الفكر المقاصدي والتجديد في التشريع الإسلامي

TT

إن الحاجة اليوم إلى تجديد منهج استنباط الأحكام الشرعية ملحة، ذلك أن الواقع يتطور بنسق سريع يترك الفقه الإسلامي يعيش فراغات كبيرة لا يمكن أن تجد لها حلولا في آراء القدامى ولا تستوعبها المدونة الفقهيّة الموروثة على أهميتها. ولقد مر التشريع الإسلامي بمراحل مختلفة، وكان المنهج الأصولي يستجيب في كل مرحلة للتحديات الواقعية التي يواجهها المسلمون، فقد انطلق مع اجتهادات الخلفاء خاصة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لكن المحطة الأولى للتدوين والتقعيد كانت مع الإمام الشافعي في كتابه «الرسالة»، الذي يبدو فيه علم أصول الفقه إنتاجا إسلاميا خالصا، رغم تشتت مباحثه، مما بوأ الإمام الشافعي مكانة الواضع لعلم أصول الفقه. وتوالت الكتابات بعده، فألف الدبوسي «تأسيس النظر» والبصري «المعتمد في أصول الفقه» وابن حزم «الإحكام في أصول الأحكام» وصنف الإمام الجويني «البرهان»، وهو كتاب ضخم بدأ يظهر فيه البناء الرباعي لهذا العلم الجليل، وإمام الحرمين أبو المعالي هو «صاحب الفضل والسبق في التقسيم الثلاثي لمقاصد الشريعة (الضرورات - الحاجيات - التحسينيات)، وهذا التقسيم سيصبح من أسس الكلام في المقاصد» (الريسوني.. نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي). ثم جاء تلميذه الإمام الغزالي ومثل المحطة الثانية المهمة في تاريخ علم أصول الفقه، وبلور بناءه الرباعي، فكانت شجرة الأصول بفروعها الأربعة: الثمرة والمثمر وطرائق الاستثمار والمستثمر، وتعني الحكم والأدلة وطرق الاستنباط والمجتهد. وأضاف الغزالي مقدمة طويلة عن المنطق لكتابه «المستصفى من علم أصول الفقه» واشترط المنطق في كل علم، فمن لا منطق له لا ثقة بعلمه. وفي «المستصفى» نظم الغزالي المقاصد بشكل أكثر إحكاما وتنقيحا»، وقد «أصبحت هذه الخطوات التي خطاها الإمام الغزالي وهذه المبادئ التي نقحها وحررها في مقاصد الشريعة هي المبتدأ والمنتهى لعامة الأصوليين الذين جاءوا بعده، حتى نصل إلى الإمام الشاطبي» (الريسوني.. نظرية المقاصد).

ويرى الشيخ محمد الفاضل بن عاشور وجود مرحلة بين علمي «الأصول والمقاصد»، وهي مرحلة «القواعد» و«الفروق»، ذلك أن البحث عن مقاصد الشريعة لا يُنتظر أن يوجد في كتب أصول الفقه، وإنما يوجد مبثوثا في الأوضاع الفقهية الأولى التي كانت تبحث الحكم والعلل والمصالح، وتستند في ذلك إلى القواعد العامة، ذلك أن الفقهاء هم الذين اتجهوا إلى البحث عما يسمى حكمة المشروعية وبحثوا في تحكيم المصالح ووازنوا بين الأقوال الفقهية وما يكون منها أكثر تحقيقا للمصالح، لذلك برز فن «القواعد» و«الفروق»، وقد برز فيه من الشافعية العز بن عبد السلام بكتابه «قواعد الأحكام في مصالح الأنام»، ومن المالكية شهاب الدين القرافي بكتابه «أنوار البروق في أنواء الفروق». وهذه الطريقة تكمن أهميتها في استخراج العلل فتسمو بها إلى المراجع الكلية لتصبح قواعد جامعة أو فروقا تبين نشأة الاختلاف بين المسائل، وهذا الفن سماه مالكية المغرب بعلم «الأصول القريبة». ونحن عند البحث عن المقاصد نجد جذور تأصيلها في الاجتهادات الفقهية لعمر الفاروق (رضي الله عنه)، غير أن هذا الفن لم يرتفع عن النسق المذهبي، بل ساير النزعة المذهبية لأنه اعتمد الفروع الفقهية داخل المذهب وبنى منها الكليات لتكون أصولا للمذهب، وهي طريقة تقترب من المنهج الحنفي الذي لا ينطلق من المعاني النظرية الاستدلالية ولا يتمسك بالأصول المبدئية منطلقا للاجتهاد المطلق وإنما يعتمد الفروع وينطلق منها. وقد امتاز العلامة المغربي أبو عبد الله المقري بجهده في هذا المجال، فسما بعلم الأصول القريبة (القواعد) ليبحث عن مبادئ كلية لا اختلاف فيها بين المذاهب، وفي نفس الإطار تندرج حركة التجديد التي قام بها شيخ الإسلام ابن تيمية وتبعه في ذلك تلميذه ابن قيم الجوْزيّة في «أعلام الموقعين»، وقد انبنت هذه المحاولات على نقد موضوعي منهجي لعلم الأصول (راجع محاضرات للشيخ محمد الفاضل بن عاشور، بين أصول الفقه ومقاصد الشريعة).

وجاء الإمام الشاطبي ليسمو بأصول الفقه إلى درجة الأمر القطعي، من خلال وضعه علما جديدا هو «علم مقاصد الشريعة»، ومثل الإمام الشاطبي المحطة الثالثة في هذا العلم، بل يعد مرحلة راقية، وإضافة نوعية في علم أصول الفقه، إذ كان تركيز السابقين عنه على المسائل اللغوية ومباحث الألفاظ والمعاني والعلل، فارتقى بها الإمام الشاطبي إلى استجلاء مقاصد الشريعة الإسلامية، وليكمل الشطر الثاني من علم أصول الفقه، وهي المقاصد التشريعية، فاهتم بأسرار الشريعة ومقاصدها (من جهة وضع الشريعة ابتداء ووضع الشريعة للإفهام ووضع الشريعة للتكليف ووضع الشريعة للامتثال)، كما وضع منهجا لاستقراء طرق معرفة المقاصد أو طرق الكشف عنها، والاستقراء هو استخلاص القواعد من الأحكام الجزئية، وهو بتعريف الدكتور سعد الدين العثماني «صياغة قاعدة عامة من تتبع حالات جزئية كثيرة أو تجميع أدلة جزئية متعددة لا يقوى أي منها على إفادة القطع» (من مقال لمجلة «الفيصل» السعودية عدد 123). وقد ذكر الدكتور عبد الله دراز، في مقدمة كتاب «الموافقات»، أن لاستنباط أحكام الشريعة ركنين: أحدهما علم لسان العرب، وثانيهما علم أسرار الشريعة ومقاصدها، فقال «وقد وقف هذا الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكوّن منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك دائر بين تلخيص وشرح ووضع له في قوالب مختلفة، وهكذا بقي علم الأصول فاقدا قسما عظيما هو شطر العلم الباحث عن أحد ركنيه حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن هجري لتدارك هذا النقص وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل» (مقدمة الشارح للموافقات). وقد توسع الإمام الشاطبي في مقاصد الشريعة بعد أن كانت مغمورة يشار إليها في مباحث العلة في القياس أو كانت «خبايا في بعض مسائل أصول الفقه أو في مغمور أبوابها المهجورة.. ترسب في أواخر كتب الأصول، ولا يصل إليها المؤلفون إلا عن سآمة.. فبقيت ضئيلة ومنسية» (ابن عاشور، مقاصد الشريعة، المقدمة).. وقد انتقل بها الإمام الشاطبي من الخبايا والإشارة إلى الصدارة والعمارة والتأسيس، وأخرج الاجتهاد من مضايق قواعد اللغة و«العلل» الجزئية إلى متسعات المقاصد الرحبة بعد أن جمد العلماء على الموروث متمسكين به منخرطين في منهجه، مما أفرز توجها ضيقا جمد على الفروع والمناحي الفردية، فكان الشاطبي رحمه الله علامة مضيئة في تاريخ الاجتهاد، فمثل بجهده التجديدي إضافة نوعية كانت فتحا من الفتوحات المهمة في علم أصول الفقه، وقد ارتقى به من الجانب النظري إلى التأسيس «لفقه التنزيل»، خاصة من خلال طرح مسائل تحقيق المناط واعتبار مآلات الأفعال واعتبار المقاصد.. يقول الإمام الشاطبي «النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك العمل» (الموافقات). ويقول الدكتور حسن حنفي، في حديثه عن الشاطبي «فإذا ما تمت تنقية مقاصد الوحي وتحويلها إلى مقاصد المكلف.. أمكن أن يصبح الوحي نظاما مثاليا للعلم من خلال فعل المكلف، وبالتالي تحقيق خلافة الله في الأرض من خلال المكلف وعلى هذا النحو يكون علم أصول الفقه هو علم (التنزيل) الذي يستنبط الأحكام الشرعية ويتجه من الله إلى الإنسان.. وفي هذه الحالة يكون علم أصول الفقه هو العلم الذي يعطي للمسلمين ما يحتاجون إليه في عالمهم هذا وفي عصرهم هذا..» (حسن حنفي، دراسات إسلامية).

وهكذا كان للإمام الشاطبي أثر ظاهر في التأسيس لعلم المقاصد الشرعية، وكان الرائد الذي سار في طليعة العلماء ومهد الطريق، ذلك أن كشف القوانين العامة والقواعد واستجلاء الغوامض يرتهن في كل مرحلة من التاريخ بظهور الأفذاذ، وكان الشاطبي أحدهم. يقول الشيخ محمد الفاضل بن عاشور «لقد بنى الشاطبي - حقا - بهذا التأليف هرما شامخا للثقافة الإسلامية استطاع أن يُشرف منه على مسالك وطرق لتحقيق خلود الدين وعصمته قل من اهتدي إليه قبله، فأصبح الخائضون في معاني الشريعة وأسرارها عالة عليه، وظهرت مزية كتابه ظهورا عجيبا.. لما أشكلت على العالم الإسلامي - عند نهضة من كبوته - أوجه الجميع بين أحكام الدين ومستجدات الحياة العصرية، فكان كتاب «الموافقات» للشاطبي هو المفزع وإليه المرجع» (ابن عاشور محمد الفاضل، أعلام الفكر الإسلامي)، وهذا ما دعا الإمام محمد عبده للاهتمام بهذا الكتاب ودعوة الطلاب لمدارسته قبل أن ينتشر الوعي بأهمية هذا المؤلف.

ونخلص من خلال كلام ابن عاشور إلى أهمية المقاصد في التجديد والنهوض الحضاري فالمقاصد الشرعية يمكن أن تستوعب المستجدات المعاصرة وتحقق الاستجابة للتحديات التي تواجه المشروع الإسلامي. واليوم يحتاج التجديد إلى فقه المقاصد «لتحويل الوحي إلى فعل في العالم وإلى حركة في التاريخ»، وذلك بتطوير الاجتهاد المقاصدي وبلورة فقه الأولويات وفقه الموازنات وفقه السنن وفقه الأقليات.. وهذه كلها مما يستوجبها الدرس المقاصدي اليوم لتغطية كل نشاطات الإنسان وكل مجالات الحياة، وتوسيع الكليات، وإبراز كل المقاصد في النفس والتاريخ والاجتماع والمعرفة، وإعادة رسم المقاصد لتكون منظومة واسعة ومستوعبة لكل التطورات لأن العلم الإسلامي الحقيقي هو العلم الذي لا تتعارض فيه العلوم الشرعية والعلوم الإنسانية مع الاستفادة من مناهج هذه العلوم - طبعا بعد تجريدها من أسسها الفلسفية الوضعية - لتبرز المقاصد في التفكير الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، فالحاجة اليوم هي للتجديد لا للاختصار والشرح من دون إضافة. ويمثل مشروع الإمام محمد الطاهر بن عاشور في استنباط مقاصد شرعية قطعية لفض الخلاف المستند إلى الظنيات التي تختلف فيها الأفهام خطوة إضافية ونوعية في سبيل الارتقاء بهذا العلم. يقول ابن عاشور «فنحن إذا أردنا أن ندون أصولا قطعية للتفقه في الدين حق علينا أن نعمد إلى مسائل أصول الفقه المتعارفة وأن نعيد إذابتها في بوتقة التدوين ونعيرها بمعيار النظر والنقد، فننفي عنها الأجزاء الغريبة التي غلثت بها ونضع فيها أشرف معادن مدارك الفقه والنظر، ثم نعيد صوغ ذلك العلم ونسميه علم مقاصد الشريعة» (ابن عاشور، المقاصد المقدمة). وكتب رحمه الله فصلا بعنوان «أدلة الشريعة اللفظية لا تستغني عن معرفة المقاصد الشرعية»، أكد فيه على أهمية اعتبار المقاصد التي تدل عليها القرائن والإمارات الخارجة عن النص، وحمل على المتعاملين مع النصوص بتجريدها من الدلائل التي تهدي إلى مقاصدها ومعانيها الحقيقية. يقول ابن عاشور «ومن هنا يقصر بعض العلماء، ويتوحل في خضخاض من الأغلاط حين يقصر في استنباط أحكام الشريعة على اعتصار الألفاظ، ويوجه رأيه إلى اللفظ مقتنعا به، فلا يزال يقلبه ويحلله ويأمل أن يستخرج لبه ويهمل ما قدمناه من الاستعانة بما يحف بالكلام من حافات القرائن والاصطلاحات والسياق..» (ابن عاشور، المقاصد ص 24) وأمام ازدحام الواقع بالأحداث وتسارع نسق المستجدات في مختلف مجالات تصريف شؤون المجتمع تصبح الحاجة إلى منهج في الاستنباط يمكن أن يستوعب هذا العصر من دون التنكر إلى ثوابت الأصل مسألة ضرورة، حتى يستعيد العقل الفقهي صلته بالواقع ويحقق للاجتهاد الاستجابة المطلوبة للتحديات الحضارية بكل أبعادها، ويساعد على فهم العصر وتطوير المعرفة الإسلامية في النفس والاجتماع والتاريخ على أرضية المرجعية الإسلامية، باعتبارها عنوان الانتماء للإسلام، وإلا لما كانت هناك جدوى للحديث عن الاجتهاد إذا كان من خارج دائرة هذه المرجعية مهما كانت العناوين التي يتدثر بها، غير أن فكر المقاصد اليوم لم يتقدم كثيرا عن الدعوة والمناداة بضرورة التجديد وفتح آفاق الاستنباط، ولم ينجز أصحابه مشاريع تطبيقية يمكن أن تكون نموذجا لدعوات الإمام ابن عاشور، فبقيت هذه المشاريع في طور الإضافات الجزئية والتوضيحات المنهجية داخل الجامعات الإسلامية، خاصة في بلاد المغرب، وبقي كتاب الإمام الشاطبي وابن عاشور في مقاصد الشريعة، كمقدمة ابن خلدون في فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع.. ولكن البحث يراكم المعرفة وبالمراكمة تتحقق الإضافة النوعية ويتحرر العقل الإسلامي الفقهي من سجن الماضي لأن السجين - في زنزانته - يشعر بالماضي أكثر من الحاضر فيهرع إلى الذكريات يستعيدها.. والإسلام بطبيعته لا يفر من الواقع، بل يسعى إلى أسمى درجات الكمال الإنساني في الروح والمادة والعقل.. ضمن منهج الاستخلاف.

* باحث وكاتب من تونس