رئيس العلماء في البوسنة: التغيير السلمي في البلاد العربية سيقضي على العنف والهجرة والطائفية

د. مصطفى تسيريتش لـ «الشرق الأوسط»: ما حدث في تونس ومصر يدشن عهدا جديدا لرغبات الشعوب

د. مصطفى تسيريتش رئيس العلماء في البوسنة والهرسك («الشرق الأوسط»)
TT

أعرب الدكتور مصطفى تسيريتش، رئيس العلماء في البوسنة والهرسك، عن ترحيبه بالثورتين التونسية والمصرية، معتبرا ما جرى في بداية عام 2011 تدشينا لتاريخ جديد في تونس ومصر والمنطقة والعالم، وقال في حديث خص به «الشرق الأوسط»: «ثورة مصر جاءت كنتيجة لمخاض طويل وعسير من الصراع الداخلي في أبعاده الأمنية، والسياسية، والثقافية، ونتج عنه ثورة إسلامية، ديمقراطية، حضارية» وأضاف «نكاد لا نصدق ما نرى هذه الأيام من استفاقة شعبية خلنا أنها لن تحدث حتى في الأحلام، وقد حان الوقت ليرى العالم، أن المسلمين، وخاصة العرب، جديرون بالكرامة والاحترام في الداخل والخارج، وقد أبدوا رغبة حضارية في الحرية، وتدبير شؤونهم بأنفسهم دون وصاية من أحد في الداخل والخارج». وقال: «نحن نعتبر هذه اللحظة التي نعيشها تصحيحا استراتيجيا في تاريخنا الإسلامي العربي، ومن أعز اللحظات التي أعقبت ما جربته البلاد العربية من الاستعمار والاحتقار والاستفزاز والقمع والضغط والاضطهاد من قبل القوى الداخلية والخارجية، كما أنها تؤسس للقطع مع الشعور بالهزيمة في كل شيء، في الحرب والسلم، وفي تنظيم المجتمع، وفي التربية والتعليم».

وأوضح الدكتور تسيريتش أن الثورتين التونسية والمصرية «جاءتا نتيجة لظهور جيل جديد، أدرك أن عليه التضحية، وصنع واقعه الذي يحلم به، لا الذي يكتوي بناره، ويقتل فيه إنسانيته وكرامته وجذوره الممتدة في أعماق التاريخ بمآثرها، بينما الواقع الذي يعيشه يشعره بالعيش في أسفل سافلين، إنه يئس من إمكانية أن يتدخل الآخرون، ولا سيما الخارج، لتغيير واقعه المريض، والبائس، والعاجز، والهرم، ولا يستطيع أن يعتمد على أولئك الحكام الذين لا أقول إنهم تربوا على كره هويتهم الإسلامية والقومية، ولكن لديهم شيء من الاستكانة، لأنهم لم يأخذوا الأمور كما يجب، وكما هو مطلوب».

وحول الماضي التليد، والواقع الآسن، قال الدكتور تسيريتش «هذا ما نطلق عليه معجزة الإسلام ولغز التاريخ، فالإسلام انتشر في الجزيرة العربية والعالم في وقت قياسي، وهزم الحضارتين الفارسية والرومانية، عندما كانت شريعة الإسلام تعلو المجتمع، ولم تنزل راية العرب والمسلمين إلا بعد أن بدأوا يتخلون عن مقاصد دينهم وتعاليمه ونصوصه المحكمة، فنزلت الأمة إلى هوامش التاريخ». وتطرق الدكتور تسيريتش إلى انقسام الأمة، بعد صدمة الحداثة، أو ما سماه «العودة للتاريخ» بين مشروعين للتحديث، يعتمد أحدهما على التغريب، والثاني على التأصيل الإسلامي، «في القرنين الأخيرين يحاول العرب العودة للتاريخ، وهناك اتجاهان بارزان في هذا الخصوص، التغريب العلماني اللاديني، والعودة للإسلام، وهذان الاتجاهان كانا يتواجهان ويتصارعان ويتسابقان بأساليب غير متكافئة، فقد استخدم الأول العنف، وركن لعصا البوليس، بينما راهن الثاني على الشعوب، وعلى مآلات التحديث الغربي، الذي قاد إلى الخراب، في جميع الدول الإسلامية، إلى ارتفاع نسبة البطالة حتى في الدول الغنية، وانعدام الحرية، وغياب أي ملامح لنهضة حقيقية، تعتمد على الذات في توفير حاجيات المجتمع. ولا سيما في الدول التي عرفت بقسوتها في مواجهة أصحاب مشروع الأسلمة، مثل تركيا وتونس، بل إن جميع الدول الإسلامية جربت العلمانية على النمط الغربي. ومرد فشلها يكمن في طريقة الاستنساخ، فلم تكن تجربة ذاتية تعتمد على التطور الموضوعي، فبقيت فوقية، وإن كان فيها شيء من الاستفادة».

ويرى الدكتور تسيريتش أن «فك اللغز بدأ من ماليزيا، ثم تركيا، عندما انقلبت الموازين لصالح التنمية والحرية والديمقراطية في ظل أنظمة لا يخفي قادتها أنهم يرغبون في العيش صادقين مع دينهم، وقوميتهم، وتقاليدهم، ولا يريدون التبرؤ من ماضيهم، بل يفتخرون بأمجاده، ويعملون على تجنب أخطائه، وفي نفس الوقت ينظرون لمستقبلهم بطرق علمية. وبإمكانهم أن يفسروا ما حصل قبل 50 سنة، ويستشرفون ما يجب أن يكونوا عليه في الخمسين عاما القادمة».

وعاد الدكتور تسيريتش للحديث عما حصل في تونس يوم 14 يناير (كانون الثاني)، وما يجري في مصر منذ 25 يناير الماضي «ما حصل في تونس وما يجري في مصر عهد جديد قد بدأ، ليس في تونس ومصر فحسب، بل في العالم الإسلامي بأجمعه. وأنا أبارك لهؤلاء الشباب ما صنعوا لبلديهما وأمتيهما، فقد أعادوا الأمل للقلوب التي تتفطر حزنا على حال الأمة وما آلت إليه قضاياها.. لذلك نحن نعتز بهم، لأنهم جاءوا في مرحلة يشهد فيها الإسلام عدوانا على تعاليمه، ومبادئه، والمؤمنين به والحاملين لوائه، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، فكل القوى التي كانت ولا تزال ضد الإسلام والمسلمين وحاولت أن تطفئ نور الإسلام بالوسائل المختلفة رد عليهم هؤلاء الشباب بأسلوب حضاري لم يكونوا يتخيلون سيناريوهاته، وهذا دليل قاطع على أن الإسلام دين الله، لا يزال يظهر معجزاته بأساليب كل عصر، وأريد القول إن الإسلام ليس ملكا لأحد، وإنما هو دين كوني، ارتضاه الله للناس كافة، لذلك نستطيع أن نقول بأن ما يجري يشبه فتح مكة ونزول قوله تعالى: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا)».

وأبدى الدكتور تسيريتش إعجابه الخاص بالشباب، لأنه تجاوز السطحيات، وبرامج الترفيه، والانغماس في الاستهلاك، وأفشل استراتيجية إبعاده عن السياسة «على كل حال أنا سعيد جدا لأنني أرى الشباب في تونس ومصر قد تجاوز السطحيات، والسذاجة، ولم يعودوا يصدقون الكلام الفارغ، وبرامج تقتصر على مخاطبة حاجياته، وشهواته، ولهوه، والكلام الذي لا معنى فيه، كما لم يعد يلتفت لما يقوله لهم الشرق والغرب، وهذا من ثمار أولئك الذين يستلهمون قوله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)».

وحول الموزاييك السياسي، في كل من تونس ومصر، قال الدكتور تسيريتش «أنا لا أعتقد أن ما أسمعه من تحليلات، إسلاميين وغير إسلاميين، صحيحا، وأنا أرى أن الجميع مسلمون متدينون ومتمدينون ومتحضرون، ولا يخشون لومة لائم في ذلك، وإنما يريدون أن يصنعوا تاريخا بأنفسهم ولمصلحتهم، لدينهم ودولتهم وقوميتهم وعالمهم وهذا ما يسعدني جدا، وأرجو أن يضربوا مثلا جيدا ويكونوا أسوة حسنة». وشدد على أن ما يحدث في تونس ومصر ميلاد جديد للأمة، وللعالم، فالذي يستطيع أن يعبر عن رأيه لن يلجأ للتعبير بالرصاص، والإرهاب، والذي يستطيع أن يعمل في بلده لن يضطر لركوب البحر، وإزعاج الضفة الجنوبية من أوروبا، وأنا أدعو الله أن ينصرهم في هذا المشوار، وأن يلهمهم العمل لصالح الدين والبلاد والعباد، وأن لا يكونوا لا لهؤلاء ولا لهؤلاء، وإنما ما يرضي الله وضميرهم.

وجدد إعجابه بما حدث في تونس ومصر «ما كنا نتصور أن نعيش هذا اليوم، فقد استطاع الشباب أن يفعلوا ما لم نستطع أن نفعله كما قال أحد الرجال في تونس، لقد هرمنا». وأضاف «الأجيال السابقة عانت كثيرا، والآن هناك جيل يفهم عصره ودينه. ونحن في سراييفو نعرف جيدا ما معنى النضال من أجل الحرية والكرامة والشرف، ونفهم من هذا أن الحياة ليست فقط خبزا، وإنما هناك ما هو أهم وهو الشرف والعزة والكرامة. ففي الغرب لا يمكن أن تحتقر الشعوب أو يستخف بها إلى الدرجة التي كانت سائدة في تونس ومصر».

وعن انعكاسات ما يجري في تونس ومصر على أطراف العالم الإسلامي، فضلا عن القلب، قال: «هذا الخير الذي ينتشر في تونس ومصر، وهذه الإرادة الشعبية والشبابية ستنتشر حول العالم، وهذه الوجوه وهذه الدماء وهذه الدموع تبشر بكل خير للأمة.. لم يخرجوا لأنهم يكرهون أحدا، وإنما حبا للحياة الكريمة العزيزة الحرة، التي ترفع أسهم الأحرار بين الأمم، والحرية لا توهب، وإنما تنتزع ممن يرغبون في أن يكونوا مثل الآلهة، لذلك قال شاعر تونس أبو القاسم الشابي:

إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر وهو اقتباس من قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)، وفي الأثر: يكاد الفقر أن يكون كفرا، وفي الأثر أيضا: عجبت لمن أضحى جائعا ولم يشهر سيفه». وقال: «يجب أن نفهم أن التاريخ في أيدينا، وما يحدث في مصر سيكون له انعكاس إيجابي على وضع الجاليات الإسلامية في الغرب وفي أوروبا. وكما قلت لن يضطر الناس للهجرة، لأن السرقات ستتوقف. كما أعجبني تلاحم المسلمين والأقباط، وبدا أن الدين كما هو في الحقيقة، لا يفرق، وإنما السياسة هي التي تفعل ذلك، والاتهامات لبعض الجهات الرسمية بحادث الكنيسة تؤكد هذا».

وخلص إلى القول: «أعتقد أن ما يحصل، في تونس ومصر، ثورة عالمية ستغير مجرى التاريخ العالمي، ولن تكون السياسات، كما نأمل، إملاء من أي مركز من المراكز، وإنما ستكون حسب رغبة الشعب.. الشعب يملي، وليس الطغاة ولا الخارج. فبارك الله لهم، ونحن سعداء جدا بهذه الأيام التاريخية».