في مواجهة إشكالية فتنة «أورابيا».. ما العمل؟

إميل أمين

TT

من بين أهم القضايا التي تشغل الباحث في الشأن الديني المتماس بالحياة السياسية يأتي الحديث هذه الأيام عن قضية «أورابيا»، وهو المصطلح الجديد الذي يطلق على القلق الأوروبي من التكاثر الإسلامي في القارة الأوروبية، سيما وأن هناك من ينفخ النار في الإشكالية وكأنه يسعى لتحقيق نبوءة هنتنغتون أو ما هو أبعد منها، عن وعي لا عن مصادفة.

وهناك في واقع الأمر عدد من أصحاب الأدمغة التي تحمل دائما وأبدا أفكارا سوداوية وتنطلق من فلسفة «السم في العسل»، تقف وراء شيوع هذا الفكر وترويجه بين الأوروبيين، ولهذا يضحى تنامي التيارات اليمينية الأوروبية ورفضها لكل ما هو إسلامي ومن هو مسلم ردة فعل طبيعية وتحصيل حاصل لا مفر منه.

في مقدمة هؤلاء يأتي بطريرك الاستشراق المنحول برنارد لويس المؤرخ البريطاني الأصل الأميركي الجنسية، والمعروف بعدائه الواضح والفاضح للعرب والمسلمين. وقد كان مقاله في أبريل (نيسان) 2007 «أوروبا والمسلمون: ناقوس الخطر القادم» جرعة من الأحقاد والضغائن شكك فيه في إمكانية أن يضحى المسلم المهاجر لأوروبا جزءا منها أو قادرا على الاندماج في المنظومة الحضارية الغربية، وعزا ذلك لخلفيات دينية واضحة.

أما الثاني فهو فرانسيس فوكاياما، صاحب نظرية نهاية التاريخ، ففي محاضرة له أمام المنظمة القومية للديمقراطية في السفارة الكندية بواشنطن أكد على أن «المسلمين في أوروبا باتوا يمثلون الخطر الأكبر، انطلاقا من أن المجتمعات الأوروبية إذ تلفظ الغرباء فإنهم يسعون إلى أقرب حاضنة آيديولوجية مثل أسامة بن لادن والارتماء في أحضانه ليصبحوا من ثم قنابل موقوتة في (أورابيا الجديدة)».

فيما ثالث تلك الأدمغة دانيال بايبس الكاتب الأميركي صاحب الرؤى والروح العنصرية المعهودة، الذي يؤكد على أن أوروبا تصبح يوما بعد يوم إقليما من أقاليم الإسلام أو مستعمرة إسلامية وبايبس هو صاحب الكلمات المشهورة في مذكرته للرئيس القادم «ميدل ايست انسايت نوفمبر ـ ديسمبر عام 2000» والتي قال فيها إن «الأسلمة هي الآيديولوجيا المتطرفة الأكثر حيوية في عالمنا اليوم وتمثل تهديدا لمصالحنا ليس فقط في الشرق الأوسط بل من غرب أفريقيا وإلى جنوب شرقي آسيا وحتى هنا في الولايات المتحدة».

ما هي الخطوط العريضة لأورابيا ـ الخوف التي يهدد بها هؤلاء، وأمثالهم كثر، مما يضيق بهم المقال سيما من أمثال الصحافية والكاتبة الإيطالية أوريانا فلاتشي؟

من دون اختصار مخل هناك محوران لأحاديثهم: الأول: ينصب حول واقع الحال الذي تعيشه أوروبا اليوم ـ وهو للموضوعية أمر لا ذنب للمسلمين فيه من قريب أو بعيد - ويتعلق بتفريغ المسيحية الأوروبية من قيمها التاريخية وتقاليدها، ويعزى ذلك للعلمانية التي أعمت أنوارها أي رؤى دينية عميقة إنسانية أو لاهوتية خلاقة، ولذا فإن عدد المسيحيين الملتزمين يتناقص في الجيلين الماضيين لدرجة أنه بدا يطلق عليها اسم «القارة المظلمة».

الثاني: هو تدني الولادات في أوروبا من قبل أهل البلاد الأصليين؛ فحسب إحصاءات الاتحاد الأوروبي فإن النسبة المطلوبة للحفاظ على عدد سكان أوروبا الحالي يتطلب نسبة ولادة تبلغ 2.1 للمرأة الواحدة، في حين أن النسبة الحالية هي 1.5.

عطفا على ما تقدم، يغزي هذا التيار الفكري كتابات من الشاطئ الآخر للأطلنطي، منها ما أورده كاتب مقال الرأي والناقد الثقافي الأميركي مارك ستاين في كتابه «أميركا تقف بمفردها: نهاية العالم كما نعرفه»، وفيه: «إن الإسلام الآن هو المورد الأول والأساسي للأوروبيين الجدد، وذلك بفضل القرب الجغرافي للبلدان الإسلامية من أوروبا وسعي سكان تلك البلدان إلى الخروج من بيئة مثقلة بالأزمات ومهيئة للمزيد منها».

ولأن المسلمين قد أتوا إلى أوروبا في وقت تتصف فيه بالضعف السياسي والثقافي، لذلك نراهم يغيرون أوروبا تغييرا عميقا وكبيرا، فالإسلام، بحسب ستاين، يمتلك الشباب والإرادة، بينما أوروبا تمتلك كبار السن والرفاهية والرخاء.

وفي كلمات أخرى أن إسلام ما قبل الحداثة يهزم مسيحية ما بعد الحداثة. ولهذا فإن السيد ستاين وبطريقة مباشرة ومؤلمة يتنبأ بأن جزءا كبيرا من العالم الغربي سوف يعجز عن البقاء في القرن الحادي والعشرين، وأننا سوف نشهد في سنوات حياتنا انهيار واختفاء جزء كبير منه بالفعل، وسوف يشمل ذلك العديد إن لم يكن معظم البلدان الأوروبية.. هي نهاية العالم كما نعرفه إذن.

وقد بلغت فجاجة دانيال بايبس ودعواته لبذر الكراهية أن يطرح سؤالا عن «درجة دموية وعنف الكيفية التي سوف يكون عليها انتقال ملكية الأرض والثروة» ويجد الرد عند ستاين بأن «تفجيرات مدريد ولندن واغتيال ثيو فان جوخ في أمستردام كانت طلقات تدشين لبداية الحرب الأهلية الأوروبية، ولهذا فإن أوروبا هي مستعمرة الآن».

هل بدأت هذه الأصوات تنشئ جدارا عاليا من الأحقاد والاضطرابات النفسية عند بعض من الأوروبيين؟

مؤكد أن ذلك كذلك، وليس أدل هنا على صدق ما نقول به من تصريحات مارين لوبان الابنة البكر لجان ماري لوبان رئيس الجبهة الوطنية اليمينية في فرنسا؛ ففي معركتها الانتخابية للفوز برئاسة الحزب ضد منافسها برنيو غولينش، أشارت إلى أن «إقامة المسلمين الفرنسيين صلاة الجمعة على الطرقات شبيه بالاحتلال النازي لفرنسا، وأن فرنسا التي عرفت منذ خمس عشرة سنة مشكلة الحجاب ثم قبل سنة مشكلة البرقع، اليوم بات المسلمون فيها يحتلون كل يوم جمعة نحو 15 شارعا من أجل إقامة الصلاة».

وفي ظل المخاوف التي تتسرب إلى قلوب الأوروبيين من جراء «أورابيا» وفتنتها المزعومة، كان لا بد أن تتنامى الدعوات سرا وجهرا في فرنسا، رافضة للوجود الإسلامي، ذلك أنه بحسب البيانات الصادرة عن الهيئة العليا لمكافحة التمييز ودعم المساواة في فرنسا، فقد ارتفع حجم الشكاوى المتعلقة بالإسلاموفوبيا التي تلقتها من 1500 شكوى سنة 2000 إلى 9000 سنة 2008. فيما رصد الائتلاف ضد الإسلاموفوبيا عام 2009 ثمانية اعتداءات على مساجد وأربعة على مقابر وجميعها كتبت عليها شعارات معادية للإسلام.

ويخشى المرء أن تأتي تسريبات «ويكيليكس» الأخيرة لتزخم ذلك التيار وتصب زيتا إضافيا على النار، إذ أشارت البرقيات الأميركية الصادرة من باريس إلى واشنطن، إلى أن «الحكومة الفرنسية تعمل على إقصاء المواطنين المسلمين وأن الإسلام أخذ في الانتشار في مختلف فئات المجتمع بما فيها سلك الضباط، وأن 3.5% من العسكريين الفرنسيين - بمن فيهم ضباط - اعتنقوا الإسلام مؤخرا».

والمقطوع به أن تصريحات عدد من المسؤولين الأوروبيين وفي مقدمتهم المستشارة الألمانية انجيلا ميركل تدفع للقلق، إذ اعتبرت أن فكرة الاندماج والتعددية في المجتمعات الأوروبية قد أثبتت فشلها وهذه بدورها وقفت عندها بعض وثائق «ويكيليكس» بالرد، فقد لفتت على سبيل المثال إلى أن أحداث عنف عام 2005 في فرنسا التي اتهم فيها شباب فرنسيون مسلمون لم يكن مرجعها جماعات إسلامية متطرفة، وإنما الإحباط من واقع الإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يعانون منه، وبعد أن فشلت المؤسسات الفرنسية في إظهار المرونة الكافية من أجل التأقلم مع الواقع السكاني الذي ازداد تنوعا.

هل نحن إزاء قضية حيوية للغاية في علاقة الشرق بالغرب والعالم العربي والإسلامي بقارة أوروبا الجار الأقرب والصديق الأكبر والملتقى الحضاري الإنساني للطرفين منذ مئات السنين؟

بلا شك فإن الأمر لهو على هذا النحو، ما يستدعي حالة من التنادي بين المفكرين والمثقفين العرب والمسلمين لمواجهة حملات التخويف، وبخاصة بعد ذاك الذي يجري في العالم العربي من ثورات فكرية وتحررية من قيود عقود طويلة الشأن الذي بدأت أوروبا تنظر له بقلق مضاعف وخوف مركز، والتنادي هنا فرض عين على كل صاحب رأي سديد وفكر خلاق سيما وأن هناك أيضا من يحاول تعقيد المشهد بين الجانبيين من أمثال المؤرخة بات يئور التي يدل اسمها على هويتها، (اسمها الأصلي جيزيل لبتمان) وتتخذ من جنيف مقرا لها، وقد عملت على ترويج تعبير «أورابيا»، وتزعم أن الحوار الأوروبي العربي بين الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ظل «وسيلة لنشر الجهاد الاقتصادي والثقافي من الشرق الأوسط إلى أوروبا».

وترى بات يئور أن «مصير أورابيا قد تحدد حينما قررت أوروبا طواعية أن تصبح شريكا سريا في الجهاد العربي الكوكبي ضد أميركا وإسرائيل». وبالنسبة لها، فالإسلام لا يقتصر على كونه تهديدا للحياة والحضارة الغربية، بل إنه بدا بالفعل في خلق منظومة الذميين الغربيين؛ أي إخضاع الغرب لمكانة الذميين تحت السيادة الإسلامية. وتمضي في خلق رؤية للإسلام بوصفه قوة شر مخترقة لا يستطيع تغيير «طبيعته الجهادية ومفهوم أهل الذمة»، ومن ثم اكتسب تعبير «أورابيا» معنى أوسع بكثير، فبدلا من أن يكون مقصورا على العلاقات الأورو – عربية، أصبح التركيز وبتزايد على التغييرات في الداخل الأوروبي الناجمة عن الهجرة وزيادة عدد السكان المسلمين.

وربما يحتاج الأمر لمقال بمفرده للبحث في تلك الادعاءات وتبيان مدى صدقيتها من عدمها، غير أن الجزئية التي نود أن نلفت إليها بالأرقام ـ وهي لا تكذب ـ وتفند أوهام «أورابيا» إنما تتعلق بتعداد السكان في أوروبا، إذ يشير تعداد سكان الاتحاد الأوروبي إلى رقم 521 مليون نسمة بينهم 23.8 مليون مسلم أو 4.6% من مجموع عدد السكان، وحتى إذا افترضنا أنه من المتوقع ركود عدد سكان الاتحاد الأوروبي مع تزايد عدد المسلمين من خلال الهجرة أو معدل الإنجاب الأكبر في بعض الحالات، فمن الواقعي تصور وصول عدد السكان المسلمين بأوروبا إلى 40 مليونا عام 2025 من بين 500 مليون فرد، أي المجموع الكلي لعدد سكان الاتحاد الأوروبي، أو معدل 8% منهم، وقد يزيد هذا المعدل ليصبح 15% عام 2050 وحتى لو تقبلنا التقدير المنافس أي 20% بحلول 2050 فإنه من الأرجح أن يكون بإمكان الأوروبيين التحكم في تلك الأعداد، ولهذا تفسيرات أخرى.

هل نحن في مواجهة مرحلة جديدة من القلق والتشويش اللذين خلفتهما نظرية صراع الحضارات ونتج عنهما تشويه الخطاب عن الطبيعة الحقة للمأزق الذي يواجهه العالم؟

حكما إن تاريخ العلاقات بين الثقافات لا يقتصر على الحروب والمواجهات أو الإحلال والتبديل، إنه تاريخ يقوم أيضا على قرون من التبادلات البناءة والإخصاب التهجيني والتعايش السلمي.

أما تعزيز النظرة المضللة بأن الثقافات مثبتة على طريق تصادم حتمي يعمل على تحويل الخلافات القابلة للتفاوض إلى صراعات لا يمكن تطويعها قائمة على الهويات، فهو أمر يؤدي إلى فقدان الثقة بين المجتمعات في الحال والاستقبال، ويعود بنا إلى فكرة الهويات القاتلة كما وصفها المبدع العربي الكبير أمين معلوف في كتابه الأثير، في حين يبقى الحل واضحا في أن يصبح التعدد الثقافي والاندماج السياسي، لا الأحادية الثقافية التي اقترحها صموئيل هنتنغتون في كتابه «من نحن» هي المعيار الجديد في المجتمع الأوروبي على أبواب العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.

*كاتب مصري