في تهافت القول بـ«الإرهاب الإسلامي»

إميل أمين

TT

مرة جديدة يعود بنا رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير، إلى المربع رقم واحد لجهة الجدل الدائر منذ زمان حول الإرهاب وهويته، وهل للإرهاب دين أم لا؟

والشاهد أنه جدل يأتي في غير وقته، وفي زمن تتسرب فيه مخاوف كثيرة من أن يعود تصادم الهويات الدينية ليبسط ظله المخيف على العلاقة بين الشرق والغرب.

ففي تصريحات أخيرة له ينعت بلير الإرهاب بـ«الإسلامي»، ويعتبره أخطر ما يواجه الغرب حاليا، ويعود بنا من جديد إلى تكرار علامة الاستفهام العنصرية التي قُتلت بحثا.. لماذا يكرهوننا؟ وهو هنا يتقمص دور الناصح للغرب بقوله: «الحقيقة هي أنهم يفعلون ذلك لأنهم يختلفون بشكل أساسي مع طريقتنا في الحياة، وسوف يواصلون عمل ذلك ما لم يواجهوا بالعزم المطلوب وبالقوة إذا لزم الأمر».

على أن بلير هذه المرة يؤجج ومن جديد الرهبة في نفوس الغربيين، ويعزز من الدعوات العنصرية الرافضة للحضور الإسلامي في الغرب، لا سيما وهو يرى أن الخطر الناجم عن ظهور نموذج جديد من الإرهابيين والمتشددين يستندون إلى أفكار عقائدية ترتبط بالإسلام، في الوقت الذي تتوافر أمامهم التكنولوجيا التي تساعدهم على قتل الناس بصورة جماعية، على حد قوله.

والمقطوع به أن مناقشة هذه الإشكالية بموضوعية وتاريخية أمر في حاجة إلى دراسات مطولة، لا إلى مقال أو بضعة مقالات، غير أننا سنحاول من دون تقصير مخل التوقف مع طرح بلير ومن جديد عبر مناقشة هادئة متزنة.

يمكننا العودة بداية الأمر إلى تصريحات سابقة أطلقها توني بلير في أكتوبر (تشرين الأول) من 2001، أي في ذروة المشهد الدرامي لأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، خلال ندوة عن «موقف الإسلام من الإرهاب»، وفيها قال بالحرف: «علينا أن ننسب الإرهاب إلى مرتكبيه، وليس إلى الأديان والطوائف الأخرى، بما فيها المسيحية واليهودية والبوذية»، ومضيفا: «إنه مثلما أننا لا ننسب الأعمال الإرهابية في آيرلندا الشمالية إلى الدين المسيحي، فلا يجوز أن ننسب ما حدث في الولايات المتحدة الأميركية يوم الحادي عشر من سبتمبر إلى الدين الإسلامي».

وخلاصة الرأي عند بلير هو أن «معركتنا هي ضد الإرهاب والإرهابيين وليست ضد الإسلام والمسلمين».. لماذا يتراجع بلير عن مواقفه السابقة؟

قطعا، ودون أدنى شك، لا يمكن أن يفصل المرء تصريحات بلير الأخيرة عن حالة المد الديني التي تجتاح أوروبا، والتي تجد من ينفخ النار في مخاوف أهلها لتشتعل جذوتها كراهية ومقتا وتعصبا، وبعيدا عن أي جذور دينية إيمانية عقلانية حقيقية، ولنا في العنصري الأميركي «دانيا بايبس» مثال؛ إذ لا ينفك يثر الهواجس لجهة «أسلمة أوروبا» والقضاء على المسيحية الغربية هناك، بل إنه يذكر وبالحرف الواحد في إحدى مقالاته أخيرا ما نصه: «ما زلت أرى أن مستقبل أوروبا - هل تستمر في هويتها المسيحية التاريخية أم تصبح ملحقا تابعا لشمال أفريقيا المسلم - لا يزال مفتوحا؟ ولا يكتفي بذلك، بل يذهب إلى التقرير بأن «سلوك الشعب البريطاني أضعف حلقة في السلسلة الغربية، مما يشير إلى أن الشعب البريطاني في أحسن الأحوال قد يكون مشوشا غير قادر على التفكير الواضح، وتختلط عليه الأمور بدرجة كبيرة تحول بينه وبين مقاومة مصيره في أن يصبح لندنستان».

هل يخشى المرء القول إنها عودة ومن جديد للصراع ذي الملامح الدينية، وإن تزيا ثوبا ثقافيا أو حضاريا إلى آخر المصطلحات الالتفافية التي عهدناها في السنوات العشر المنصرمة؟

الجواب في حاجة لدراسة معقمة جادة، وأمثال دانيال بايبس - ولنا لاحقا معه وقفة وقراءة - يكثرون من أسف في هذه الأجواء المحتقنة، لكنه من حسن الطالع أن هناك في الغرب ركبا لم تجثُ للبعل ومراكز دراسات وأبحاث من الحياد والنزاهة بل والموضوعية قادرة على لجم جماح المتقولين زورا.. كيف وأين؟

يكتب الروسي «ميخائيل زابوروف» في كتابه «الصليبيون في الشرق»، وفي المقدمة تحت عنوان «شاهرو السيوف» ما نصه: «الإفرنج يجوسون المدينة، شاهري السيوف، لا يشفقون على أحد، حتى الذين يتوسلون الرحمة.. سقط شعب الكفار تحت ضرباتهم مثلما تسقط جوزات البلوط المهترئة من شجرة البلوط حين يهزون أغصانها».. هكذا يتحدث مؤرخ «قروسطي» نقلا عن شهود العيان عن المآثم والفظائع التي اقترفها الصليبيون «الإفرنج» في القدس العربية حين احتلوها في 15 يوليو (تموز) عام 1099.

هل الدين المسيحي إذن هو المتهم بالإرهاب؛ ليس في المشهد السابق التاريخي فحسب، بل امتدادا ووصولا إلى حربين عالميتين جريتا على أرض الغرب المسيحي قضى فيهما ما يتجاوز الـ60 مليون نسمة؟

يمكننا الرجوع إلى ما يقوله البروفسور جون اسبوسيتو، رجل الحوار الإسلامي - الكاثوليكي الشهير، وهو أنه «إذا كانت أديان العالم في مجملها لديها تاريخ طويل وسجل حافل من العنف والإرهاب الديني، فإن العقائد التوحيدية الإبراهيمية الثلاث (اليهودية والمسيحية والإسلام)، لكونها وحيا فريدا، ولاجتماعها على إله واحد ذي وجود حقيقي، ولارتباطها بأرض مقدسة، إضافة إلى عالمية الرسالة المسيحية والإسلامية، كانت أكثر عرضة لآيديولوجيات استعملت من قبل القادة السياسيين والدينين لإضفاء المسوغ الشرعي على التوسعات الإمبريالية والعنف والإرهاب».. هل من معنى أوضح لما تقدم؟

يمكننا القول إن الحديث عن الأسباب المؤدية إلى ما يعرف بـ«الاحتجاج بالعنف»، وهو التعبير العلمي الصحيح، عوضا عن المصطلح المبهم «الإرهاب»، يمتد من السياقات السياسية مرورا بالاقتصادية والاجتماعية، دون إغفال الدور السلبي للاحتلالات العسكرية، وهذه جميعها تبقى الحاضنة الرئيسية والمحرك والباعث الرئيسي لكل فعل قوة متفجر في الآخر، لضعف وقلة حيلة في مواجهة سابقة أوسع، وفي هذا الحال تستدعي النصوص الدينية (مسيحية - كما في الحروب الصليبية - أو إسلامية - كما في غزوتي نيويورك وواشنطن) على سبيل المثال لا الحصر، ومبرر استدعائها هو العوز الآيديولوجي والدوغمائي أحيانا كثيرة لصياغة وحضور وازع فلسفي ومسوغ أخلاقي عبر خلفية نواميس إلهية ربانية، تساعد وتدعم في حراك شعبي وتعبئة جماهيرية.

وبتحليل علمي رصين يخلص المرء إلى أن العنف أو الإرهاب المرتكز على صراعات المطلق الديني يجتهد في الحصول على أبعاد سلطوية مطلقة وقداسة غير مجروحة لأفعاله، لا سيما أن مجال الدين الأرحب يمتد إلى ما وراء الطبيعة، ويتصل بالأخرويات - على حقيقتها - ويعزز دعوات الاقتتال وآيديولوجيات الموت على خلفية الصراع المقدس.

يحدثنا السيد بلير عن الإرهاب الإسلامي، ولا يتوقف أمام مفكر أميركي مثل جورج ويجل، الزميل الباحث رفيع المستوى بمركز «الأخلاقيات والسياسة العامة» في واشنطن دي سي، وصاحب الدعوة لـ«نظرية معدلة لحرب المسيحية لمجابهة الدول المارقة»، ففي محاضرة ألقاها الرجل عام 2002 قال: «إن القول إن موروث الحرب العادلة عفا عليه الزمن هو القول إن فكر الإجراءات السياسية (أي تنظيم الحياة البشرية في مجموعات سياسية هادفة) قد عفا عليه الزمن».

وبالقطع كانت تلك الأفكار معينا لا ينضب للغزو الأميركي للعراق.. فهل كانت دعوة ويجل نوعا من «الإرهاب المسيحي» لا سيما بعد ثبوت أكاذيب مبررات شن الحرب على العراق؟

كان أول من تصدى بالنقد والتفنيد لدعوى ويجل: «مجلس الأساقفة الكاثوليك في أميركا»، انطلاقا من أن العنف والقتل لا ينشئان خيرات زمنية أو يقيمان روحانيات أبدية، وينافي ويجافي الدعوة المسيحية إلى المحبة والسلام والعدالة لكل البشر، وهذا يعني أن الاحتماء بالثوب الديني ليس إلا تزويرا للحقائق وقلبا للأوضاع الدينية واللاهوتية أو الفقهية. سمِّها كما شئت.

والقول بـ«الإرهاب الإسلامي» يرجع بنا ومن جديد إلى التساؤل الحائر عند عدد من مفكري الغرب المسيحيين المعتدلين والموضوعيين، وفي مقدمتهم جون اسبوسيتو: «هل هناك تهديد إسلامي في حقيقة الحال؟ أم أن الأمر خرافة لمصلحة جهات بعينها لا تغيب عن عيني الناظر المحقق والمدقق للمشهد؟».

والرد أنه إذا كان المعنى أنه يمكن أن يكون هناك تهديد غربي أو تهديد يهودي - مسيحي فالإجابة نعم، فالإسلام مثل اليهودية أو المسيحية، قدم طريقا للحياة وهداية حولت حياة الكثيرين، إلا أن بعض المسلمين، مثل بعض المسيحيين واليهود، قد استغلوا أيضا دينهم لتبرير العدوان والحرب وإضفاء الشرعية عليهما، وكذلك الغزو والاضطهاد في الماضي والحاضر.

وضمن الدعاوى المتكررة المتصلة بالأمر القول إن أي فعل وكل فعل إرهابي يقع في الغرب أو الشرق هو أمر يلقى تعاطفا من الإسلام والمسلمين، وكأن التعاطف هذا - حال وجوده بالمطلق - حكرا على المسلمين. مثل تلك الادعاءات تفندها عدة استطلاعات للرأي؛ بعضها جرى أخيرا في معهد بيو في واشنطن، الذي يقوم على غالبية القضايا ذات الملمح والملمس الديني؛ فعلى سبيل المثال أظهر استطلاع أن 46 في المائة فقط من الأميركيين يعتقدون أن القصف المتعمد والهجمات الأخرى التي تستهدف المدنيين لا يمكن تبريرها أبدا، بينما يعتقد 24 في المائة منهم أن هذه الهجمات «مبررة دائما أو أحيانا».

لنقارن هذا ببيانات من بعض أكبر البلدان ذات الغالبية الإسلامية، حيث وافق 74 في المائة من المستطلع آراؤهم في إندونيسيا على أن الهجمات الإرهابية «غير مبررة أبدا» بينما تصبح النسبة في باكستان 86 في المائة، وفي بنغلاديش 81 في المائة، وفي إيران 80 في المائة.

وبالمثل يعتقد 6 في المائة من الجمهور الأميركي أن الهجمات التي تستهدف المدنيين مبررة تماما، وكنقاط للمقارنة فإن هذه النسبة تبلغ في لبنان وإيران 2 في المائة، وفي السعودية 4 في المائة، ولا يميل المسلمون في باريس ولندن بأكثر من نظرائهم من الجمهور العام للاعتقاد بأن الهجمات على المدنيين مبررة، وينزعون أكثر إلى رفض العنف، حتى في سبيل القضايا النبيلة.

هل تثير تصريحات بلير مخاوف حقيقية؟

بكل تأكيد وتحديد نعم، فالإصرار على لصق الإرهاب بالإسلام، وتوصيف وتشخيص المشهد على أن الإرهاب عرض لمرض اسمه الإسلام، وهو أمر شائع وذائع وتتسع رقعته ومن أسف، يحمل على القول بمخاطر جدية تحدق بالحوار والجوار والتعايش المشترك بين أتباع الأديان السماوية كافة، وبين العلاقات الحضارية التي تجمع الأمم والشعوب، ذلك لأنه يعزز ويرسخ، بل ويوسع، من انتشار المفاهيم الأصولية، ويدفع الغالبية العظمى المعتدلة من المسلمين ليقين مفاده بأن الحرب على «الإرهاب الكوكبي» هي في الواقع حرب على الإسلام والمسلمين، الأمر الذي يقلص من أي مساحة للاعتدال والسماحة، ويدفع بنا من جديد في طريق الصدامات الدينية، ويعزز من الأفكار السلبية المضادة تجاه الغرب والغربيين والمسيحية والمسيحيين، وهذا ما لا يظن المرء أن السيد بلير يتطلع إليه أو يتمناه بحال من الأحوال.

* كاتب مصري