«علم الشرق»: تحليق خارج سرب الاستشراق المؤدلج

نقاش متواصل منذ أكثر من 14 قرنا يحسمه الإعجاز العلمي

د. أسعد دوراكوفيتش الرئيس السابق لقسم الاستشراق بكلية الفلسفة والآداب في جامعة سراييفو («الشرق الأوسط»)
TT

مثل كتاب «علم الشرق» للباحث البوسني، الدكتور أسعد دوراكوفيتش، الرئيس السابق لقسم الاستشراق بكلية الفلسفة والآداب في جامعة سراييفو على مدى 30 سنة، إضافة مهمة في مجال إثراء المكتبة العالمية حول الشرق، رغم ما كتب حول هذا الشرق، الذي لم يكتب عن غيره من الجهات مثلما كتب عنه، حتى إنه أصبح محور الشأنين السياسي والثقافي الدوليين منذ القرن السابع الميلادي. وقد فاز الكتاب الذي يحتوي على 384 صفحة من الحجم الكبير، والصادر عن مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، بجائزة اتحاد الناشرين في البوسنة، وترجم إلى عدة لغات من بينها العربية والإنجليزية. وكان لتبني مؤسسة البابطين للإبداع الشعري وعملية الترجمة والنشر، دور كبير في انتشاره عالميا، وذلك لتناوله لعناصر الإبداع في الشعر العربي القديم، متخذا من المعلقات السبع دليلا على علو كعب الكلمة في التراث العربي، ولا سيما الشعر الذي كان متسيدا في حياة العرب قبل الإسلام. ثم تأثر الشعر العربي بعد الإسلام بالقرآن الكريم. «الذي تحدى به الخالق سبحانه وتعالى العرب، وهم أهل الفصاحة والبيان للإتيان ولو بآية من مثله». وهو ما تحدث عنه عبد العزيز البابطين في تقديمه للطبعة العربية.

وتطرق دوراكوفيتش في كتابه الذي قسمه إلى 6 فصول إلى شعر المديح (الفخر) في التراث الأدبي العربي، والشعر الوصفي، بينما «يبقى شعر الغزل نوعيا، باعتباره تعبيرا عن ابتهاج الشاعر بالمفاتن الظاهرة للمحبوب» بينما كانت رسالة القرآن غوصا في أعماق الإنسان. وهو ما يعيد استحضار مثالية عيسى عليه السلام، وسط مادية المجتمع الذي عاش فيه.

ومن هنا نفهم لماذا هناك علاقة بين معجزات الرسل، وما اشتهر وعظم في عصرهم، فموسى كان في مواجهة مع السحرة، وعيسى مع تحدي الحياة والموت (إحياء الموتى بإذن الله) بينما كانت معجزة القرآن في الكلمة.

ويقول الكاتب في الفصل الثاني «شكل القرآن تغييرا هائلا في مداه وقوته ويعتبر نموذجا لتلك التغيرات التي نادرا ما تحدث في التاريخ، فقد حول شعبا من الوثنية إلى التوحيد الخالص، ملهما إياه بالقوة ومسلحا إياه بمنظومة أخلاقية، سرعان ما مكنتهم من الانتشار السريع في العالم، أي في مدة وجيزة جدا، بما في ذلك مناطق كانت أكثر تقدما من العرب قبل نزول القرآن الكريم، وبشكل غير قابل للمقارنة».

ويشير الدكتور دوراكوفيتش في الفصل الثالث من الكتاب، إلى أن توقيت نزول القرآن، ارتبط بواقع التراث الأدبي العربي الذي بلغ مستوى عظيما من الإتقان من جهة والمكانة العالية من جهة أخرى، وفي هذه المرحلة وهذه الدرجة من التألق، يأتي القرآن ليتحدى ذلك كله، ولا يزال يتحدى «وجد القرآن تراثا أدبيا غنيا، وقد حقق درجة من الكمال التقني، إذ إن مجموعة القصائد الذهبية السبع (المعلقات) قد مثلت تألق هذا التراث في اللحظة التاريخية لنزول القرآن». وكانت الثقافة العربية هي ثقافة الكلمة التي وجدت تعبيرها في الشكل المكتمل فنيا في وقت مبكر يعود إلى القرن السادس الميلادي، ولكن الحقيقة أن الشعر العربي قبل الإسلام، لم يكن يعبر عن توجه ثقافي مكتمل الملامح، وإنما عن اتجاه إعلامي بامتياز في غالبه الأغلب، والقرآن وحده من مثل الاتجاه الثقافي البارز للمسلمين عربا وغيرهم. وقد آخذ القرآن الشعر العربي (في الأغلب) على ذلك بقوله تعالى «وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ»، وهي صفات تنطبق على توجه إعلامي، بما فيه من دعاية ودوغمائية ومغالطات، وقلب للحقائق أحيانا، وبالتالي لا يحمل ملامح ثقافية صميمة مميزة. والقرآن في هذا السياق نسبي الحكم، إذ استثنى الشعراء الرساليين، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم «إن من الشعر لحكمة» و«الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها». وقد ذكر القرآن في مواضع كثيرة، أنه ليس بشعر، في وسط يعرف ما هو الشعر، رغم ادعاء من لا يعلم الشعر أنه كذلك، وعليهم رد القرآن الكريم «وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» يس الآية 69. ويعلق الكاتب على ذلك بالقول «الشعر( ليس كله) في الحقل الديني غامض ومبهم وخيالي، وبالتالي فإن إدراكه الحسي غير موثوق به وخادع في غموضه، ما يكشف عن كونه وهما بشكل جوهري». كما نفى القرآن الكريم كون الرسول صلى الله عليه وسلم شاعرا أو كاهنا، وكأنه بذلك يفتح أعينهم على الحقيقة، فعندما يريد أحد أن يثبت هويته، فيذكر من حوله بنفسه كأن يقول أنا إنسان لدي عينان ولسان وأذنان، وهو مشهد سجله شكسبير على سبيل المثال في «تاجر البندقية».

وقد سبق القرآن إلى التعريف بطبيعته الإلهية «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ» الحاقة الآيات 40 و41 و42 و43.

وكان أحد فحول العرب، أبو الوليد عتبة بن ربيعة، قد شهد للقرآن أمام قريش «سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر، ولا الكهانة. يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، خلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم..»، والقصة مشهورة ومعلومة. وقال الشاعر أنيس الغفاري «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أقراء الشعر (أي أنواع الشعر وطرقه وأوزانه وأحدها قرء) فما يلتئم على لسان أحد بعدي أنه شعر، والله إنه لصادق وإنهم لكاذبون..». ومهما قيل عن طه حسين في الشعر الجاهلي، فإن الرجل قد أقر في نهاية المطاف بإعجاز القرآن «ولكنكم تعلمون أن القرآن ليس نثرا، كما أنه ليس شعرا، وإنما هو قرآن، ولا يمكن أن يسمى بغير هذا الاسم، ليس شعرا، وهذا وضع، فهو لم يتقيد بقيود الشعر، وليس نثرا، لأنه مقيد بقيود خاصة به، لا توجد في غيره، فهو ليس شعرا، ولا نثرا، ولكنه، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير.. كان وحيدا في بابه، لم يكن قبله، ولم يكن بعده مثله، ولم يحاول أحد أن يأتي بمثله، وتحدى الناس أن يحاكوه، وأنذرهم أن لا يجدوا إلى ذلك سبيلا». من حديث الشعر والنثر، الأعمال الكاملة (5 / 577).

والقرآن الكريم لم يقدم نفسه على أنه عدو آيديولوجي للشعر، وإنما استخدم معايير النسبية، قبل أن يعرفها العالم الحديث، سواء في تقويمه للشعراء، «.. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» أو أصحاب الديانات الأخرى «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» وقوله تعالى «وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ» والأمثلة كثيرة جدا لا يتسع لها المقام.

وقد أسهب الدكتور دوراكوفيتش، في شرح الاختلافات بين سوق الشعر، ورسائل الأنبياء، في كتابه الذي يبدو جمعا بين مقالات ومصادر كثيرة متناقضة في تعاطيها مع موضوع الكتاب، لذلك نجد أثرا لإشراقات وفيوضات عالية، من جهة، ولفيلولوجيا جافة ومتهافتة من جهة أخرى.

ومن بين الإشراقات التي نجدها في الكتاب ما أورده دوراكوفيتش في الفصل الرابع، من إشارات للإعجاز العلمي في القرآن، وهي ميزة للقرآن تحدث عنها الكثير من العلماء، من بينهم صاحب كتاب «التوراة، والإنجيل، والقرآن، والعلم» موريس بوكاي، وما كشفه الدكتور مصطفى محمود، والدكتور زغلول النجار، وعبد المجيد الزنداني، وغيرهم في بحوثهم العلمية المثيرة، والتي لا يرقى لحقائقها الشك، أو كما يقول، ول ديورانت «العلم يأتي في الصباح وتلحق به الفلسفة في المساء».

ومن ميزات القرآن التي أفرد لها الكاتب الجزء الخامس من الكتاب هو توجيه القرآن اهتمام الإنسان، أو بتعبيره العالم إلى داخله، في حين كانت الثقافة العربية قبل الإسلام تركز على الظاهر والشكل. «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا» وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ». وفي هذا السياق يقول الكاتب عن المسلمين الأوائل «بسبب النص القرآني غيروا وبشكل كامل نظرتهم للعالم، ثم غيروا هذا العالم نفسه أيضا».

وفي الفصل السادس، تحدث عن تأثير الثقافة العربية، في الغرب، وناقش هذه القضية على طريقته، لا سيما أن الفيلولوجية مذهب حديث في النقد، لا يدرك الكثير من مستخدميه، أنه يمثل آيديولوجيا في وقت يطالب فيه بالتخلي عن الآيديولوجيات الأخرى، ومشكلة هذا المذهب أنه جاء ردا على النصرانية التي تقول «آمن ثم ابحث» فوضع قاعدته الشهيرة «تخلَّ عن إيمانك ثم ابحث» في حين أن المنهج العلمي يقف إلى جانب القرآن الكريم «اعلم» و«اقرأ» قال تعالى «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، وقال سبحانه «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ». ولعل الإعجاز العلمي في القرآن الكريم هو ما يقدم الدليل القاطع على مصدره الإلهي، في حال تفرقت بالناس السبل الآيديولوجية، ومنها الفيلولوجيا.

وكان الدكتور أسعد دوراكوفيتش، قد ساهم مساهمة فعالة في تعريف المتكلمين باللغة البوسنية التي ينطق بها الصرب والكروات ويتقنها المقدونيون، والسلوفينيون، والكوسوفيون، والمنتنغريون، بالإنتاج الأدبي العربي ولا سيما الشعر القديم منه والمعاصر، ومن ذلك المعلقات السبع، وألف ليلة وليلة، ومختارات من الشعر العربي في سورية، ومختارات من الشعر العربي في الأردن، ومختارات من الشعر العربي في الكويت، وغيرها. وحاز بذلك على جائزة الشارقة لخدمة الثقافة العربية من اليونيسكو قبل بضع سنوات.