مساحة في الموقع يتحدث فيها عن رأيه في تحقيق نهضة عربية.

وبحسبه أيضا؛ فقد «عبر (الفقيه القديم) عما يعتقده ويؤمن به بأسلوب فات على الموقع اكتشافه. فالليبرالية عند حنفي وجدان مطلوب لم يرق ليكون اختيارا جماهيريا، بما تتضمنه من فصل للدين عن الدولة. وتواجه الليبرالية عند حنفي تحديا من قبل ما يسميه بالخرافة والفكر الديني في دعوتها إلى العقل الناقد وإلى العلمانية. وتساءل حنفي: هل يمكن تحويل الثقافة الوطنية التي لا تزال تؤثر في الناس إلى ثقافة علمية وطنية تجعل الدين أحد مظاهر النشاط الإنساني لكنها لا تجعله متماهيا مع الفكر الديني؟ وتساءل كذلك: هل يمكن تأصيل العلمانية من الداخل، وليس من الخارج؟ جاء كل ذلك في الموقع من دون أن ينبس كاتب المقال بكلمة واحدة»! أما أسامة الهتيمي؛ فينحو في مطلع مقاله «حسن حنفي والخداع المعلن» إلى تأكيد أن رؤية حنفي لا تختلف في جوهرها عن رؤى غيره من العلمانيين إلى الإسلام، وهي لا تعدو كونها نظرة مادية صرفة؛ حيث يُنظر إليه باعتباره تراثا حضاريا كبيرا له استقلاله الخاص وقدرته الفعالة في التأثير على شعوب المنطقة. ويخلص إلى اتهام حنفي بأنه يتبع في تعاطيه مع التراث منهجا انتقائيا ابتساريا، كما اتبع منهجا براغماتيا، وأن مشروعه عبارة عن محاولة لأنسنة الدين ومن ثم تفريغه من محتواه.

ويتساءل في نهاية مقاله: «كيف للدكتور حنفي الذي بمشروعه يجرد الإسلام من محتواه الديني والإلهي - أي من الثوابت والمطلقات التي حفظت وما زالت تحفظ لنا وعلينا الاستقلال وتضمن لنا الاستعصاء على التبعية والذوبان - أن يردد مزاعمه بأن مشروعه يهدف لتحقيق الاستقلال؟!». ويخلص إلى أن القضية تكمن في أن الكثير من هؤلاء العلمانيين يعون جيدا حقيقة الدور الذي يقومون به، كما يدركون تمام الإدراك حجم التناقضات الجسيمة التي يقعون فيها من خلال مشاريعهم التلفيقية للجمع ما بين آيديولوجياتهم والأفكار الإسلامية في محاولات متجددة لخداع الأمة والإيقاع بها في فخ الابتعاد عن هويتها وعقيدتها! ويستدل على ذلك بما حكاه محمد عمارة في كتابه «الإسلام بين التنوير والتزوير»، حين قال «بقي أن أقول – للتاريخ: إننا عندما صدر كتاب الدكتور حسن حنفي (التراث والتجديد) سنة 1980 اجتمعنا - مجموعة من المفكرين – به في جلسة نقدية لهذا الكتاب – بمنزل الصديق الأستاذ المستشار طارق البشري – وقد توليت أنا عرض الملاحظات النقدية على الكتاب، ولم يشأ الدكتور حسن يومها أن يجيب عن تساؤلات الحضور إلا بابتسامة قال لي معها: (هو انت كشفت الموضوع؟!)، فلما استأذنته أن أكتب عن الكتاب رجاني ألا أفعل وقال: لقد طبعته بحروف صغيرة حتى لا يستطيع المشايخ قراءته»! والواقع أن ما حدث ربما لا يعدو أن يكون مجرد مزحة عابرة أخذها الدكتور عمارة على محمل الجد ليس إلا؛ ومع ذلك نرى مواقف ومقولات من مثل هذا القبيل كفيلة بوصم شخص ما - قد يكون بريئا في أغلب الأحوال - بالكفر والزندقة، فضلا عن أن ديننا الحنيف يدعونا للتثبت من هكذا أمور، ويستهجن الاتباعية العمياء والتقليد، كما يأمرنا صراحة بعدم محاكمة النوايا والاكتفاء في الحكم على الأمور بظواهرها «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان». لا نقول ذلك دفاعا عن أحد وإنما عملا بأوامر الإسلام الذي نهى عن تكفير الآخرين، ودعا إلى إتقان العمل، والانضباط في كل الأمور، ناهيك عن الأمانة في النقل والعرض والبعد عن الشماتة والسخرية والاستهزاء «لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم».

ذلك أن المتابع لمثل هذه الكتابات ينتابه شعور غريب كما لو أنها تحمل في طياتها تحريضا على الكفر، وليس ذودا عن حياض الدين! وإلا، فماذا تعني دعوة السباعي، حسن حنفي لأن يكون صريحا مع نفسه، فيفصح بإلحاده، ولا يتمحك في الانتساب إلى الدين؟! وأين ذلك من قول النبي، صلى الله عليه وسلم، لخالد بن الوليد حين قتل من أعلن إسلامه في المعركة بذريعة أنه فعل ذلك من قبيل الخوف لا الاعتقاد «هلا شققت عن صدره؟!».

وما دمنا – أخيرا - مقتنعين أشد الاقتناع بقوة الإسلام وصموده في وجه حملات أنكى وأشد، فلماذا كل هذا الفزع من اجتهادات الآخرين؟ يكفي أن نتذكر أن ابن الراوندي الملحد ألف في نهاية القرن الثالث ومطلع القرن الرابع الهجري - العصر الذهبي للإسلام - كتبا في نقد القرآن، واكتفى علماء أهل السنة والمعتزلة بالرد عليه ردودا علمية بعيدة كل البعد عن لغة الاتهام بالتكفير!

* كاتب مصري