مشروع جامع حديث في تيرانا يليق بالعهد الجديد في ألبانيا

في أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة

جامع أدهم بك في قلب تيرانا («الشرق الأوسط»)
TT

قبل قرن تقريبا (1912) استقلت ألبانيا عن الدولة العثمانية بعد حكم دام نحو 500 سنة، وهو ما جعل ألبانيا أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة (70% مسلمون، و20% أرثوذكس و10% كاثوليك). وقد عرفت ألبانيا في بدايات الاستقلال أكثر من عاصمة (فلورا في الجنوب ثم دورس في الشمال) قبل أن تصبح تيرانا التي تتوسط البلاد العاصمة الجديدة لها منذ عام 1920.

ولتيرانا تاريخ مع الجوامع، بل إنها نفسها تأسست كمدينة حول جامع في مطلع القرن السابع عشر. ففي 1614 بنى أحد الحكام العثمانيين من أبناء المنطقة (سليمان باشا برجيني) جامعا وخانا وفرنا في تيرانا التي كانت آنذاك قرية متواضعة. ومع هذا المجمع العمراني الجديد نمت تيرانا بسرعة كمركز تجاري، بسبب موقعها المناسب، وتحولت إلى «قصبة» بالمفهوم العثماني، ثم إلى مدينة نامية، بينما عرفت أكبر تطور لها بعد اختيارها عاصمة للدولة الألبانية المستقلة.

ومع هذا التطور في العهد العثماني بنيت فيها جوامع كثيرة تلبي النمو العمراني والديموغرافي للمدينة. وقد تحولت هذه الجوامع إلى شاهدة على ما لحق بألبانيا بعد الاستقلال، خصوصا خلال العهد الشيوعي 1945 - 1992 ثم العهد الديمقراطي الأخير.

وعلى رأس هذه الجوامع بطبيعة الحال كان جامع سليمان باشا الذي نشأت حوله مدينة تيرانا الحالية. وقد تعرض هذا الجامع إلى أضرار نتيجة للمعارك التي دارت بين القوات الألمانية وقوات البارتيزان التي كان يقودها الحزب الشيوعي الألباني في خريف عام 1944. وقد كان هذا الجامع بالذات أول ضحية للعهد الشيوعي الجديد الذي بدأ في 1945 مع إقراره بـ«حرية الضمير» حسب الدستور الجديد لـ«جمهورية ألبانيا الشعبية». فعلى الرغم من قيمته التاريخية والرمزية للمدينة فإن السلطات الجديدة قامت بهدمه عوضا عن ترميمه، وبنت مكانه «نصب الجندي المجهول»، حيث لا يزال في موقعه في قلب تيرانا.

ويأتي بعد هذا الجامع من حيث الأقدمية والقيمة التاريخية والفنية جامع أدهم بك، الذي بدأ العمل به في 1789، وانتهى في 1823. ويتمتع هذا الجامع بشهرة خاصة لأنه الوحيد الذي حوفظ عليه خلال العهد الشيوعي بسبب قيمته الفنية، حيث إنه يتميز برسوم جميلة تغطي مدخله وجدرانه الداخلية وكامل قبته من الداخل.

وكان العهد الشيوعي قد عبر في البداية عن نوع من التساهل، حيث لم يهدم سوى عدد محدود من الجوامع بحجج مختلفة، لكنه تشدد فجأة بعد «الثورة الثقافية» في 1966 - 1967 وأصدر في صيف 1967 «مرسوم منع الدين» الذي أغلق بموجبه كل الجوامع والكنائس في البلاد، واعتبر كل ممارسة للشعائر الدينية (ولو في البيوت) مخالفة يعاقب عليها القانون الجديد.

ومع هذا المرسوم فقد تم إغلاق و«تأميم» كل الجوامع في تيرانا وكل ألبانيا، وترك للسلطات المعنية حرية التصرف فيها وفق ما تراه. وهكذا فقد هُدم بعض الجوامع وحُول بعضها إلى مخازن أو قاعات عرض أو مراكز فنية حسب بنيتها العمرانية. ومن هذه الجوامع كان «جامع الدباغين» الذي يعتبر من أقدم جوامع تيرانا، إذ إنه يعود أيضا إلى القرن الثامن عشر. وقد اشتهر الجامع بهذا الاسم لأنه بني من قبل نقابة أو «صنف» الدباغين في تيرانا. وقد تعرض هذا الجامع في 1922 إلى أضرار بعد تعرضه إلى صاعقة، لكن تم ترميمه آنذاك. أما في 1967 فقد أغلق أولا في نهاية العام، ديسمبر (كانون الأول)، ثم تقرر تحويله إلى مقر لـ«فرقة تيرانا للعزف على الآلات النفخية». وقد قررت إدارة هذه الفرقة بعد أن تسلمت هذا الجامع تكييفه لحاجتها فبنت عليه طابقا جديدا. وبعد تضعضع النظام الشيوعي الذي سمح قبل انهياره في أواخر 1990 بعودة المسلمين للصلاة في الجوامع قامت «الجماعة الألبانية المسلمة» التي أصبحت تمثل المسلمين أمام الدولة بتسلم هذا الجامع التاريخي في 1993 وترميمه لاسترداد ملامحه الأصلية. ومع انهيار النظام الشيوعي عادت الحياة إلى جوامع تيرانا، حيث فُتح أولا للصلاة جامع أدهم بك في وسط العاصمة، والذي بقي مغلقا نحو أربع وعشرين سنة (1967 - 1991). لكن تضاعف سكان تيرانا خلال عقدين من الزمن أدى إلى ازدياد الضغط على الجوامع القليلة الباقية، حتى إن المسلمين صلوا صلاة عيد الأضحى الأخير في الشارع المجاور لجامع أدهم بك.

وبهذه المناسبة بالذات فاجأ رئيس بلدية تيرانا إدي راما المسلمين بوعده لبناء جامع مناسب لهم في قلب تيرانا. وكان من الممكن أن يمر هذا الوعد ببساطة لولا أن راما هو رئيس الحزب الاشتراكي (وريث الحزب الشيوعي) المعارض، الذي يقود حملة شعواء ضد الحكومة الحالية برئاسة صالح بريشا نتيجة لعدم اعترافه بنتيجة الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي جرت في يونيو (حزيران) 2009. ومن هنا فقد رد عليه فورا وزير الأشغال العامة في الحكومة بالقول إنه لا يوجد مكان مخصص لجامع في قلب تيرانا بل لمركز تجاري، وإن هذا الوعد هو لاعتبارات انتخابية أو سياسية، ولكن إدي راما أعاد التأكيد على وعده في اليوم التالي بالاستناد إلى خريطة تنظيم تيرانا التي وضعتها شركة فرنسية في 2004 وأقرها رئيس الحكومة الاشتراكية آنذاك فاتوس نانو.

وقد تحول الوعد إلى واقع حين عقد راما لقاء بحضور ممثلي المشيخة الإسلامية الألبانية (التي تمثل المسلمين أمام الدولة) مع المعنيين بهذا الأمر من مهندسين وشركات بناء الأسبوع الماضي، كشف فيه عن تفاصيل هذا المشروع. وفي الواقع أن راما تناول في هذا اللقاء «عناصر المشروع» ليفسح المجال للشركات المعنية أن تقدم مشاريعها للفوز به. وقد استهل راما حديثه بالتأكيد على القيمة التاريخية لجامع أدهم بك الذي كان حتى الآن رمز تيرانا، ولذلك فإن الجامع الجديد «لن يكون بديلا عن جامع أدهم بك، بل هو لتلبية حاجات المسلمين». وفي هذا السياق فقد حاول راما أن يبعد الجامع عن السياسة ليدلل على أن وعده وتنفيذه للوعد يرتبط بما يتغير على الأرض، لأن «تيرانا تحتاج إلى جامع ببساطة لأن المسلمين هنا لديهم شبكة متواضعة من الجوامع، ومع الازدياد الطبيعي للمسلمين لم تعد هذه الجوامع تلبي حاجاتهم». ومع التأكيد على الرمز التاريخي (جامع أدهم بك) فقد عبر راما عن تمنياته بأن يأتي هذا الجامع الجديد ليكون رمزا جديدا لتيرانا باعتبارها عاصمة التعايش بين الأديان.

وفي نهاية اللقاء كشف راما «عناصر الجامع» التي تجعل منه أكبر من أي جامع آخر وأوسع بمفهومه وخدماته. فمشروع الجامع يفترض وجود قاعة للصلاة تتسع لـ2500 مصل من الرجال والنساء، على أن تكون متصلة ومنفصلة في الوقت نفسه، بالإضافة إلى قاعة صغيرة لعقد القران، ومكتبة وقاعة للقراءة، وقاعة للاجتماعات، وقاعة للندوات، إلخ. ونظرا لأنه في قلب تيرانا المكتظة الآن بالسيارات فقد تضمن مشروع الجامع الجديد مواقف كافية للسيارات تحت الأرض. وقد توجه راما إلى ممثلي الشركات الهندسية بالقول إن البلدية ستعلن عن مسابقة دولية لهذا الجامع، وتمنى أن تكون المشاركة مثمرة ليكون الجامع الجديد عند مستوى الطموحات.

ومع أن كل ما يقوله رئيس البلدية يصعب فصله عن موقعه كرئيس للحزب الاشتراكي، فإن ما قاله إدي راما في هذه المرة جاء لصالح المسلمين الذين أصبحوا يعانون الأمرين في عاصمة الدولة الإسلامية الأولى في أوروبا.