البلاد العربية في الوثائق العثمانية.. صورة جديدة طال انتظارها

بجهود من مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إسطنبول

TT

في السنوات الأخيرة يتزامن، دونما ارتباط مباشر، التحسن في العلاقات التركية - العربية مع الاهتمام المتزايد بالعلاقات التاريخية بين العرب والأتراك. وبعبارة أوضح، لدينا جهود أكاديمية وبحثية جادة في العقود الأخيرة أخذت تثمر بشكل خاص في السنوات الأخيرة، وهو ما سيتواصل الآن بشكل أفضل، مع التحسن المتزايد في العلاقات التركية - العربية.

وينطبق هذا بشكل خاص على جهود المؤسسة المعروفة بـ«أرسيكا»، أو «مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية في إسطنبول»، التي نشرت منذ تأسيسها في 1980 عشرات الكتب المرجعية عن العلاقات العربية التاريخية. ومن هذه الكتب لدينا دراسات وترجمات وببليوغرافيات وأعمال ندوات ومؤتمرات تتميز باعتمادها على المصادر العثمانية التي لم تكن تؤخذ بعين الاعتبار في العقود السابقة، في الدراسات التي كانت تصدر في الجانب العربي عن التاريخ العثماني المشترك بين العرب والأتراك.

وبعد هذه الجهود المشكورة لـ«أرسيكا»، التي هي إنجاز مشترك للمسلمين، باعتبارها منبثقة عن منظمة المؤتمر الإسلامي، سعت هذه المؤسسة مؤخرا إلى تبني مشروع كبير كان حلما للباحثين العرب المعنيين بالتاريخ العثماني، ألا وهو «البلاد العربية في التاريخ العثماني»، الذي صدر المجلد الأول منه في نهاية 2010، ولا يعرف أحد متى سيصدر المجلد الأخير منه، باعتباره مشروعا قائما على منبع لا ينضب من الوثائق. وقد عهدت «أرسيكا» بهذا المشروع إلى الباحث العراقي التركي المتخصص في الوثائق العثمانية، الدكتور فاضل بيات.

وكان فاضل بيات قد اشتغل سابقا بهذا المجال خلال عمله في «لجنة تاريخ بلاد الشام» بالجامعة الأردنية، حيث بدأ هناك بمشروع رائد تحت عنوان «في دفاتر المهمة»، أصدر منه ثلاثة مجلدات خلال وجوده هناك، إلى أن انتقل للعمل في «أرسيكا» في 2007.

وبالمقارنة مع المشروع الأول «دفاتر المهمة» الذي مثّل فتحا علميا جديدا، يأتي المشروع الجديد «البلاد العربية في الوثائق العثمانية» بطموح أكبر يستند إلى قاعدة مؤسسية وبحثية تضمن له أن يكون فتحا علميا أوسع يستفيد منه الباحثون العرب في مختلف بلدانهم؛ من العراق إلى المغرب، ومن سورية إلى اليمن.

وقد جاء المجلد الأول في 412 صفحة من الحجم الكبير بالعربية، مع مقدمة بالتركية أيضا، ليضم 114 وثيقة عثمانية تم اختيارها من مصادر مختلفة. وبالمقارنة مع العمل الأول الذي اعتمد على «دفاتر المهمة» الموجودة في الأرشيف العثماني، الذي تم تصنيف محتوياته، فقد جاء العمل الجديد ليضم وثائق مختلفة من مصادر متنوعة؛ فلدينا في هذا العمل الجديد وثائق من «أرشيف طوب قابي سرايي»، الذي يضم أقدم الوثائق العثمانية التي لم تُصنّف بعد كما صُنّفت وثائق «مركز الأرشيف العثماني» التابع لرئاسة الوزراء. وقد أخذ من «أرشيف طوب قابي» أيضا «دفتر المهمة» رقم 12321 الذي يتضمن الأحكام السلطانية عن سنوات 951 - 952هـ/1544 - 1545م، بينما أخذ «دفتر المهمة» رقم 888 الذي تعود أحكامه إلى 59 هـ/1552م من «مكتبة طوب قابي سرايي» التي هي منفصلة عن الأرشيف. أما المصدر الرابع للوثائق الموجودة في هذا المجلد فهو مجموعة «منشآت السلاطين» لكاتب الديوان السلطاني فريدون أحمد بك، الذي يتضمن ما ورد للسلاطين العثمانيين من رسائل، وما أرسل من قبلهم منذ البداية وحتى عهد السلطان مراد الثالث، الذي جمع الكتاب في عهده (982هـ/1574م). وقد ضم الباحث إلى هذا المجلد ملحقين؛ ضم الأول «يوميات حملة السلطان سليم الأول على بلاد الشام ومصر»، والثاني «الوقائع اليومية لحملة السلطان سليمان القانوني على العراقين».

وهكذا فقد تميز العمل الجديد عن العمل السابق بأن الوثائق الموجودة جاءت في لغتين، حيث ورد بالعربية أولا الرسائل التي تم تبادلها بين سلاطين المماليك والسلاطين العثمانيين، التي تعود أقدمها إلى عام 817هـ/1415م إلى قبل مائة سنة من الفتح العثماني للبلاد العربية، بينما وردت بالعثمانية بقية الوثائق التي تتضمن الأحكام السلطانية المختلفة.

ومن الناحية المنهجية، فقد تميز العمل الجديد عن العمل السابق في أنه تضمن بالعربية تلخيصا لأهم ما ورد في الوثيقة، ثم تأتي الوثيقة العثمانية في يمين الصفحة، والترجمة العربية إلى يسارها، وهو ما يشكل مادة مساعدة للمتدربين على قراءة الوثائق العثمانية وترجمتها إلى العربية. وقد تضمن المجلد في خاتمته صور بعض الوثائق الأصلية التي توضح الجهد الكبير الذي بذله الباحث لكي تصل إلى القارئ العربي بشكلها الراهن. فالوثائق الأصلية تتسم بتداخل الخط وافتقار الكلمات إلى التنقيط مما يسمح بقراءة متعددة لها، وخاصة لأسماء الأماكن.

أما من الناحية الموضوعية، فقد شاء الباحث الدكتور بيات أن يقسم الوثائق الموجودة في هذا المجلد حسب العهود والمواضيع. فقد وزع الرسائل المتبادلة بين السلاطين المماليك والسلاطين العثمانيين حسب العهود (عهد السلطان محمد الأول، عهد السلطان سليم الأول.. إلخ)، بينما وزع الوثائق الأخرى حسب المواضيع المرتبطة بقضايا (الحج، الأوقاف، العشائر والزعامات البدوية، الشؤون الإدارية والعسكرية والمالية.. إلخ) أو مناطق (اليمن والبحر الأحمر، أفريقيا الشمالية.. إلخ).

وبشكل عام يمكن القول إن المجلد الأول من هذا المشروع الكبير يقدم صورة جديدة أكثر واقعية عن الحكم العثماني للبلاد العربية، الذي استمر نحو أربعة قرون. ففي هذا المجلد مثلا قسم مخصص للشكاوى المرفوعة من الولايات العربية إلى الديوان السلطاني، حيث تقدم صورة عن تجاوزات بعض الحكام (انتزاع أراض واغتصاب أموال من السكان المحليين) من ناحية، وآلية استجابة المركز العثماني وتصرفه في مثل هذه الأحوال.

ويبدو أن هذا الجديد الذي يقدمه هذا المجلد في قضايا محددة يغني ما لدينا من معلومات. ومن ذلك، يمكن أن نتوقف عند القسم الخاص بالأوقاف وما ورد فيه من وثائق تتعلق بمصر تحديدا. ففي هذه الوثائق ما يفيد بإقدام الحكم العثماني الجديد على ضبط وتنظيم الأوقاف بشكل مختلف عن السابق. فقد كشفت هذه الوثائق عن استحداث منصبين جديدين؛ الأول هو «دفترار للأوقاف»، والثاني قاض خاص بالأوقاف، حيث كشفت التقارير العثمانية الأولى عن فساد كبير وتلاعب خطير في موارد الأوقاف الموجودة من العهد المملوكي. وعلى سبيل المثال، تكشف هذه التقارير عن تلاعب كبير في «أوقاف الحرمين»، حيث إن ما يأخذه الناظر على «وقف الدشيشة» لنفسه يأكل نسبة كبيرة من موارد الوقف، كما أن المباشرين كانوا يختلسون بدورهم الحبوب المرسلة إلى الحجاز. ولذلك فقد تقرر تعيين دفترار خاص للوقف إلى جانب الدفترار العام لكي يتم فصل وحفظ أموال كل جهة عن الأخرى (الوقف والميري)، كما أنه تقرر جمع كل كتب الوقف أو الوقفيات الموجودة في مصر وحفظها في صندوق واحد لا يتم فتحه وغلقه إلا بختم دفترار الأوقاف، وذلك لحصر موارد ونفقات الأوقاف، حسب ما حدده الواقفون، ومنع التلاعب الحاصل فيها من قبل النظّار والمتولين.

ولا يمثل هذا إلا عينة مما هو موجود من المجلد الأول أو من «المشروع الذي طال انتظاره»، كما يقول الدكتور خالد إرن، مدير عام «أرسيكا» في تقديمه لهذا المجلد، الذي نأمل أن يتواصل ويفيد الباحثين العرب في الوصول إلى صورة جديدة أكثر واقعية عن الحكم العثماني للبلاد العربية.