الفكر العربي المسيحي.. معضلات الحاضر وآفاق المستقبل

إميل أمين

TT

يبقى الشرق المهد الروحي للمسيحيين حول العالم، فمنه وفدت رسالة الإيمان المسيحي، وانطلقت نحو العالم الإغريقي اللاتيني، ثم في اتجاه العالم أجمع، وعليه فإن أفكار المسيحية المشرقية وفكرها اللاهوتي والاجتماعي كان الأساس الأول الذي بنت عليه المسيحية رؤاها حول العالم.. واليوم يقول قائل: «هل من فكر مسيحي عربي جديد يواجه معضلات القرن الحادي والعشرين؟ أم أن ما يعتور الدولة العربية العاجزة عن الوصول إلى الحداثة بمفهومها الأوروبي الواسع والأحدث ينسحب كذلك على المواطنين المسيحيين العرب، فلم يعودوا يرون الخير إلا في كل سلف ولا شر لديهم إلا من جراء كل خلف، وفي إطار من سيادة النقل على العقل، وقفل باب التجديد الفكري والاجتهاد الروحي ارتكازا على «غرور روحي سحيق، وموروث بعيد، مفاده أننا أبناء الشهداء، وأحفاد أجيال حفظت الإيمان، دونما قدرة حياتية فعلية على التغيير والتطوير الذهنيين».

لقرون طويلة وبعد نهضة روحية لاهوتية فكرية في القرون الأولى للمسيحية العربية، كانت فيها مدرسة الإسكندرية، على سبيل المثال، منارة الفكر العربي والغربي المسيحي، تشع على العالم من حولها، غير أن ما أصاب الجسد العربي بعمومه في عصور الانحطاط الفكري ضرب ولا شك بأجنحة الظلام من حول العقلانية المسيحية المشرقية، لتبقى في أسر الطقوس الشكلية دون التجديد الذهني، ويمكن القول إن تلك الحالة قد عمت المسيحية الأوروبية، لكن الفارق الوحيد أن الفكر الغربي المسيحي، وعلى الرغم من بعض مشاهد العتم الفكري، كان لديه من الرجال المفكرين من الإكليروس ومن المرجعيات المؤسسة ما هيأ له لاحقا الانطلاق مواكبا لعصور النهضة الأوروبية.

ومن أسف شديد فإن تلك العصور الوسيطة كانت وبالا على أي فكر مسيحي عربي، إذ انحسر الأمر في التلقين الشفاهي للغات الشرقية القديمة المستخدمة في الصلوات والطقوس والشعائر الروحية، عطفا على بعض من المقولات الغيبية التي يتم تلقينها نقلا لا عقلا، وباتت القناعة بالركون إلى الماضي هي سيدة الموقف، مسيحيا في عالمنا العربي وطوال القرون الممتدة من الثالث عشر وحتى الثامن عشر إلا ما رحم ربك.

على أنه ومع مشارف القرن التاسع عشر، والاتصال المسيحي العربي، خاصة في بلاد الشام التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، بدا تغير نوعي يطرأ على المشهد الفكري المسيحي العربي وكان نفر منهم في الصفوف الأمامية للداعين للتحرر الفكري والجغرافي، ولهذا لم يكن غريبا أو مثيرا أن نرى الساحة العربية المسيحية المشرقية مليئة بالأدباء والشعراء في البلاد والمهجر، على حد سواء، من أمثال جبران خليل جبران وإيليا أبو ماضي وميخائيل نعيمة، أما الدعوة للقومية العربية بمنظورها الحضاري وليس العنصري، والدعوة للإصلاح السياسي والاجتماعي والتوجه الليبرالي فقد حمل لواءها أديب إسحق وسليم سركيس وشبلي شميل ونجيب عازوري وغيرهم.

وفي سياق هذا الحديث ربما يتحتم علينا وقبل التطرق إلى الدور الفكري للمسيحيين العرب في تجديد مياه العقل العربي في الأوطان كافة، أن نتساءل عن الحالة الصحية الذهنية الفكرية والروحية، عند المسيحيين العرب، وهل قضايا الفكر لديهم باتت صافية من شوائب كثيرة علقت بها، وفي مقدمتها الخلط المتعمد تارة والعشوائي تارات أخرى بين الفكر الديني والنصوص الدينية؟ بين التجديد الروحي والذهني والتمسك بالقشور الخارجية؟

يمكن التفريق بداية بين الفكر الذي هو استيعاب أوسع من مجرد قراءة أو حفظ النصوص أيا كانت، والنصوص بمنظورها الروحي والنبوي، ذلك أنه كان النص الإلهي مقدسا غير قابل للتغيير أو التحريف، فن الفكر مرن غير جامد، ووضع لكي يستوعب قضايا المجتمع الذي نعيشه والعمل على التطوير الملائم للحياة في هذا المجتمع، ولهذا فإن انسحاب فكر المقدس على كل مناحي الحياة أو محاولة تفسير مجريات الأمور وفقا لهذه النصوص وبحرفية قاتلة شأن ولا شك يعود بنا إلى ظلاميات الأزمنة القروسطية، فالتفسيرات نسبية وغير مطلقة، وطرق فهمنا للنصوص ليست لها صفة القداسة هي الأخرى، فهي مجرد محاولات قد تخطئ وقد تصيب، وحتى عندما تصيب فهي في حاجة إلى التطوير والتغيير من وقت لآخر..

وإذا كان الفكر المسيحي يهتم كثيرا بما يسمى التقليد، الذي هو النظير للسنة في الفكر الإسلامي فإنه من نافلة القول التذكير بأن ذلك التقليد إنما وضع في استجابة لظروف مكانية وزمانية كانت تلائم حياة الأولين في عيشهم وحلهم وترحالهم وهي طولا وعرضا لن تختلف عما نعيشه نحن الآن وعن احتياجاتنا الآنية، ولهذا فإن التقليد مع أهميته كامتداد تراثي فكري لا يتقاطع مع التجديد بل يرفده بالثوابت الأخلاقية والروحية والإيمانية، وإن اختلف مع إطار التجديد الخارجي اللازم للبناء المعاصر.

هل العرب بمسلميهم ومسيحييهم في حاجة إلى طرح فكري معاصر لاهوتي الهوى إنساني الهوية، يلائم ويوائم الأوطان العربية في الحال والاستقبال؟

لعل أفضل من تصدى للجواب عن هذا السؤال كان الأب اللبناني مشير باسيل عون في كتابه القيم والمثير «الفكر العربي الديني المسيحي، مقتضيات النهوض والتجديد المعاصر»، الذي يدعو فيه لإعادة صياغة فكر عربي مسيحي يواكب العصر، ضمن السياق العربي، وبمعنى ما أنه لا يمكن أن ينفصل الفكر اللاهوتي عنده عن قضايا الإنسان، فعلم اللاهوت الذي هو خلاصة إعمال العقل في الحقائق الإيمانية ليس مجرد علم نظري همه الأول البحث في الإلهيات والماورائيات من ميتافيزيقا الكون والإله والإنسان، بل في صلب اهتمام يأتي الإنسان وعليه أن يقدم أجوبة للعالم المعاصر حول أهمية الدين وأهمية الفكر الديني في معالجة مشكلات الإنسان المعاصر، خصوصا في عالمنا العربي، وبمعنى أن اللاهوت المسيحي المعاصر الذي يوجه الفكر الإنساني، خاصة في الشرق العربي في حاجة إلى تجديد جوهري للتعاطي مع قضايا الساعة التي تتماس وجوهر الإنسان العربي المقهور من عينة الديمقراطية وحقوق الإنسان وكرامة الأسرة ومناهضة الرأسمالية المتوحشة، إلى آخر المنظومة التي من شأنها ترقية الإنسان بوصفه أسمى المخلوقات، وليس بكونه أداة أو ترسا في ماكينة المجتمعات المعولمة الحداثية.

دعوة التجديد هذه تسعى، إن جاز التعبير، إلى تخليق لاهوت عروبي خاص يكون فيه الفكر المسيحي العربي موصلا إيجابيا بين حضورهم التاريخي، كجذور في الأرض، وانفتاحهم على الآخر كجسور مع الغرب، هذا الدور ينبثق من إرثهم العربي المسيحي التاريخي، ولا بد لهم من استحداثه لتحرير الثقافة العربية جمعاء من مخاطر الانغلاق والتقوقع والانعزال عن حركة الفكر العالمي والتقابس الحضاري، ومن مخاطر الإعراض عن الإسهام الفعلي في رسم صورة الإنسانية في الألف الثالثة. وهو لاهوت يسعى لاستخراج أفضل المعاني الإنسانية التي يتوسل بها الفكر العربي الحاضر للتعبير عن كرامة ووجود الإنسان العربي، والتي ينبغي أن تحمل في تضاعيفها القدر عينه من الأمانة لروح التراث العربي الإسلامي المسيحي، ومن الانفتاح على إسهامات الفكر العلمي التي استخرجت من تراثات معظم الأمم والشعوب، فأجمعت أغلب الحضارات على تحديد الكثير من معاني الكرامة والحرية والحقوق والواجبات والالتزام والقيم والمثل التي تنطوي عليها هذه الإسهامات.

وخلاصة القول إن الفكر المسيحي العربي في محاولته للنهوض من الكبوة التاريخية التي ألمت بالأمة، وعموما عليه أن يعي أن الأوطان العربية تسودها حقائق المرجعية الدينية القرآنية، وعناصر المرجعية الثقافية العربية لها، فهم مدعوون للمواءمة والملاءمة بين شهادتهم الإيمانية وفكرهم تكييفا يوائم مقتضيات الانتماء إلى مثل هذا المجتمع.

يتحتم إذن أن ينشأ فكر مسيحي عروبي جديد، إذا أردنا تجديد مياه الفكر العربي بمطلقيتها، ومؤكد أن للغالبية الإسلامية في الأوطان العربية دورا بالغا، إما في زخم هذه الحركة بقبول المسيحيين العرب ضمن صفوفهم أو بعزلهم وإقصائهم ودفعهم للهجرة خارج حدود الأوطان التاريخية التي عاشوا فيها، ويفضلون أبدا ودوما أن تكون مقرا ومستودعا لهم.

وبالمقابل كما يؤكد على ذلك الأب الفرنسي جان كوربون في كتابه «كنيسة المشرق العربي» يبقى على المسيحيين العرب، إكليروس وعلمانيين، الاختيار بين أن تكون كنيستهم كنيسة العرب وإما الزوال، ولا تبصر كنائس العرب والمسيحيين العرب هذا الاختيار إلا بمقدار مما تتحرر من الزوال، انطفاء أو هجرة أو إبادة تتصلب في الخصوصيات، وتضيف مرحلة جديدة إلى مراحل زوالها، لقد انقضى عشرون قرنا في هذا الاتجاهـ ولا يزال البعض يرى أن القرن الجديد يجب أن يتبع الاتجاه نفسه. وقد تحجم الكنائس عن أن تصير كنيسة العرب، خوفا من الأكثرية المسلمة، وتفاديا لأخطار الوحدة المسيحية فتتصلب في هويتها، لكن النتائج تبقى هي هي، زوالا بزوال.

ما الذي توجب عمله في هذا السياق التنظيري الفكري؟

بادئ ذي بدء لا بد من كسر حلقة الخوف ويكون ذلك إذا ما وقفنا مع الواقع وجها لوجه. والغاية أن تسهم هذه الوقفة في التحرر بواسطة الحقيقة، فالخوف من الزوال لا يمكن طرده إلا في شركة كنيسة العرب، مع الآخر المغاير، ومع الشعب الذي من أجله وجدت، والخوف من أعدى الأعداء على الحضور الآني.

وعلى الصعيد الإسلامي، يتوجب أن يسود مفهوم الشراكة الحقيقية في إطار من الفهم الكوسمولوجي الأوسع، والإسلامي العروبي بالمعنى الفسيح، فالمشاركة والفكر العربي المسيحيين ليسا تحصيل حاصل، بل هما لبنة أساسية في مخططات الإبداع العروبي إذا شئنا النهوض، وتراجع أو اختفاء الدور العربي المسيحي لن يصب إيجابا بالمطلق، بل إن الإقصاء المتعمد من الأغلبية للأقلية، اختصام واضح، ينعكس سلبا على قضايا العرب، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، فالذين سمعوا بها من وجهة نظر الأسقف المناضل هيلاريون كابوتشي، حتما ولا بد وجدوا لديه مصداقية ما تضاف إلى مصداقية شركاء النضال في الداخل والخارج، وتراجع الدور المسيحي الفكري والعلمي من حركة النضال الوطني بشكل عام، والفلسطينية على نحو خاص، اختزل أو قارب من اختزال القضية في ثوب وإطار دينيين، ولولا قلة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة من مفكرين ومناضلين فلسطينيين مسيحيين، من أمثال الدكتور عزمي بشارة والدكتورة حنان عشراوي، لأضحت قضية النضال اللاهوتي العربي أثرا بعد عين، في حين أن مجتمعات مسيحية أخرى في منطقة مثل أميركا اللاتينية استطاعت وعبر قراءات حداثية دينية «لاهوت التحرير» من استمرار النضال، وليس عجيبا في هذا السياق أن يخلع أحد أساقفة أميركا اللاتينية (الباراغواي) أثواب الكهنوت ويطلب التحلل من التزاماته الدينية ليخوض الصراع على الرئاسة في بلده ويفوز.. ويتبقى علينا البحث ماذا لدى هؤلاء من تجربة ناجعة ولماذا قصرت بنا السبل في فهم ما ينبغي له أن يفهم؟

إلى أين نمضي؟

أغلب الظن أن العالم العربي يعيش منعطفا تاريخيا، ضبابيا ومن أسف، تختلط فيه الخيوط وتتداخل الخطوط، وفي ظل حالة سيولة عالمية، يخشى المرء أن تطول، ومعها يستشري التفكك في الجسد العربي، وأولى علامات الانهيار الداخلي تناحر الأقليات مع الأطياف الغالبة، وهنا تتأتي الحاجة عربيا لإعادة مراجعة الدور الذي لعبه هذا الفصيل والتأكيد على تصحيح مساره لخدمة المجموع لا للتمايز أو التقابل.

*كاتب مصري