القيم بوصفها طريقا للخلاص من سطوة العلم

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

يوما بعد يوم تزداد الحاجة إلى منظومات القيم الدينية في ظلِّ التقدم التقني الهائل الذي استولى على مجامع الإنسان المعاصر؛ فإذا به يتحول بدورهِ إلى آلة من الآلات، وإذا بمسخ «فرانكشتاين» يتغول حتى على صانعه! ولعلّ ذلك هو ما يفسر لنا حركة النقد العلمية التي تتعاظم باستمرار من داخل بنية النسق العلمي الغربي، متسائلة عن سبب المعضلة الحضارية الحالية، وعما إذا كانت ترجع إلى طبيعة الحضارة ذاتها، أم إلى فساد في منظومة القيم والمثل التي ترافقها؟! فمن المعلوم أن الآلة قد أثرت في كلّ جانب من جوانب الوجود البشري الحديث والمعاصر، مخلفة وراءها أصداء عميقة في نظرة الإنسان إلى الوجود، وفي سبل ممارسته للحياة، وطرائق عيشه المتجدد باستمرار. ومن هنا؛ يذهب البعض إلى تقرير أنّ الآلة الأولى التي أبدعها الإنسان لم تكن الفأس ولا المنجل ولا العصا ولا المحراث؛ وإنما كانت (الفخ) الذي نصبَه الإنسان الابتدائي في رحلةِ الصيد لقنص الحيوانات وأسرها، ثم سرعان ما تطور علم الإنسان حتى وصل إلى معرفة قوانين الطبيعة، وبرع في استخدامها للسيطرة على القوى الكونية، إلى أنْ قهر المادة، وركب منكب الفضاء وجاوز الجوزاء.. إلخ. ونحن جميعا ندرك اليوم أن ثمة عالَما قديما يموت وآخر يولد من جديد، وقد غدونا الآن مرْهقي الحِسّ، شديدي التأثر والانفعال حيالَ كلِّ ما يتصِل بشرْط وجودنا الماديّ والمعنويّ في هذه الحياة.

ولا أدلَّ على استفحال أزمة القيم الغربية المعاصرة من التأثيرات السلبية المتعلقة بفكرة الزواج وتكوين الأسرة. ففيما كان هذا الأمر في الماضي عبارة عن مصاهرة تتم بين أسرتين، أو عشيرتين، أو عرشين، أو مملكتين، وكان الزوج يفيد من الزواج مزيدا يحميهِ من خصومهِ ويوسّع نطاقَ نفوذه الاجتماعيّ، ويخفِف عليه شدّة الصدمةِ في أحوال النكْبَةِ المباغتةِ والمرض العضال، والقحط والغزو والغارات؛ إذا به في الحضارة الحديثة لا يخرج عن كوْنِهِ عقدا يعْتَرَف به في المجتمع ما بين شخصين مستقلين يتكاملان بالجنس من حيث رغبتهما الخاصة، وعاطفتهما المتبادلة! وفيما كانت الأسرة قديما مدرسة ومعْمَلا ومعبدا ومحْكمة في الوقت ذاته؛ إذا بها تفقِد اليومَ جلَّ وظائِفها حين اضطْرت المرأة إلى العمل خارج المنزل، وأنيطت الوظائف الأسرية بمؤسسات وهيئات مختلفة لم تبْقِ المرأةَ ممرضة ترْعى شيخوخة بَعْلِهَا كما حسِبَ «سقراط»! بل صارت الدولة راعية للشيخوخةِ وباتَ الضمان ضمانا اجتماعيا عاملا في كفالة الدولةِ أو النقابةِ أو في ريع استثمار الثروة في الأسهم والسندات! كانت الأسرة قديما تتكون من زوج وزوجة وأبناء، فإذا بالنموذج العصري يكتفي بعنصريّ المعادلة الأول مستبدلا العنصر الثالث بحيازة زوجين من القطط أو الكلاب! أما إذا بلغ الأب أو الأم مرحلة الشيخوخة فما من حل سوى إيداعه دارا لرعاية المسنين والمسنات، ولا ضير من زيارته مرة في السنة خلال أعياد الميلاد!! وللأسف الشديد؛ فإن بعضا من الدول العربية أخذت تنتهج نفس النهج تقريبا؛ ففي مصر - على سبيل المثال - يوجد عشرات من دور المسنين تتنشر في مدينة القاهرة بالذات. وهكذا لم تعد النظم مستقرة والعقائد ثابتة، وإنما تزعزعت وتأرجحت وتهافتت بفضل ضغوط الحياة، وبينما كان الإنسان يطمح إلى أن يعيش أحفاد أحفاده في رغد من العيش - ولذا يوقف من أجلهم الأوقاف - إذا به لا يفكر إلا في حدود نفسه أو أسرته على أبعد تقدير! بعد أن تغيّرَ وجه الحياة في العالم الحديث، وصحب كلّ تغير مادي تبدّل في نظرة الإنسان. والواقع الذي لا شك فيه أنّ الأزمة أزمة انقطاع الاتزان بين ما يخلق الإنسان، وبين الأهداف المثلى التي يترتب على البشر التزامها فيما وراء الاختراعات، أزمة خوف وحيرة وقلق وهلع، إنها أزمة انخلاع القلب والعقل، وهي تفرض على إنسان اليوم أن يعيش عيش إبليس، يحيا بانتظار الموت، ويرقب، وهو مشتت اللب، خائر الفؤاد، فاقد الرجاء، اطباق موت ذري ينزل عليه ويحيق به كالقدر المحتوم، فيمحو كيانه وحياته، ويمحو كل كون وحياة! صحيح أنّ الرأي السابق قد يراه البعض معبرا بدرجة اكبر عن العقائديات المتشائمة في المقابل من الفلسفات المتفائلة، ورغم ذلك فإنّ الأخيرة هي الأقل حظا وذيوعا وعمقا في آن معا. وفي كلّ الأحوال فإن أحدا لا ينكر حقيقة أنّ التقدم التقني الهائل ييسر رفاه الإنسان من الناحية المادية، لكنه - وفي الوقت نفسه - يشكل عاملَ ضغط مستمر على قيمه وحياته الروحية لدرجة أنّ منظومة عادات الهِمّةِ والدَأب والنشاط فسدتْ برمتها إزاءَ هذا الضغط المتنامي والمستمر. فالآلات - إذ تلبي احتياجاتنا تلبية إجمالية رتيبة - تقتل في الوقت نفسه إمكانات الإنسان الإبداعية، وتفرض علينا أن نعيش متماثلين بحيث لا يتميز إنسان على آخر بأصالة أو إبداع، فضلا عن أنها تقيدنا من حيث تزعم أنها تنْهَض في خدمتنا على الدوام! ولعل ذلك الأمر هو ما دفع توماس كارليل إلى القول: إنّ المعامل قد حلت محل المعابد، وإنه لتجاوز هذا الأمر لا بد أن ننزل إلى قرارة أنفسنا ونبحث فيها عن سؤر من الروح، وبانتظار ذلك لا نستطيع أن نفعل أي شيء على الإطلاق! ومن هنا تزداد وتيرة الجدل الدائر حاليا حول غاية العلم وقيمته من زاوية الخير والشر، زاوية الأخلاق. فما من شك أنّ علماء الكيمياء العضوية كانوا يهدفون باكتشافاتهم إلى النفع الذي سيجنيه الناس في حقل الطعام والغذاء والدواء؛ غير أنّ المعامل الكيميائية ذاتها هي التي أنتجت الغازات السامة الفتاكة، وهي التي تهددنا بحرب الجراثيم. ومن ثم يبرز التساؤل الأكبر: هل يكون في الرجوع إلى القيم الروحية التي تحملها العقائد الدينية مخرجا من أزمة العلم الحديث والمعاصر؟ وكيف يمكن لهذه المنظومة القيمية أن تعيد للإنسان توازنه المفقود قبل أن يأتي على كل إبداعات البشرية بضغطة زر واحدة؟ علينا - قبل أن نجيب عن هذه التساؤلات - أن نؤكد أولا أنّ العلم سلاح ذو حدين: فالتفجير بالديناميت والتفجير بالذرة كلاهما يصلح للخير والشر. ومن هنا نفهم كيف بنى الاتجاه اللاهوتي البروتستانتي في القرن التاسع عشر، خاصة لدى ألبرت ريتشل، دعوته اللاهوتية على أسس فلسفية بهدف حماية الدين من هجمات العلم، وذلك تحت شعار «الدين للقيم والعلم للظواهر والحقائق» وإن كانت نظرته هذه قاصرة لأن القيم متوشجة في صميم كل ممارسة وفاعلية إنسانية. يترتب على ما سبق نتيجة مهمة مفادها: أنّ مشكلة الحضارة الغربية تكمن في مشكلة «المدنية» بالذات، أي أنها مشكلة «السبب» لا «النتيجة»، مشكلة «الغاية» لا «الوسيلة»، مشكلة «الإنسان» لا «المادة»، مشكلة «الإرادة الفاعلة»، مشكلة «المسؤولية والاختيار». وبالتالي فإنه لا مناص من أن يتحول الإنسان من إنسان «الغريزة والطبيعة» إلى إنسان «المدنية والأخلاق» خاصة أن مشكلته الأساسية هي مشكلة «الحرية»: حرية الإنسان في أن يفعل أو لا يفعل، وهي مشكلة «أخلاقية» بالدرجة الأولى. على أن تحديد موضع المشكلة يعد بمثابة نصف العلاج وليس العلاج كله، خاصة أن ذلك يدخلنا مباشرة في أتون صراع وجدال من نوع آخر تماما يتمحور حول القيمة الأخلاقية بحد ذاتها: وما إذا كانت مطلقة أم نسبية؟.. إلخ وفي المحصلة؛ يمكننا القول بأنّ القيمة إنسانية بطبيعتها، بمعنى أنّ الإنسان هو الذي يخلع القيمة على الأشياء وأنها تنبع من الذات وتصدر عنها لا من شيء خارجيّ يتسم بطابع إكراهيّ وهو ما عبر عنه المولى سبحانه حين قال: «لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرّشْد مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفرْ بِالطَّاغوتِ وَيؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعرْوَةِ الْوثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيم». وبذلك يترتب على تقرير هذا المبدأ أمران رئيسيان أولهما: أنّ القيمة تتدرج في وضوحها وقوتها وسلطان هدايتها بمقدار ما يشعر المرء بذاته. ثانيهما: أنّ الوعي بالقيمة شرط أساسي في تطور الأخلاق وتهذيب المجتمع.

* كاتب مصري