المحبة بوصفها عبادة وجهادا أكبر

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

في سياق محاولته توضيح الفارق ما بين العبودية والتنسك؛ نحى أبو الأعلى المودودي إلى تأكيد أن التأله والتنسك هما عبارة عن حالة تطلق على العبد الذي لم يقف به الأمر على أن يكون قد أسلم نفسه لسيده طاعة وتذللا فحسب؛ بل كان مع ذلك معتقدا بعلائه، معترفا بعلو شأنه، وكان قلبه مفعما بعواطف الامتنان على نعمه وأياديه. ومن ثم، يبالغ المتأله المتنسك – بخلاف المتعبد العادي - في تمجيد المولى وتعظيمه، كما يتفنن في إبداء الشكر على آلائه، وفي أداء شعائر «العبدية» له. ونتيجة لذلك؛ فإن هذا المعنى لا ينضم إلى معاني «العبدية» الأولى، إلا إذا كان العبد لا يخضع رأسه لسيده فحسب، بل ويخضع قلبه معه أيضا.

وذلك يعني أن الإذعان والخضوع الكلي هو أصل العبادة، وأن عبودية القلب أسمى منزلة من عبودية الجوارح، لأنها تنقل المتعبد من حال العبودية إلى مقام التنسك، بمعنى المبالغة في العبادة ظاهرا وباطنا، ثم تنقله مرة أخرى إلى مقام التأله، وهنالك ينطبق عليه قول المولى عز وجل (في الحديث القدسي): «من آذى لي وليا فقد استحق محاربتي، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء فرائضي، وإنه ليتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت رجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولسانه الذي ينطق به، وقلبه الذي يعقل به، إن سألني أعطيته، وإن دعاني أجبته، وما ترددت عن شيء أنا فاعله كترددي عن موته وذلك أنه يكرهه، وأنا أكره مساءته».

العبادة إذًا اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ وذلك بحكم كونها الغاية المرضية له، والتي خلق الخلق من أجلها، قال تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ». وبها أرسل جميع الرسل، قال تعالى: «وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ». ومن ثم؛ فإن المعنى المحدد الذي طلبه جميع الرسل من أقوامهم – فيما يؤكد سيد قطب في كتابه مقومات التصور الإسلامي - لا يخرج عن أمور ثلاثة هي:

أولا: أهمية هذا الأصل باعتباره قاعدة للتصور الإسلامي. ثانيا: خطأ منهج علم مقارنة الأديان عن «تطور» عقيدة التوحيد، من دون استثناء الرسالات السماوية؛ بل بالإغفال المتعمد لاستقلال هذه الرسالات عما صاغته العقول البشرية من ركام العقائد والتصورات، واعتبار ما جاءت به مجرد تطور في المحاولات البشرية في مجال الاعتقاد. ثالثا: خطر هذا المنهج على العقيدة الصحيحة، لمناقضته للمنهج القرآني، ومخالفته عن قول الله في هذه القضية.

وعلى ذلك؛ فالعبادة هي النداء الأول في كل رسالة وعلى لسان كل نبي: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ». وبذلك وصف ملائكته وأنبياءه، فقال تعالى: «وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ». ونعت صفوة خلقه بالعبودية له، فقال تعالى: «عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا»، وقال أيضا: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا».

كما نعت بها أكمل خلقه صلى الله عليه وسلم، فقال في الإسراء: «سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا»، وقال في الفرقان: «تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا»، وقال في شأن ملائكته: «وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ»، وقال في أمر وحيه: «فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى»، وقال في الدعوة: «وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا»، وقال في التحدي: «وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ»، وقال في عيسى ابن مريم عليهما السلام: «إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ»، وفيه أيضا: «لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ».

فالدين كله داخل في العبادة، يقال: دنته فدان أي ذللته فذل، ويقال: يدين لله ويدين الله أي يعبد الله ويطيعه ويخضع له. على أن العبادة المأمور بها تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له. ولذلك كانت الصلة بالله صلة عبودية، وليست كذلك بالنسبة لصلات الإنسان الأخرى: فصلته بالأنبياء صلة اهتداء بهديهم واقتداء بسيرتهم وطاعة لتعاليمهم ومحبة لأشخاصهم وأخلاقهم، على حين أن صلته بخالقه هي الصلة العليا التي تربو على كل صلة: «قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ».

العبادة إذن - فيما يؤكد الإمام الرازي - عبارة عن نهاية التعظيم لله، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام: الحياة التي تفيد المكنة من الانتفاع. وإليها الإشارة بقوله سبحانه: «وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا»، وقوله: « كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ». ومن ثم؛ فإن أقل القليل من العبادة يكبر عن أن يستحقه إلا من كان له أعلى جنس من النعمة، ألا وهو الله سبحانه، فلذلك لا يستحق العبادة إلا الله.

يتضمن معنى العبادة في الإسلام إذن الدين والحياة من جهة، وكيان الإنسان ظاهره وباطنه من جهة أخرى. ولعل ذلك هو ما دفع ابن تيمية لأن يضمنها – إلى جانب الشعائر المفروضة - ما زاد عليها من ألوان التعبد التطوعي من ذكر وتلاوة واستغفار، ومن أخلاق وفضائل إنسانية جامعة: كصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، والإحسان للجار واليتيم والمسكين وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر والقراءة، وأمثال ذلك من ضروب العبادة المشهورة، ومن أخلاق ربانية عالية: كحب الله ورسوله وخشية الله والإنابة إليه، وإخلاص الدين له، والصبر لحكمه، والشكر لنعمه، والرضا بقضائه، والتوكل عليه، والرجاء لرحمته، والخوف من عذابه... إلخ.

ولعل ذلك أيضا هو ما دفع تلميذه ابن القيم في «مدارج السالكين» لأن يفصل مراتب العبودية وحظ القلب واللسان والجوارح والحواس منها في خمسين مرتبة موزعة عليها، مؤكدا أن رحى العبودية تدور على خمس عشرة قاعدة، من كملها فقد كمل مراتب العبودية وبيانها: أن العبودية منقسمة على القلب، واللسان، والجوارح، وعلى كل منها عبودية تخصه. والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب، ومستحب، وحرام، ومكروه، ومباح. وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.

وواقع الأمر أن ابن تيمية أضاف إلى جميع ما سبق ذكره فضيلتين وفريضتين كبيرتين بمثابة السياج لذلك كله، ألا وهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد الكفار والمنافقين في سبيل الله. على أنه ينحو في مواضع أخرى من مؤلفاته إلى عدم حصر الجهاد في معناه العسكري، أو الجهاد الأصغر، وإنما يعبر به عن معنى «الجهاد الأكبر» تبعا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: «رجعنا من الجهاد الأصغر (القتال) إلى الجهاد الأكبر (جهاد النفس)». إذ يتسع معنى الجهاد في الإسلام ليشتمل على أنواع، أو أبعاد، أو جبهات أربع هي: جهاد المحتل الغاشم الذي يبدأ بالعدوان، وجهاد الحاكم الجائر، والاستلاب المطلق للأنظمة الشمولية، وجهاد كل تقليد من شأنه أن يؤدي إلى التبعية العمياء للآبائية، وجهاد النفس، المعبر عنها في الحديث الشريف بـ«الجهاد الأكبر».

* كاتب مصري