العلمانيون وموقفهم من التراث والتجديد

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

على الرغم من أن النقد الذي وجهه بعض العلمانيين لمشروع حسن حنفي قد تم انطلاقا من أرضية منهجية بحتة؛ فإن بعضا من الإسلاميين سرعان ما تلقفوا أوجه النقد تلك محولين وجهتها لناحية الاستدلال بها على ما سموه «الخداع المعلن» لحسن حنفي، الذي يخفي، بحسبهم، علمانيته، ويصر على الاحتفاظ باسم إسلامي! وفي هذا السياق، يلحظ المرء جيدا نوعا من «الشماتة» بحق المنتقَدين من قبل الإسلاميين، وتلك سمة لا أدري لها سببا مباشرا ولا مبررا معقولا في الواقع! ولذلك سأكتفي هنا بإبراز نموذجين من نماذج النقد العلماني للتراث والتجديد؛ أولهما لعادل ضاهر في كتابه «أسس الفلسفة العلمانية»، وثانيهما لفؤاد زكريا في رده على مجمل مقالات حسن حنفي المنشورة في مجلة «الفكر المعاصر»؛ خاصة: «الآيديولوجية والدين»، و«ثقافتنا المعاصرة بين الأصالة والتقليد»، و«التجديد والترديد في الفكر الديني المعاصر»، و«موقفنا من التراث الغربي».

ومن اللافت للنظر هنا استثمار الإسلاميين لأوجه النقد تلك بطريقة أقل ما يقال عنها أنها شديدة الانتقائية، وعملا بقاعدة «شهد شاهد من أهلها»! ففي سياق دعوته حسن حنفي إلى إظهار إلحاده! يستشهد هاني السباعي بنقد عادل ضاهر لمحاولات التوفيق بين العلمانية والدين قائلا: «وقد كان الكاتب العلماني عادل ضاهر أكثر جرأة ووضوحا منك ومن غيرك في إفصاحه عن علمانيته بالمعنى الغربي الدقيق (اللاتيني)، فقد أساءه كتابة هؤلاء العلمانيين العرب الذين يسيرون على منهج التوفيق والتلفيق، فنقدهم في مقدمة كتابه (أسس الفلسفة العلمانية)، قائلا: والأخطر من هذا تدليلا على تراجع الفكر العلماني عندنا ما نشهده من محاولات حثيثة من قبل المفكرين العلمانيين لدعم موقفهم عن طريق اللجوء إلى الإسلام نفسه، القرآن والسنة، غير مدركين أنهم إنما يقدمون بهذا أكبر التنازلات للحركة المناوئة للعلمانية، وأنهم، وهذا هو الأخطر، يناقضون أنفسهم أيما تناقض؛ إذ يجعلون النص الديني مرجعهم الأخير في مجال دفاعهم عن علمانيتهم، بينما العلمانية تقوم في المقام الأول على مبدأ أسبقية العقل على النص».

وبطبيعة الحال، لا يفوت السيد هاني أن يعقب على ذلك بالقول: «هكذا أراحنا عادل ضاهر وأراح نفسه وأعلن مفاصلته الكاملة للدين، بمعنى أوضح أعلن إلحاده. أما الدكتور حسن حنفي فإنه لم يملك هذه الجرأة. والنتيجة واحدة في كلا الرجلين! فكلاهما يهدم الإسلام وكلاهما ليس على شيء! لكن مهما لفق حسن حنفي وزور وزيف، ومهما طبل له الإعلام المعادي للإسلام، فإنه لن يكون في نهاية المطاف إلا زنديقا من الزنادقة الذين يحاولون هدم الإسلام الشامخ على مر العصور، ومصيرهم معروف: في مزابل التاريخ! ولن يفلحوا إن شاء الله، فالإسلام أصلب من معاول هدمهم». وكأنه بذلك حقق انتصارا للإسلام والمسلمين!! وبالطريقة ذاتها ينحو أحمد خضر في مقاله «الفقيه القديم حسن حنفي وألمع العلمانيين فؤاد زكريا.. قراءة في فكر هدام»، حين يقارب بين طروحات الأول وتعقيبات الثاني، حيث بدأ حنفي مقاله «موقفنا من التراث الغربي» بالتعبير الدقيق عن الدوار الذي يصاب به الإنسان أمام هذا الخضم الهائل من التيارات والمذاهب المطروحة عليه من الشرق والغرب، التي تتراكم عليه من كل اتجاه، ويضطر لاستيعابها حتى يكون مثقفا بلغة العصر، لكن هذه المعلومات المتراكمة تلغي بعضها بعضا، وحصيلتها في النهاية عبارة عن طبقة سمكية وهشة من الأفكار المتقاربة تموت بعد حين من الزمن لأنها أفكار مجتزة الجذور.

ثم يقر حنفي بالخطأ الذي وقع فيه - هو وغيره - من الكتاب غير الأوروبيين حين ترجموا وشرحوا وعرضوا، بل وانتسبوا واعتنقوا كتابات الغرب، وحين اعتبروا الحضارة الأوروبية حضارة عامة لكل الناس، بحيث لم يروا نوعية هذه الحضارة أو رأوها وتغافلوا عنها، ولم يلتفتوا إلى حقيقة أن النمط الفني أو الأدبي أو الفكري الغربي له ظروفه الخاصة التي نشأ فيها، وأنه لا يمكن نقله إلى بيئة أخرى غيرها باسم التجديد والمعاصرة. وأرجع حنفي هذا الخطأ إلى أنهم كانوا على غير وعي كاف بالتراث القديم.

ويعقب خضر على ذلك الاعتراف - أو بالأحرى تلك الدعوة الموجهة لرد الاعتبار ودراسة التراث الإسلامي - بالقول: إذن فهي دعوة إلى العودة للتراث القديم وإلى اتخاذ موقف صريح وواضح من التراث الغربي كما يقول الفقيه القديم. ويستطرد قائلا: ولا شك أن البعض يمكن أن تخدعه مثل هذه الدعوة، لكنه سرعان ما تتكشف حقيقتها، حينما نجدها ترتبط بدعوة أخرى إلى نبذ الانتماءات السابقة التي هي في نظر «الفقيه القديم» انتماءات تنم عن تفكير غير علمي لا يعتمد على المراجع ولا على البحث والاستنباط، وتفكير أثبت التاريخ فشله لأنه يقف عند حدود رسائل ومثاليات ومناهج من شأنها أن تكون عائقا فكريا وحركيا لهم، وكل ذلك إشارة إلى الإسلام بمعناه المعروف! ثم ينتقل خضر بعد ذلك إلى تقرير أن فؤاد زكريا هو أقرب الناس إلى فهم حقيقة صديقه حسن حنفي، وأنه من واقع فهمه لحقيقة الاتجاه الفكري العام لحسن حنفي، وقف مندهشا إزاء دعوة الأخير للعودة إلى التراث القديم، واتخاذ موقف جاد من التراث الغربي، وقد بلغ به الاندهاش مبلغه حينما رأى أن الدكتور حنفي قد اتخذ لنفسه مظهر «الفقيه القديم»! هذا ويمكن تحديد الخطوط الأساسية التي رسمها زكريا لفكر حنفي في العناصر التالية:

أولا: إيمانه العميق بالفكرة التي يدعو إليها، حيث شكك زكريا في أن يكون اتجاه حنفي إلى العودة للتراث القديم من قبيل استجلاب تعاطف القراء، أو لرغبة منه في التملق إليهم على اعتبار أن جمهور القراء يتعاطف حتما مع من يقف إلى جانب العقيدة السائدة ولا يقف إلى جانب من يعارضها. ومن ثم؛ استبعد زكريا هذا الافتراض بناء على معرفته الوثيقة بصديقه ومما قاله في ذلك: «إذ إني أعرف عن كاتبه ما يجعلني أجزم بأنه لم يكتبه تملقا لجمهور قرائه، بل إنه كتبه عن إيمان عميق بما يقوله كشأنه دائما في كل ما يكتب».

ثانيا: تأثره القوى بفكر المعتزلة، حيث يشير زكريا إلى تعاطف حنفي مع التيار العقلي في التراث الإسلامي حين يتساءل: علام يدل انحياز كاتب المقال للتيار العقلي بالذات في الإسلام؟ مؤكدا تأثر حنفي بالثقافة الغربية كذلك: «ونحن لا نملك إلا أن نعترف بأن كل من يميلون إلى تأكيد أهمية هذا التيار، ومنهم الدكتور حسن حنفي وكاتب هذه السطور (فؤاد زكريا)، متأثرون على نحو مباشر، أو غير مباشر، بالثقافة الغربية التي كان التيار العقلي فيها هو الغالب بلا منازع، والتي استطاع هذا التيار أن يقود مسيرتها الظافرة إلى كل ما حققته من إنجازات». ولا يفوت خضر بالطبع أن يعيد هنا ما سبق وكتبه السباعي عن فتح المعتزلة المجال أمام العلمانيين للنيل من الإسلام!! ثالثا: استشهاده الزائد بالثقافة الغربية، ونقدها، مع الاعتماد الكلي عليها، وفي ذلك يقول زكريا: «إن النقد الذي يوجهه الكثيرون إلى حنفي شخصيا يقوم على أساس أنه يستشهد بالثقافة الغربية إلى حد يبدو في بعض الأحيان زائدا. وهناك أمثلة كثيرة على أن محاولة الاستقلال عما يسمى بالتراث الغربي تكشف هي ذاتها عن اعتماد لا حد له على هذا التراث، بل إنها تتم في الواقع على أساس مناهج لا تفهم إلا في ضوء المفاهيم الغربية وتحقيق قيم لم تستمد إلا من الغرب (ذاته)».

رابعا: تأثره بمنهج «سبينوزا» في نقده للتوراة والإنجيل في دعوته إلى نقد النصوص الدينية، فتأثرا بـ«سبينوزا» نادى حنفي بضرورة دراسة قضية التحريف والتبديل والتغيير فيما يسميه بالكتب المقدسة التي تحدث عنها القرآن، وكذلك تغيير أهل الكتاب لعقائدهم وإساءاتهم لفهم أقوال المسيح، وتبديل أقوال الأنبياء على اعتبار أنها فرض علمي. ويعتبر حنفي أن هذه الدراسة الجديدة لقضية التحريف في القرآن لون جديد من تفسير الآيات الخاصة بالتحريف عن طريق إيجاد الوقائع والحوادث التاريخية التي يصفها القرآن.

وهنا تصدى له فؤاد زكريا مؤكدا أن دعوته هذه لم تستمد إلا من مناهج التفسير التاريخي للنصوص الدينية التي ازدهرت في أوروبا منذ وقت مبكر - يرجع إلى حدود القرن السابع عشر - ونمت نموا كبيرا في ذلك الحين، وأنه لولا المناهج الأوروبية لما كان لهذه المحاولة معنى، وحجته في ذلك أن تحريف الأناجيل - كما أكد القرآن - ينصب على تحريف نص ديني كان من المفروض أن يظل ثابتا لأنه منزل، على حين أن اتجاه التفسير التاريخي يرد كل النصوص - الثابت منها والمحرف - إلى أصول تاريخية.. وتلك قضية أخرى!

* كاتب مصري