عاصمة مقدونيا: متحف مفتوح للحضارة العثمانية

إصدار عمل مرجعي عن جوامع سكوبيه والمنشآت الإسلامية الأخرى

صورة نادرة لجامع بورمالي الذي هدم في عام 1924 («الشرق الأوسط»)
TT

في زيارتي الأخيرة لمقر رئاسة «المشيخة الإسلامية» في سكوبيه، التي تمثل المسلمين أمام الدولة وترعى شؤونهم الدينية والثقافية، خرجت بآخر إصداراتها التي تتناول المواضيع التاريخية والدينية والثقافية المختلفة. ومن هذه الإصدارات لدينا عمل مرجعي هو الأول من نوعه عن جوامع سكوبيه والمنشآت الإسلامية الأخرى الذي صدر بعنوان «الآثار العثمانية في سكوبيه».

وفي الواقع، فإن أهمية هذا العمل تنبع من أمرين اثنين؛ يتعلق الأول بالمؤلفة، والثاني بالمنطقة أو المدينة التي تكتب عنها. فالمؤلفة ليديا كومبارجي - بيغوفيتش هي مؤرخة مقدونية من مواليد سكوبيه في عام 1924، درست تاريخ الفن في جامعة سكوبيه لتعمل بعدها في قسم الآثار الإسلامية في متحف سكوبيه ولتشارك بأوراق علمية في الكثير من الندوات والمؤتمرات المتخصصة في يوغوسلافيا السابقة وخارجها. وبعبارة أخرى فإن الكتاب يمثل حصيلة خمسين سنة من البحث والعمل الميداني، ويجمع بين التاريخ الثقافي العام والتاريخ العمراني الخاص، بما في ذلك الواقع المتمثل بصور نادرة ومخططات معمارية عن المنشآت الإسلامية التي بنيت خلال الحكم العثماني الطويل لمقدونيا، الذي استمر أكثر من 500 سنة. أما الأمر الثاني المرتبط بذلك فهو أن سكوبيه تمثل مستودعا أو متحفا مفتوحا للحضارة العثمانية، لأن العثمانيين فتحوها في 1391م وبنوا فيها المنشآت الحضارية التي تمثل مختلف أطوار وأنماط العمارة العثمانية (من المبكرة وصولا إلى الكلاسيكية)، ولذلك لدينا في سكوبيه مجموعة من أقدم المنشآت العثمانية في البلقان. ففي المدينة كان لدينا أقدم جامع يحمل اسم الوالي العثماني الأول، يجيت باشا، الذي استمرّ عهده خلال 1392 - 1414م، والذي انهار للأسف في 1943م نتيجة للقصف المدفعي، ولكنه لا يزال لدينا مجموعة من الجوامع الفريدة التي تعود إلى القرنين 9 - 10 هـ/15 - 16م مثل «جامع السلطان مراد» و«جامع آلاجا» و«جامع الغازي عيسى بك» و«جامع مصطفى باشا» و«جامع يحيى باشا» و«جامع حسين شاه».. إلخ.

وتقوم مقاربة المؤرخة كومبارجي - بيغوفيتش للمنشآت الإسلامية في سكوبية على مستويين: موضوعي وتاريخي. ففي المستوى الأول تقسم هذه المنشآت الحضارية حسب أنواعها (جوامع ومدارس وتكايا وحمامات وخانات وجسور.. إلخ)، بينما تتناول في المستوى التاريخي هذه المنشآت حسب المصير الذي آلت له: المنشآت التي كانت موجودة حتى نهاية الحكم العثماني في 1912م، وهدمت خلال القرن العشرين، والمنشآت التي لا تزال باقية تميز سكوبيه عما عداها من المدن المجاورة (نيش وبلغراد.. إلخ) التي تخلصت تماما من تلك المنشآت.

وفي الواقع، فإن هذه المنشآت الإسلامية التي تتمتع بقيمة تاريخية كبيرة على مستوى البلقان كانت ضحية لمرحلتين سياسيتين مختلفتين، ولنكبة طبيعية (زلزال 1963)، حلّت بها.

ففي خريف 1912 اندلعت حرب البلقان للتخلص من الوجود العثماني في أوروبا، واندفعت القوات الصربية لاحتلال سكوبيه ومقدونيا التي أصبحت تدعوها «صربيا الجنوبية». وبعد انتهاء الحرب البلقانية 1912 - 1913 والحرب العالمية الأولى 1914 - 1918، التي ألحقت بعض الأضرار بالمنشآت الإسلامية في سكوبيه، بدأت بلغراد خلال العهد اليوغوسلافي الملكي 1918 - 1941 سياسة تصريب للمكان، تشمل السكان والعمران، حتى تغدو سكوبيه بطابع صربي واضح. وخلال تلك السنوات تعرضت بعض المنشآت الإسلامية ذات القيمة التاريخية إلى هدم استفزازي لصدم المسلمين الذين كانوا يشكلون غالبية السكان، ودفعهم للهجرة إلى تركيا. ولدينا أفضل مثال على ذلك، ما حل بـ«جامع بورمالي» (بني في 900هـ/1495م) الذي كان يسمى «أجمل جوامع البلقان»، حيث قامت السلطات الصربية بهدمه كاملا في 1924، لا لشيء إلا لتبني مكانه «نادي الضباط» في المدينة.

وبعد الحرب العالمية الثانية، التي أضرت أيضا ببعض المنشآت الإسلامية، كما هو الأمر مع أول جامع بني في سكوبيه (جامع يجيت باشا)، برزت يوغوسلافيا جمهورية تحت حكم الحزب الشيوعي، حيث أصبحت سكوبيه عاصمة لـ«جمهورية مقدونيا». وقد تميزت هذه المرحلة بازدواجية في السياسة الدينية، حيث إن السلطة الجديدة دعمت الكنيسة المقدونية المنشقة عن الكنيسة الصربية، واهتمت بترميم ورعاية الأديرة والكنائس التاريخية التي بقيت من الحكم العثماني، بينما قامت بالتضييق على المسلمين وهدم بعض منشآتهم التاريخية لدفعهم إلى الهجرة إلى تركيا. وقد استمرت هذه السياسة بشكل واضح حتى 1966، حيث أخذت سكوبيه تتحول إلى مدينة بطابع سلافي أرثوذكسي، بينما بقي الطابع الشرقي الإسلامي في القسم الشمالي من المدينة الحالية، ويفصل بينهما نهر فردار.

وفي غضون ذلك، جاء زلزال 1963 المدمر ليقوم بدوره أيضا في انهيار أو تصدع بعض المنشآت الإسلامية ذات القيمة التاريخية. فقد انهار مثلا «جامع الحاج قاسم» (بني في 822هـ/ 1420م) وتضرّر كثيرا «جامع دوكانجيك» (بني 1549 - 1550م) وتهدمت بالكامل قبة «جامع الحاج بلبان» (بني في القرن 9 هـ/ 15م) وغيرها. وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الزلزال قد هدم تماما «نادي الضباط» الذي أقيم مكان «جامع بورمالي» المذكور، مما اعتبره بعض المسلمين انتقاما إلهيا.

وقد انتهزت السلطات الرسمية الحالة التي آلت إليها بعض الجوامع التاريخية نتيجة للزلزال لتتخذ من ذلك حجة لكي تقوم بالهدم عوضا عن أن تقوم بترميمها، كما كانت تفعل مع الأديرة والكنائس ذات القيمة التاريخية.

وقد كان «جامع يلن كابان» قد تضررت مئذنته قليلا نتيجة للزلزال، ولكن السلطات قامت بهدمه في 1975 لتبني محله مبنى المحكمة. كما أن «جامع فائق باشا» كان قد تضرر قليلا نتيجة للزلزال، ولكنه هدم في 1989.

ويبدو أن الكتاب جاء في وقته ليشهد على المرحلة السياسية الثالثة التي تريد تعظيم الطابع السلافي الأرثوذكسي لسكوبيه على حساب المنشآت الإسلامية التاريخية. فقد بدأت الحكومة الحالية، التي يقودها الحزب القومي المقدوني، تنفيذ مشروع «سكوبيه 2014»، الذي يهدف إلى بناء سلسلة منشآت ضخمة في مركز سكوبيه (على ضفتي نهر فاردار)، تعطي المدينة طابعا سلافيا أرثوذوكسيا. وفي هذا الإطار فقد تقرر بناء كنيسة ضخمة على بعد عشرات الأمتار من الموقع الذي كان فيه «جامع بورمالي» التاريخي، ولكن «المشيخة الإسلامية» تدخلت بقوة لرفض ذلك، واشترطت للموافقة أن تسمح السلطات الرسمية ببناء جامع إلى جانب الكنيسة، أي في الموقع الذي هدم فيه «جامع بورمالي». ولكن السلطات تراجعت عن بناء الكنيسة لكي لا توافق على إعادة بناء «جامع بورمالي» التاريخي.

كتاب المؤرخة كومبارجي - بيغوفيتش جاء في اللغة المقدونية ليقوي موقف «المشيخة الإسلامية» إزاء الهجمة الحالية التي تتعرض لها العاصمة سكوبيه لتغيير ملامحها، حيث إنه يبين دور المسلمين في تطور هذه المدينة بعد نحو 500 سنة من الحكم العثماني، كما يبين ما لحق من جور سياسي بالمنشآت الإسلامية ذات القيمة التاريخية التي هدمت دونما مبرر، في الوقت التي تهتم بها السلطات الإسبانية لغايات سياحية على الأقل.

ومن هنا، فإن كتاب كومبارجي - بيغوفيتش «الآثار العثمانية في سكوبيه» يستحق الترجمة إلى العربية، وهو ما نأمل أن نراه قريبا بين يدي القراء العرب للتعرف على «المتحف المفتوح للحضارة العثمانية» في مقدونيا.