الحيرة مع الإسلام والحيرة من دونه.. عن كتا ب لغراهام فوللر

رضوان السيد

TT

منذ أواسط التسعينات من القرن الماضي، يحاول غراهام فوللر أن يبدو متميزا ومتمايزا، فهو ضابط كبير سابق بالمخابرات المركزية الأميركية، ويبدو أنه كان مختصا بالشرق الأوسط والحركات الإسلامية فيه. وعندما ترك منصبه انصرف للشرق أوسطيات والدراسات الإسلامية. وبالطبع فقد غلبت عليه المقاربات المعاصرة، وهي ذات ثلاثة جوانب: استعراض السياسات الأميركية تجاه المنطقة ونقدها، ومحاولة فهم الحركات الإسلامية واحتجاجياتها، واستطلاع إمكانات السلام والتعاون بالمنطقة من ضمن منظورين: تغير السياسات الأميركية تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي، وتشجيع الاتجاه لدمج الحركات الإسلامية في الأنظمة السياسية. وفي اعتقاده أن الاستيعاب والدمج يسهمان في دعم شرعية الأنظمة، ويقللان من تنامي العنف تجاه الأنظمة وتجاه الغرب. وقد أكثر فوللر من زيارة المنطقة، والتحدث إلى رسمييها وحركييها، وحضور مؤتمرات هنا وهناك. وقد اشتهر بنقده للسياسات الأميركية في إيران قبل الثورة الإسلامية وبعدها، كما اشتهر بنقده لغزو العراق، وعانى بعض المشكلات قبل أن يتحول المزاج الأميركي ضد الرئيس بوش بعد عام 2007.

قدمت بهذه المعلومات كلها عن الرجل واختصاصه ووجوه اهتمامه، لأصل إلى كتابه الأخير والمفاجئ بعنوان «عالم من دون الإسلام». والكتاب مفاجئ لأنه يعالج من الناحية التاريخية موضوع الوجود الإسلامي الدعوي والاستراتيجي. وفي ضوء ضيق الغربيين الآن بالإسلام، يسأل فوللر سؤالا بريئا في الظاهر: ماذا لو لم يظهر الإسلام أو لم ينجح في الانتشار؟ فاليمين الجديد، والإنجيليون الجدد، والمحافظون، هؤلاء جميعا، وفي تساوق مع الاتجاهات الشعبوية ضد الإسلام، راحوا ينشرون أطروحات حول الأضرار التي أنزلها الإسلام تاريخيا بالمسيحية واليهودية ومنجزات الحضارة، وكيف أن أوروبا الحديثة والحضارية إنما أنشأتها الحضارة اليهودية - المسيحية، وأن الإسلام الذي يصعد في أوروبا الآن غريب عنها وعليها. وقد أثارت هذه الدعاوى سخط كثيرين من رجالات العلم والتاريخ. فصدرت عشرات الكتب عن دور الإسلام والمسلمين في تاريخ العلم والحضارة وبسائر اللغات الحية: الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والإيطالية، كما ازدادت كتب مؤرخي العلوم في تاريخ الرياضيات والفلك والكيمياء والطب، التي تتحدث عن إنجازات المسلمين في هذه المجالات، والتي كانت في قسم منها نقلا عن اليونان، وفي القسم الأكبر أعمالا جديدة علاقتها بالسوابق الكلاسيكية ضئيلة. وانفرد الدارس البارز ريتشارد بوليت، أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة كولومبيا، بكتابة بحث طويل يدافع فيه عن أطروحة الحضارة الإسلامية - المسيحية، وليست اليهودية - المسيحية.

إن المهم في هذا السياق أن غراهام فوللر يدخل في كتابه عن «عالم من دون الإسلام»، في الموجة الدفاعية نفسها، لكن من الناحية التاريخية، وليس من الناحية العلمية. وهو يذهب في المسألة الدينية إلى أنه في القرنين السادس والسابع للميلاد، كانت اليهودية قد توارت تماما، ودخلت في انحطاط طويل. أما المسيحية فقد انقسمت منذ القرن الخامس إلى عشرات الفرق والشيع والمذاهب. ثم إن العلاقة بين الدولة (الإمبراطور) والكنيسة ما كانت على ما يرام. فمنذ قسطنطين، الذي اعتنق المسيحية عام 324م، سيطرت الدولة من فوق رؤوس الأساقفة على الكنيسة من خلال المجامع. وبعد كل اجتماع كان يظهر انقسام جديد يظهر تأثيره في أقاليم الإمبراطورية بالمشرق والمغرب. ووسط هذا الواقع الانقسامي المتعاظم جاء الإسلام وجاءت دعوته موحدة في نطاق الدين الإبراهيمي. وقد اعتنق بعض اليهود وبعض المسيحيين الإسلام، بيد أن الغالبية العظمى بقيت على أديانها. فاستوعبها الإسلام ضمن مقولة «أهل الكتاب»، ولمن كانوا بداخل دار الإسلام، ضمن مقولة «أهل الذمة». وتتضمن المقولتان اعترافا بالدينين الإبراهيميين، وبالحريات الدينية، والحراك الاجتماعي. وهنا يستطرد فوللر بالقول: ماذا لو لم يظهر الإسلام وينتشر؟ ما كانت المسيحية قادرة على تحقيق الوحدة الداخلية بين مكوناتها، وهذا فضلا عن العداء المستحكم مع اليهودية، والاستمرار في اضطهاد أتباعها. وقد عرض الإسلام خيار الوحدة في السياق الإبراهيمي، وعندما لم تحدث الوحدة جرت الموادعة والعهود والاستيعاب، دونما ملاحقة أو اضطهاد، لا للمسيحيين على اختلاف طوائفهم (ومن ضمنهم أولئك الذين ظلوا على ولائهم لكنيسة القسطنطينية)، ولا لليهود.

بيد أن الواقع الديني المتشرذم على سوئه ما بين القرنين الخامس والسابع، كان أخف وطأة من الصراع العسكري البيزنطي – الساساني، فقد ظلت الإمبراطوريتان في كر وفر على مدى القرون الثلاثة قبل ظهور الإسلام. وكانت أكثر المناطق معاناة من ذلك الصراع: الشام والعراق وأطراف شبه الجزيرة العربية. وكان الفرس قد نجحوا في عبور الفرات باتجاه الشام والجزيرة على مشارف القرن السابع فدمروا كل ما وقف أمامهم، بما في ذلك الغابات والمزارع بعد انهزام الجيوش البيزنطية أمامهم، واقتحموا بيت المقدس فخربوا في كنيسة القيامة، وأخذوا منها «صليب الصلبوت» الذي يعتقد المسيحيون أن المسيح صُلب عليه، وأودعوه في عاصمتهم المدائن. وعندما جاء هرقل للسلطة عام 610 بدأ حملة لاستعادة الصليب والممتلكات المفقودة، فنشبت الحرب من جديد على فترات ما بين العامين 614م و628م، حين استطاع البيزنطيون - بعد أن دبت الفوضى في العرش الفارسي - دخول المدائن واستعادة الصليب. وعندما جاء المسلمون إلى العراق بعد عام 634م، كانت أجزاء كثيرة منه، وبخاصة التي كان سكانها من المسيحيين، لا تزال تحت السيطرة البيزنطية. لقد أنهكت الإمبراطوريتان، وما عادت أي منها تستطيع تحقيق الاستقرار أو الأمن لرعاياها، فضلا عن الأقاليم المجاورة والبعيدة. وقد جاء الفاتحون المسلمون فأعادوا توحيد تلك المناطق، وحققوا ثلاثة أمور للناس: الأمن والاستقرار والازدهار. وهذه الأمور، التي حدثت بالشام ومصر وإيران والمغرب، حدثت بعد ذلك بقليل في إسبانيا، وقد كانت الفوضى ناشبة فيها بعد انحسار البيزنطيين عنها، وفي إسبانيا (الأندلس) قامت في ظل المسلمين حضارة زاهرة، شارك فيها المسيحيون واليهود، وتسربت من خلالها ومن الجزر الإيطالية مآثر الإسلام العلمية والثقافية والعمرانية فنقلت أوروبا فيما بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر من حال إلى حال.

ولا يكتفي غراهام فوللر بالواقعتين الدينية والحضارية، بل يذكر الحروب (بواتييه) عام 732م. في مسألة الحروب الصليبية، يتحدث عن «الهمجية» الأوروبية التي غزت الشرق الإسلامي المسالم والمتحضر مطلع القرن الثاني عشر الميلادي. قالوا إنهم آتون لتحرير قبر المسيح، لكنهم حولوا سواحل بلاد الشام وآسيا الصغرى إلى مستعمرات عسكرية ما نشرت استقرارا ولا حضارة، ثم إن حقدهم على المسيحيين الأرثوذكس كان أعظم من حقدهم على المسلمين. ولذلك غزوا في مطلع القرن الثالث عشر حلفاءهم البيزنطيين واحتلوا القسطنطينية، وأرادوا أن تتبع البطريركية الأرثوذكسية روما من الناحية الدينية، كما فعلوا مع أسقفية أنطاكية. ومنذ قرون يتناشد المؤرخون وعلماء اللسانيات أشعارا شعبية قيلت فيما يزعمونه احتفالا بانتصار شارل مارتل على عبد الرحمن الغافقي في بواتييه عام 732م. والواقع أنها كانت واقعة صغيرة، انسحب بعدها المسلمون بسبب مقتل قائدهم. وقد تغلغلوا بعد ذلك في فرنسا وسويسرا، وأيام العثمانيين مضوا حتى وسط أوروبا. إنما ماذا لو أن الواقعة كانت كبيرة وانتصر فيها المسلمون ومضوا إلى باريس؟ إذ ما انحمت الحضارة بالتراجع الإسلامي؛ لأن الأوروبيين ما كانوا يملكون حضارة ولا تمدنا. فالحديث عن انحماء الحضارة بهزيمة بواتييه، هو حديث لا صدقية له، ويتحدث عن الإسلام بذهنية القرون اللاحقة، وذهنية القرن التاسع عشر، حين كانت أوروبا تعيد كتابة تاريخها باعتبارها سيدة وحضارية دائما، والآخرون هم البرابرة! ويبقى قسمان من الكتاب، قبل الوصول إلى المرحلة المعاصرة. القسم الأول منهما يتعلق بعلاقة الإسلام بالأمم الأخرى غير الأوروبية: الصين والهند وروسيا وشرق آسيا بعامة.. فهذه الأمم ما عرفت الإسلام فتحا وحضارة وحسب، بل إن المسلمين يشكلون نسبة معتبرة بين السكان. فبعد انفصال باكستان عن الهند، لا يزال عدد المسلمين فيها يزيد على 100 مليون. وبعد انفصال جمهوريات آسيا الوسطى والقوقاز عن روسيا، أثر هؤلاء، في سلام وامتزاج، في الأعم الأغلب. ولا يزال التاريخ ذا أثر طيب على الاستقرار والامتزاج والتعايش. أما المشكلات التي نلاحظها في العقود الأخيرة، فهي ذات طبيعة إثنية وقومية وسياسية، وليست ذات طبيعة دينية.

إنما لنتأمل العلاقات المضطربة اليوم بين الإسلام والغرب، وأحدث وقائعها 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وغزو العراق وأفغانستان، والحرب على الإرهاب، والصراع العائد مع إيران. ويذهب غراهام فوللر إلى أن الإسلام ما كان مذنبا ولا مبادرا في هذه الصراعات كلها. فالعرب والمسلمون منزعجون من عدم حل المشكلة الفلسطينية، ووقوف الغرب على طول الخط مع إسرائيل. والإيرانيون محاصرون من جانب الولايات المتحدة منذ قيام الثورة الإسلامية. وكشمير والشيشان ومناطق أخرى لها حق تقرير المصير. والغالبية الأعظم من المسلمين لا تميل لحل المشكلات بالقوة، على الرغم من أن الهيمنة والاستضعاف والاستتباع، كلها واضحة في المشكلات المطروحة. فلماذا يتاجر السياسيون بالإسلاموفوبيا رجاء ربح أصوات الناخبين؟ ولماذا الإسلام غير ذي شعبية في أوروبا على الخصوص؟ يرى فوللر أن الأصوليين أو الجهاديين مذنبون في ذلك، لما قاموا به من أعمال عنيفة، لكنه يرى أيضا أن السياسات الغربية بالمنطقة مذنبة، والسياسات الدينية لا تتسم بالانفتاح. فقد كانت فترتا الرئيس بوش بالغتي الصعوبة، وهاهما عامان يمران من فترة الرئيس أوباما من دون أن يقدم الحل الفلسطيني، ثم إن البابوية في عهد البابا الجديد تملك علاقات مضطربة مع الإسلام. وتنتشر الإسلاموفوبيا بقوة في أوروبا، وتصبح تيارا شعبيا قويا حتى في الولايات المتحدة. وفوللر لا ينكر وجود متطرفين بين المسلمين، بل ووجود جماعات اختارت العنف، لكن هؤلاء لا يسيطرون في أي مكان على نظام سياسي، ثم إن الأنظمة العربية والإسلامية تواجه التحدي نفسه من الراديكاليين هؤلاء.

وبعد هذا كله، يختم غراهام فوللر كتابه بتوجيه دعوتين حارتين إحداهما فرضية تاريخية، والأخرى اقتراح. أما الفرضية فتقول: إن العالم سيكون أقل أمنا وثراء وتنوعا وحضارة لولا الإسلام. والاقتراح: أن هذه الحضارة العظيمة، التي يبلغ عدد معتنقي دينها مليارا ونصف المليار، ينبغي التعامل معها باحترام، والدخول مع المسلمين في شراكات بدلا من سياسات الهيمنة، وصراعات مكافحة الإرهاب.