الفقيه والتجربة الفقهية في القديم والحديث

رضوان السيد

TT

كنت أراجع قبل أيام نصا فقهيا سبق أن نشرته عام 1992 للفقيه الحنفي نجم الدين الطرسوسي (- 758هـ)، وهو بعنوان: «تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك».. ولأن الطرسوسي يتحدث عن تجربة الفقهاء في العصر المملوكي، فقد خطرت لي وجوه للمقارنة بالتجارب الفقهية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة. وكنت قد استظهرت في دراسات سابقة أن علاقة الفقهاء بالجمهور والسلطات في الأزمنة الوسيطة مرت بأربع محطات أو أزمنة أو مراحل.. في المرحلة الأولى حدث صدام بين أهل الحديث والفقه من جهة، والسلطات من جهة أخرى فيما عرف بمحنة خلق القرآن، حين أراد الخليفة المأمون إرغام القضاة وأهل الحديث على القول بخلق القرآن؛ لأن ذلك من وجهة نطره هو مقتضى الدين الصحيح والعقل الصحيح. وقد طال النزاع والتجاذب لما يزيد على العقد ونصف العقد، وأنهى الخليفة المتوكل المسألة بالنهي عن المجادلة في الدين. فساد منذ ذلك الحين نوع من تقسيم العمل أو تنظيمه بين الدولة والعلماء؛ فللدولة الإمرة العليا، وإدارة الشأن العام للأمة، وللعلماء العناية والالتزام بالشأن الديني. وبذلك تحسنت العلاقة بين الطرفين، وساد التعاون في معظم عصور الإسلام. بيد أن ضعف الخلافة بعد القرن الرابع الهجري، ومجيء الصليبيين ثم المغول؛ أدخلا تقسيم العمل هذا في مرحلة جديدة عبر عنها كل من الماوردي (- 450هـ)، وإمام الحرمين الجويني (- 478هـ) في كتابيهما: «الأحكام السلطانية»، و«غياث الأمم». وقد اتفق الرجلان (وهما فقيهان شافعيان كبيران) في تأكيد دور أقوى للعلماء تجاه الجمهور والسلطات، لكنهما اختلفا بشأن السلطة التي ينبغي دعمها لمواجهة التحديات، فرأى الماوردي الاستمرار في دعم الخلافة لكي تستعيد قوتها؛ في حين ذهب الجويني إلى ضرورة شرعنة «السلطنة» للتصدي للغزاة، كما كانت تسلك بالفعل. وعندما سقطت بغداد، وأعيد إحياء الخلافة من جانب المماليك بالقاهرة بعد وقعة عين جالوت، طور السلطان المملوكي صيغة جديدة لاستيعاب سائر تيارات الإسلام السني، عندما اعترف رسميا بالمذاهب الفقهية الأربعة، وعين منهم قضاة في سائر الأمصار، لفض الخصومات والحكم بالشرع، وإدارة الأوقاف، والتدريس بالمدارس، والفتوى. وظلت هذه الصيغة سائدة إلى أن جاء العثمانيون، فأنشأوا منصب شيخ الإسلام (الذي تطور عن مفتي إسطنبول)، فتولى الإدارة الدينية كلها في الإمبراطورية، واعترف بالطرق الصوفية باعتبار شيوخها من أرباب المناصب. ومع أن المذاهب الفقهية ظلت موجودة وقوية، لكن بني عثمان قدموا المذهب الحنفي مذهبا للدولة؛ لأنهم كانوا من الأحناف. ولذا فإنهم عندما اتجهوا للتقنين الفقهي تحت وطأة هموم التحديث، فإن «مجلة الأحكام العدلية» التي بدأ صدورها في ثمانينات القرن التاسع عشر، كانت موادها مستمدة من كتب المذهب الحنفي الفقهية.

لقد افترقت كلمة الفقهاء بعد منتصف القرن التاسع عشر. وما افترقوا بحسب مذاهبهم؛ بل بحسب الموقف من التوجهات التحديثية للدولة والنظام السياسي. فقد تمسكت كثرة من الفقهاء بالمشرق والمغرب بالتقليد الفقهي، وتجاهلت كل المستجدات أو أنكرتها. ومضى فريقان آخران لمواجهة الحداثة الغربية، إما بالعودة إلى الأصول، وإنكار البدع جميعا قديمها وموروثها وحديثها، وإما باعتماد الاجتهاد والتجديد لاستئلاف الحداثة واستيعابها. وخلال النصف الأول من القرن العشرين، تضاءل نفوذ التقليديين حتى قارب الزوال، بينما انضوى الإصلاحيون في بيئات الدولة الوطنية ومؤسساتها الدينية والثقافية والتربوية. وانصرف السلفيون للعمل في المجالات الاجتماعية خارج الدوائر الرسمية، باستثناء مؤسسات الدولة السعودية الدينية والتعليمية والقضائية.

بيد أن الصدمة التي نزلت بالفقه والفقهاء في فترة نشوء الدولة الوطنية، ما نجمت عن اختلافهم أو انقسامهم؛ بل نجمت عن أمرين اثنين: الإشكاليات والتحديات التي واجهتهم، وما كان حتى لإصلاحييهم عهد بها ولا خبرة في فهمها والتصدي لها. والأمر الآخر: ظهور الحركات الإسلامية الحديثة التي ما لبثت أن صارت حركات عقائدية باسم الإسلام، وواجهت عقائديات الدولة الوطنية وتطوراتها. وفي الحالتين أو الأمرين ما كان الفقهاء (وبخاصة الذين انضووا بهذا القدر أو ذاك في مؤسسات الدولة) قادرين على البقاء في الواجهة بالمعنيين: معنى اجتراح الحلول للمشكلات الطارئة وخدمة الجمهور من خلال ذلك، ومعنى فض الاشتباك الناشب بين الحركات الإسلامية الجديدة، ورجالات الدولة الوطنية. ما كان ذلك ممكنا في المسألة الأولى، مسألة المشكلات والتحديات؛ لأن الإطار القديم ذا المرجعية الإسلامية زال بزوال دولة الخلافة؛ وعلى الرغم من القول بالإصلاح والتحديث من جانب الإصلاحيين، فإن الإطار القومي البديل بدا نافرا وشديد الغرابة، وما بدا الحل الأتاتوركي ملائما على الإطلاق، لا للمغاربة ولا للمصريين ولا للشوام، فضلا عن الحجازيين والنجديين. وقد ظهر ذلك واضحا في النقاش الذي دار من حول كتاب علي عبد الرازق: «الإسلام وأصول الحكم» (1925)، الذي اضطر أكثر الإصلاحيين لرفضه، على الرغم من أنه يبدو عاديا لنا اليوم: ليست «الخلافة» صيغة إسلامية للسلطة والحكم نزل بها الوحي أو اشترعها الرسول (صلى الله عليه وسلم)، بل هي صيغة تواضع عليها الصحابة، ويمكن لنا أن نختار صيغة غيرها بالأمس واليوم وغدا. على أنه في مثل هذه الإشكاليات بالذات، كان هناك من جانب التنظير الكثير، وانصرف إلى التجديد الفقهي في المعاملات، وفي التقنين، وحتى في التلقيح بين الشريعة والقوانين المدنية. إنما حتى في هذه المسائل، ما كان الفقهاء من خريجي الأزهر والقرويين والزيتونة هم الذين اجترحوا هذه السبل؛ بل الذين درسوا في الجامعات الغربية، وحاولوا الجمع بين الأمرين. والجيل التالي (وما بعد الثلاثينات من القرن العشرين) هو الذي وجد في نفسه الثقة والتأهل لمتابعة المهمة التقليدية للفقهاء في تسهيل الحياة على الناس وسط الظروف المتغيرة. لكن عندما كانوا يقومون بذلك، كانت الدولة الوطنية قد صارت عقائدية هي بدورها، ووقف في مواجهتها عقائديو الحركات الإسلامية، ونشب ذلك الصراع المهلك الذي استولى على الأخلاد والأعمال والمصائر على مدى خمسة عقود، فانتهى كل إمكان للتوسط، أو الحظوة باحتضان الجمهور.

فعندما كان شلتوت والمدني وخلاف وأبو زهرة مهتمين برفد الفقه الإسلامي بالاجتهادات الجديدة في سائر المجالات. وعندما كان الطاهر بن عاشور وعلال الفاسي مهتمين بفتح آفاق جديدة للتنظير والعمل الفقهي من خلال البحث في مقاصد الشريعة، كان الإسلاميون ينتجون الدراسات في الافتراق الكامل بين الشريعة الإسلامية والقوانين المدنية، وفي الافتراق الكامل بين النظام الاقتصادي الإسلامي، والأنظمة الرأسمـالية والماركسية، وفي الافتراق الكامل بين نظام الإسلام السياسي (= الحاكمية)، وأنظمة الطاغوت والطغيان والجاهلية. وعندما انتقل الصراع من الكتابات إلى الساحة الاجتماعية والسياسية، انقسم الجمهور بين الأنظمة والإسلاميين، وصارت مقولات الفقهاء التنويرية والتجديدية ترفا، لا يصغي له الفريقان، وإذا تظاهروا بالإصغاء، فلكي يرى كل منهما كيف يمكن استخدامه ضد خصمه. أما الجمهور، فقد انصرف عن الفقهاء، ثم بدأ يتهمهم بمخامرة الأنظمة، أو العيش في أبراج عاجية.

لقد ظل الفقهاء في المملكة العربية السعودية يتولون القضاء والفتوى والتعليم الديني، والشورى في الكثير من القضايا. أما في بلدان الدولة الوطنية، فلم يبق لهم غير التعليم والفتوى، وأحيانا قضاء الأحوال الشخصية، بالإضافة، بالطبع، إلى الشؤون الشعائرية. وهذه المجالات على الرغم من تقلصها واسعة وتستطيع ممارسة تأثير كبير. بيد أن الأمر الأكبر الذي افتقدوه هو المرجعية في الشأن الإسلامي العام؛ إذ نازعهم عليه الإسلاميون في عيون الجمهور على الأقل. ثم إن هذا الحصار الذي عانوه، قلل من اهتمامهم بموقع الإسلام في العالم، وبالحوار مع الديانات الأخرى بداخل دار الإسلام، وفي الخارج العالمي. ثم إن الإسلاميين الجدد نافسوهم أيضا في مسألتي التعليم والفتوى. وهكذا فهناك مجالات ومسائل خرجت من أيديهم تحت وطأة الحداثة والدولة الوطنية. وهناك مجالات ومسائل نافسهم عليها الإسلاميون. وقد ظل الإسلاميون مصرين على أنه ليس في الإسلام رجال دين، ولا حاجة إليهم. ثم خفت هذا الاحتجاج بعد وصول الملالي للسلطة في إيران، من دون أن يعني ذلك عودة لمرجعية فقهاء المؤسسات الدينية في العالم السني. والظروف اليوم تجلب معها الكثير من المتغيرات، لكن مفاهيم الفقيه والموقع والدور والصلاحيات، كلها تتغير، ولذا فأيا ما تكن التحولات لا يبدو أن هناك عودة للفقيه بالمعاني والمباني التي كنا نعرفها إلى ما قبل عدة عقود.