السياسة لا الأديان.. وراء التوتر بين المسلمين والغرب

إميل أمين

TT

هل تقف الخلافات السياسية وراء التوترات الحادثة بين الشرق والغرب بقدر أكبر من الاختلافات الدينية؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، وهي كذلك فعلا وقولا؛ فأي طريق يتوجب على العرب والمسلمين أن يسلكوه في حلهم وترحالهم مع العوالم والعواصم الغربية، اليوم وغدا وإلى ما شاء الله؟

أكثر من استطلاع رأي وكتاب وقراءة حديثه صدرت في الأسابيع والأشهر القليلة المنصرمة تؤكد على أن السياسة ودسائسها، والاقتصاد ومغرياته، كانت بالفعل وراء التوترات المتصاعدة بين الشرق والغرب، الأمر الذي تنتفي معه الحتمية القدرية التي تحدث بها صموئيل هنتنغتون في تقسيمه المانوي للعالم بين معسكرين؛ أحدهما له سمات ثقافية دينية مسيحية يهودية من جانب، وإسلامي كونفوشيوسي من جانب آخر، في محاولة لبسط ما يمكن أن نطلق عليه «حالة من حالات التجانس اللافقاري الجبري»، وفي ظل هيمنة آيديولوجية غربية وصل بها الغرور حد القول إن الرأسمالية هي نهاية التاريخ، مع ما في هذا الحكم من شمولية وتعميم ينافي ويجافي أبجديات الحرية الفكرية والنيوليبرالية الحديثة.

أحدث استطلاع للرأي نشير إليه في هذا السياق أجراه مركز جالوب لاستطلاعات الرأي في أبوظبي على مدى السنوات الأربع الماضية (2006 - 2010)، وشمل أكثر من 55 دولة، وقد كان السؤال الرئيسي محور الاستطلاع: «هل الخلافات بين الشرق والغرب مرجعها الرئيسي ديني أم سياسي»؟ وعلامة الاستفهام التالية في الاستطلاع ذاته تناولت إشكالية التفاعل بين المسلمين والغرب، وهل هي علاقة تهديد كما يحاول البعض أن يروج للمشهد، أم أنها في أوجه كثيرة منها علاقة إيجابية بناءة، وفي حاجة إلى دوافع ومحفزات لتطفو على السطح؟

حمل استطلاع الرأي عنوان «قياس حالة العلاقات بين المسلمين والغرب: تقييم البداية الجديدة»، وقد ذهب 59 في المائة من المستطلعة آراؤهم في 48 دولة، ويبلغ عددهم نحو 100 ألف شخص إلى أن التفاعل بين الدول ذات الأغلبية المسلمة ودول أوروبا وأميركا هو إيجابي، ويشكل فائدة وليس تهديدا.

وبلغة الأرقام كذلك فإن 40 في المائة من المسلمين في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا يعتقدون أن الخلافات السياسية تشكل السبب الأول وراء التوترات بين المسلمين والغرب، كما أبدى هؤلاء اعتقادا واضحا بأن النزاعات العنيفة يمكن تجنبها.

أما بالنسبة لعينات الولايات المتحدة الأميركية وكندا، فيؤمن 35 في المائة منهم بأن الخلافات السياسية هي سبب هذه التوترات.

ومن الاستنتاجات المثيرة في هذا الاستطلاع إظهاره وجود علاقة تبادلية قوية بين التعليم واستعداد المرء لرؤية تفاعل متزايد بين المسلمين والغرب على أنه فائدة؛ إذ ينزع غالبية الأفراد من خريجي الدراسة الثانوية أو الشهادات العلمية الأعلى لأن يروا التفاعل المتزايد كفائدة، بغض النظر عما إذا كانوا في دولة مسلمة أو غربية.

على أن ثلاثة ملفات بعينها يظهرها الاستطلاع كعقبة كئود في الشرق الأوسط والعالم الإسلامي تقف في طريق الرؤية للغرب والتعاطي معه، وهي العراق وأفغانستان وفلسطين، حيث تشكل بؤر التوتر الآنية والمستقبلية، التي نجح البعض في تحويل مسارها من صراعات نسبية ولوجيستية إلى مواجهات دينية عقائدية قابلة للاستعمال المستمر والمتزايد، بما يؤثر سلبا على أي علاقة مستقبلية بين الشرق والغرب عامة.

القراءة الثانية في هذا السياق نجدها عبر كتاب صدر حديثا يحمل عنوان «أوجه التشابه العشرة» لمؤلفته اليزا جريسوولد، التي ترى أن ما يجري من مواجهات بين الأديان في الظاهر ينطلق من خلافات سياسية واقتصادية من الباطن، وهو أمر يخفى على كثير من المراقبين وكل العوام، إن جاز التعبير.

الكتاب عبارة عن رصد لأحوال مسلمين ومسيحيين في أفريقيا وآسيا، حيث هناك هندوس وبوذيون كذلك، وفيه تؤكد أن الطبيعة الجغرافية وقضايا تقاسم الثروات المادية كثيرا ما كانت سببا في تطرف عدد من أتباع الأديان، وبالتالي حدوث صراعات تكتسي في المظهر بثوب ديني، ثم لا يلبث أن ينسحب على ما هو أبعد جغرافيا من الأطر المحلية إلى ما وراء البحار والمحيطات، ليحط بنا في خندق «صراع الحضارات أو الأديان» لصاحبه هنتنغتون من جديد.

وعند «جريسوولد»، على سبيل المثال لا الحصر، أن الطبيعة الاستوائية والتاريخ والموارد المتباينة في الغابات والصحراء، بالإضافة للمناخ والاتجاهات الديموغرافية، قد أثرت على الصراعات بين الأديان؛ فالانفجار السكاني وتزايد المسيحية في أفريقيا في الخمسين سنة الأخيرة، مع زحف المسلمين جنوبا هربا من التصحر في الشمال، قد أدى إلى زيادة الصراعات بين أتباع الديانتين، لا على أساس تناحر فكري مذهبي «ثيؤلوجي» أو فقهي، بل من منطلق الصراع على تقاسم الثروات المعدنية كالنفط والأخشاب والمعادن، ومحاولة كل فريق تحقيق أكبر قدر من المكاسب لجماعته العرقية والدينية، مما يعني أن الأديان هنا ليس لها اليد العليا في التفرقة والاحتكاك ثم الصدام التاليين.

وأبلغ مثل عند صاحبة كتاب «أوجه التشابه العشرة» هو نيجيريا التي يزيد عدد سكانها عن 140 مليون نسمة، وهي دولة غنية بالنفط وتعتبر خامس دولة موردة للنفط للولايات المتحدة الأميركية، والإشكالية هناك هي التقسيم «الجغرافي الديني»، إن جاز التعبير، بين شمال مسلم وجنوب مسيحي، وقد تسبب النزاع الطائفي فيها في مقتل عشرات الآلاف من الجانبيين من منطلقات سياسية واقتصادية وعرقية لا من خلافات مذهبية في الأصل، غير أنه هيهات إن كانت الرواية الأصلية تصدق عند فريق له مصالح في الترويج لفكرة «نشوء وارتقاء» الصراع الديني والاضطهاد العرقي والتمييز العرقي.

والشاهد أنه إذا كان هناك من يرى أن الصراعات السياسية والمصالح الاقتصادية الضيقة الأفق تقف وراء زيادة الاحتكاكات الدينية بين الشرق والغرب، أو بين المسلمين والغرب، وهو تقسيم مخل على أي حال، وأن قبلنا بطرح السؤال بشكل متجاوز للحقائق العلمية والديموغرافية؛ فهل الصراع أو المواجهة بين الغرب والإسلام إذن أمر واجب الوجود؟

على نقيض الافتراضات الشائعة، يرى المفكر التقدمي الأميركي «د. بيتر سنجاس» أنه لا توجد خطوط منازعات تنطوي على إمكانية انفجار شديد بين العالمين الإسلامي والغربي، ولا حتى البدايات الأولى لذلك، أو خطط تنازع مستحدث، بل ولا مواجهة وليدة منظمة، ويضيف أنه إذا تحدثنا عن النزاعات القائمة بالفعل، نجد أن بعضها نزاعات معتدلة وبعضها الآخر كيانات متناثرة، وجدنا بعضا منها نزاعات قاسية حقا داخل البلدان العربية الإسلامية أو داخل العالم الإسلامي ككل، وهذه في الحقيقة نزاعات خاصة بالتحديث، تشبه النزاعات التي شهدتها أوروبا بين القرنين السادس عشر والعشرين، وإن جرت في ظروف مختلفة وأخذت إطارا ثقافيا مختلفا.

لماذا إذن تبقى مساحة الصدام تتسع مذهبيا بين العالم الإسلامي والغرب، وهو ما نراه اليوم، ومن أسف شديد، متمثلا في الإسلاموفوبيا والـ«أورابيا فوبيا» إن جاز القول؟

حتما هناك إشكالية أوسع وأعرض في حاجة إلى جهود عربية وإسلامية لتغيير واقعها، وتتمثل في نظرة الغرب الشمولية حتى الساعة للعرب والمسلمين؛ فعلى سبيل المثال من يقرأ كتاب المؤرخ الأميركي الشهير «بول كيندي» المعنون «الاستعداد للقرن الحادي والعشرين»، يجد أن نظرته، والمفترض فيها مراعاة المنهجية العلمية في قراءاته وأبحاثه، تبقى على حالها كشأن كثير بل غالبية الرؤى الكلاسيكية الغربية عن مستقبل المنطقة، ونلاحظ أن البروفسور كيندي عندما يصل إلى الشرق الأوسط يتخلى عن حياده وأستاذيته في التاريخ والاستراتيجيات، فيكرر أسطوانة مشروخة مللنا من سماعها من الدوائر الغربية، فهو يوحي بأن الدول العربية متخلفة عن الركب الحضاري، مليئة بالعداوات والتنافس، كما يشير إلى ما يسميه بالجماعات الإرهابية التي تضع علامة استفهام حول مستقبل الجزائر والمغرب والأردن ومصر، وعنده كذلك إن ما يجري في لبنان درس مفيد في سياسات القوى يوضح كيف يلتهم القوي الضعيف، على حد وصفه.

ومن جديد، هل يعني موقف «بول كيندي» هذا، وأنداده الكثر غربيا، أن على العالم العربي والإسلامي البحث عن طرق فكرية جديدة في التعاطي مع الغرب؟ حتما لا بد أن يكون الأمر على هذا النحو الذي نعي وندرك من خلاله الخصائص الجوهرية للمجتمعات الغربية التي نود الدخول معها في حوارات، ذلك أنه من دون تأصيل لفهم ظاهرة النخبة التي توجه عقول الغرب اليوم لن نستطيع التواصل معهم.

والمقطوع به أن جميع الخصائص الجوهرية المميزة للعالم الغربي اليوم هي إلى حد كبير نتاج عمليات تطور مثقلة بالنزاعات والتناقض أكثر من كونها نتاج عملية تطور ذاتي حددته مسبقا جينات ثقافية.

جوهر القضية إذن أن تطور الغرب أو حداثته يجب أن نتأمله في سياق النزاعات بعيدة المدى بين جماعات القوى القائمة والمستحدثة، وبين التطورات التقدمية والرجعية.

هل يمكننا أن نتساءل قبل الرحيل: ماذا فعل التنويريون منا، وما هو دور المؤسسات الفكرية العربية والإسلامية لتغيير الصورة النمطية عنا بصورة واقعية، وإزاحة ترهات عالم المخيال (على حد تعبير المفكر العربي الراحل الكبير، البروفسور محمد أركون)؟ ثم ما الذي نحن في حاجة إليه حتى يكون تعاملنا مع الغرب تعاملا عقلانيا بالدرجة الأولى، وليس عاطفيا وليد اللحظة؟

عند العالم المصري العروبي وأبو الاستشراق الحديث الفعلي، الدكتور أنور عبد الملك أنه «من الغريب والمستغرب أن يتم طرح لقضايا الوطنية والحضارية والقومية التي هي منا ولنا وملكنا بدءا من رؤية الغير، مستعملين المفاهيم والعبارات والمقابلات والشعارات نفسها، وكأنه مكتوب علينا أن نظل في مقام رد الفعل دون الفعل السيادي».

أما المفكر الإسلامي الكبير، الدكتور حسين أمين، فيرى أن الحل الأمثل للتعاطي مع الغرب دون خجل أو وجل، وبلا صغر للنفس، يتمثل في الإقدام على دراسة موضوعية هادفة للأفكار والنظم الغربية من أجل تحديد طبيعة الاستجابة الصحية الواجبة على المسلمين أن يتبعوها إزاء الضغوط العربية المختلفة على مجتمعهم؛ فإن كان في الحضارة الغربية ما هو فاسد مفسد، فالكثير من الأفكار والنظريات التي ورثناها هو أيضا فاسد مفسد. وما لم نتصد بالدراسة لتراثنا وتقاليدنا هي الأخرى بالموضوعية نفسها والهدوء، والمعايير العلمية، والحرص على تجنب الآراء التحكمية، فما من أمل يبقى في قدرتنا على مواجهة التحديات المعاصرة.

وملاك القول: ليس المهم ما يظنه الغرب فينا، بل ما نحن عليه في واقع الحال، والأمر الآخر الذي لا شك فيه بمطلقية لا غش فيها هو أن الأديان في المنطقة العربية لم تكن يوما أداة للتمايز أو التفريق، فقد عاش اليهود والمسلمون والمسيحيون عبر أربعة عشر قرنا، ولم تنتشر بذور الفتنة إلا مع أسافين الاستعمار بوجهه الإمبريالي القديم منها والمحدث، وبفرزه السياسي، وتمايزه الآيديولوجي، الذي لا يزال يعمل في جنبات البلاد، وفي صدور بعض من العباد، وما لم نتنبه له فلن تبقى لنا قدرة على حل المعضلات في الحال أو الاستقبال، وهذا يعود بنا إلى دائرة الفعل السيادي الذي يجب أن ندركه إدراك اليقين، وفي مقدمته أن المصالح السياسة وأغراضها هي المسبب الأول والرئيسي للتوترات بين المسلمين والغرب، ولم ولن تكون الأديان يوما هي السبب.

*كاتب مصري