اليمين الديني.. لماذا العودة إلى حديث هرمجدون؟

إميل أمين

TT

ضمن ثلاثية فكرية مثيرة للجدل سبق أن تعرضنا في مقال سابق لأولى قراءاتها، تلك المتصلة بحديث هيكل سليمان ومحاولات هدم المسجد الأقصى، يأتي الحديث هذه المرة عن موقعة أو معركة هرمجدون، التي هي خليط من الديني والسياسي، خليط يمكن أن يشعل منطقة الشرق الأوسط على نحو خاص، سيما أن هناك من يسعى بالفعل لتحقيق هذه المعركة عن وعي لا عن مصادفة.

لماذا الحديث عن هذه القضية الملتبسة من جديد هذه الأيام؟

مما لا شك فيه أن حالة الفوران والثورات التي تشهدها المنطقة لا تصب ولن تصب بحال من الأحوال في صالح الحضور الإسرائيلي في الشرق الأوسط، ولا نغالي إن قلنا إن تصوير إسرائيل للشرق الأوسط الجديد القادم بـ«الإسلاموي»، كان كفيلا بأن يعيد حديث هرمجدون عند أنصار اليمين الأصولي الديني في الغرب بعمومه، وفي الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص مع ارتباط هذا الملف بإسرائيل كدولة وباليهود كأصحاب ديانة، مع ما للأمر من تبعات على سكان المنطقة.

ما هي موقعة هرمجدون؟ وما خطورة محاولة ترجمة قراءتها على أرض الواقع؟ وهل هي شأن كارثي يمكن أن يقودنا إلى حرب عالمية نووية غير مسبوقة؟

جغرافيا توجد منطقة هرمجدون إلى الغرب من نهر الأردن بين الجليل والسامرة في سهل يزرعيل. وكان أن وقف فيها نابليون بونابرت أثناء حملته على الشرق الأوسط قائلا: «إن هذا المكان سيكون مسرحا لأعظم معركة في العالم».

كانت مجدو في العصور الغابرة مدينة على درجة كبيرة من الأهمية. إذ كانت تقع على مفترق استراتيجي عسكري، كما كانت ممرا للقوافل، كما أن الطريق الساحلي الذي يربط مصر بدمشق وبالشرق كان يمر عبر وادي مجدو.

والأصل في علاقة هرمجدون أنها تخص تجمع اليهود في فلسطين، ذلك أنه دون أن يجتمعوا في المدينة المقدسة «أورشليم» بحسب المفهوم الروحاني لهم، لن يكون للمعركة غرض أو هدف، لأن الهدف الرئيسي لها - كما يتقولون - هو الهجوم على اليهود في القدس وجميع بقاع إسرائيل، وهو مسوغ لا يقبل التشكيك فيه عندهم للعمل على توطين القدر الأكبر منهم قبل يوم المعركة الأعظم.

والشاهد أن كثيرين قد وصفوا شكل هذه المعركة ومنهم القس اليميني هال لندسي، في كتابه «الراحل كوكب الأرض» ولندسي من الإنجيليين المتجددين فقال: «بأنها ستبدأ بما يشبه المحرقة عندما يغزو العرب والروس دولة إسرائيل» ويضيف: «تأملوا مائتي مليون من البشر في الشرق وملايين أخرى من البشر في الغرب، يأتون للهجوم على من تبقى من بني إسرائيل».

أما الذين سيبقون من اليهود بعد هجوم العرب والروس عليهم فلا يتجاوز أل 144 ألف يهودي.. هل من خلفيات نبوية تستند إليها هذه الرؤية الخاصة بتلك الحرب؟

يستند اليمين الديني الداعم لفكرة هرمجدون إلى القراءة الواردة في الإصحاح السادس عشر من رؤيا يوحنا اللاهوتي وتحديدا بداية من العدد 13 حتى نهاية الإصحاح وفيه يقول: «وسكب الملاك السادس كأسه على نهر الفرات الكبير فجف ماؤه ليصير ممرا للملوك القادمين من الشرق، وعند هذا رأيت ثلاثة أرواح نجسة تشبه الضفادع، تخرج من فم التنين، ومن فم الوحش، ومن فم النبي الدجال، وهي أرواح شيطانية قادرة على صنع المعجزات، تذهب إلى ملوك الأرض جميعا وتجمعهم للحرب في ذلك اليوم العظيم، يوم الله الأقدر على كل شيء. ها أنا آت كما يأتي اللص. طوبى لمن يكون بانتظاري ساهرا وحارسا لثيابه لئلا يمشي عريانا فيرى الناس عورته. وجمعت الأرواح الشيطانية جيوش العالم كلها في مكان يسمى بالعبرية هرمجدون».

وفي موضع آخر من نبوءة زكريا في العهد القديم نقرأ «يقول الرب فيفنى ثلثا شعب أرضي ويبقى ثلثهم حيا فقط، فأجيز هذا الثلث في النار لأنقيه تنقية الفضة، وأمحصه كما يمحص الذهب».

وإذا كان عدد اليهود في العالم اليوم ثلاثة عشر مليونا ونصف المليون، فإن فهم نبوءة زكريا على إطلاقها يعني أن 9 ملايين يهودي سوف يقتلون في هذه المعركة أكثر من كل اليهود الذين قتلوا من قبل في جميع المعارك التي خاضوها مما يجعل الدم يسيل، بحيث يشبه الخمر المعصور، وعلى مساحة 200 ميل سوف يصل إلى «ألجمة الخيل».

ومعنى أن ثلث اليهود سيبقى، هو خلاصهم من أعدائهم الذين أحاطوا بهم، كما أن نصرة إسرائيل على ملوك الشرق، ستكون بذراع رفيعة من إله إسرائيل على ملوك الشرق. وهو نفس المصطلح الذي استخدم في خروج بني إسرائيل من مصر.. فهل يعني ذلك أن الاستعدادات الجارية على قدم وساق من قبل إسرائيل للحرب القادمة هي إرهاصات لمعركة هرمجدون القادمة؟

ولعل من يقرأ ما كتبه القطب اليميني الأميركي الراحل «القس جيري فالويل» عن تلك الموقعة يمكنه أن يدرك مقدار الهول الآتي - حال أتى فعلا أو خطط له على ذلك النحو - إذ يبدأ سيناريو هذه المعركة بانتقال «المسيخ الدجال» ضد المسيح، وإن لم يقل لنا انتقاله من أين إلى الشرق الأوسط ويرفع تمثاله في قدس الأقداس، وهذا مكان في هيكل سليمان القديم والسيناريو يفترض إعادة بناء الهيكل من جديد كما سبق وأشرنا في مقال سابق، ثم يأمر العالم كله أن يعبده كإله وليس غيره. وفي هذا الوقت - وقت معركة هرمجدون - سيذبح الملايين من اليهود الأتقياء وستنجو قلة منهم.. ويضيف «سيحتشد الملايين في منطقة هرمجدون، وسينصب غضب الله الشديد كمعصرة خمر، سيجف نهر الفرات، وسيتم تدمير القدس، وستنهش صقور السماء لحم الملوك والقادة ولحم الرجال الأشداء ولحم الخيول وجميع الناس صغارا أو كبارا، عبيدا أو أحرارا».

وغني عن البيان أن الإعداد لمعركة بهذا الشكل إنما هو إعداد ولا شك لحرب عالمية، لكن هذه المرة سببها ديني روحي وليس نزاعا آيديولوجيا بين معسكرين كالرأسمالية والشيوعية، ويبقى البعد الديني هو الأوفر حظا.

ولعل المبررات للإعداد لهذه المعركة تأخذ الوازع والطابع الديني الخلاق من وجهة النظر اليمينية لكنها في فحواها مغالطات للمعنى والمبنى الحقيقي للمسيحية، وهو ما سنتعرض له لاحقا، لكن ما نود قوله هو أن إسرائيل تأخذ من هذه الرؤية ستارا واقيا ودرعا لحمايتها وتأصيل وجودها واستمرار احتلالها للأرض المقدسة في فلسطين.

وفي طريقه لتهيئة الرأي العام الأميركي لمثل هذه المعركة غير العادية وشبه النهائية في التاريخ الإنساني وجدنا الواعظ الأميركي الأشهر «بيلي غراهام» يخبر بالقول «إن المعركة الرهيبة التي ستتجمع فيها كل جيوش العالم، معها ستصبح عاصفة الصحراء كلعبة الأطفال أمام الرعب المتوقع، وفي الألف سنة الحرفية يعد وجود إسرائيل في مواجهة الأمم أمرا حتميا ومواجهة لا بد من حدوثها شئنا أم أبينا، وهذا يؤكد أننا نقترب اليوم من بداية هذا الملك، ذلك أنه طالما بقيت حكومات على الأرض وساد ملوك فإن الشر هو الذي سيسمح بقرب ساعة الخلاص والمواجهة، أي إنه نفس المنهج الذي حذر منه البعض من قبل (فلنرتكب السيئات لكي تأتينا الحسنات) فحتى لو كان تجمع اليهود على حساب ساكني الأرض الأصليين فلا يهم في شيء لأن الغرض الأسمى هو تهيئة المسرح للملكوت».

وفي واقع الأمر فإن الحديث عن معركة هرمجدون لا يستقيم دون التطرق إلى قصة يأجوج ومأجوج بحسب المفهوم التوراتي، إذ نقرأ في سفر حزقيال، أحد أنبياء بني إسرائيل في العهد القديم، نبوءات كثيرة تتعلق بشعوب تلك الأرض والتي يجمع الباحثون من مفسري التوراة أنها أرض الاتحاد السوفياتي سابقا، ومنها ما ورد في الإصحاح الثامن والثلاثين من العدد الأول إلى الرابع «وكان إلى كلام الرب يهوه قائلا يا ابن آدم اجعل وجهك على يأجوج أرض مأجوج رئيس روش ماشك وتوبال وتنبأ عليه، وقل هكذا قال السيد الرب، هاأنذا عليك ياجوج رئيس روش ماشك وتوبتال وأرجعك وأضع شكائم في فكيك في ذلك اليوم عند سكنى شعب إسرائيل فلا تعلم.. وتأتي من موضعك من أقاصي الشمال أنت وشعوب كثيرة معك كلهم راكبون خيلا جماعة عظيمة وجيش كثير تصعد على شعبي إسرائيل كسحابة تغشى الأرض في الأيام الأخيرة».

ويصف أحدهم ما سيحدث لجيش الأمم القادم من أقاصي الشمال تحت قيادة يأجوج من أرض مأجوج فيقول «إن سكان مدن إسرائيل سيظلون يجمعون السلاح والعتاد ويوقدون به النار سبع سنين وينهبون الذين نهبوهم ويسلبون الذين سلبوهم».

هل معنى ذلك أن الروس سينضمون إلى العرب في قتال إسرائيل؟

هو كذلك بحسب هذا المفهوم والتفسير الأقرب لرؤيا حزقيال، يشير إلى أن روسيا تحتم عليها ربما بفعل ما نسميه «الجبرية الإلهية المنحولة» أن تغزو إسرائيل للتكفير عن خطيئتهم الكبرى، أي الإلحاد والشيوعية سبعة عقود أو يزيد قليلا، مما أغضب الرب وأن غضب الله سوف يدمر خمسة أسداس الشعب الروسي.

لكن كيف ستكون إسرائيل قادرة على أن تطيح بـ «يأجوج»، أي بالشعب الروسي وأن تدمر مأجوج أي الأمة الروسية نفسها؟

تقول غريس هالسل في كتابها «يد الله»، أنها سألت السؤال عينه، فقيل لها «نعم إسرائيل ستكون قادرة على ذلك مع حلفائها، فما إن تبدأ روسيا بالغزو حتى تبادر أميركا وبريطانيا وبقية حلف الناتو إلى نجدة إسرائيل، وأن هناك إشارة في بعض المواضع في التوراة إلى مكان يدعى «شيتيم» وفيه سفن راسية ستساعد اليهود.

وهذا المكان اليوم هو قبرص، ونحن نعرف أن البريطانيين والأميركيين يستخدمونها قاعدة لأساطيلهم، وبذلك يستطيعون بسهولة أن يتحركوا لمساعدة إسرائيل، وليست روسيا وحدها التي ستغزو إسرائيل، بل إن هناك دولا أخرى وكلها دول شمالية ويشمل ذلك أرض «عوفر» ونعرف أن هذه الأرض هي ألمانيا في العصر الحديث، أن هذه كلها سوف تدمر خلال فترة المحنة الكبرى.

أما الفترة التي سوف تستغرقها تلك المعركة فستكون سبع سنوات من العذاب الرهيب إلى حد الاندثار، ثم إن كل المعاناة والدمار هو مجرد بداية ومجرد رفع ستار عن المعركة الأخيرة.

هل نحن في زمن الاستعداد لهرمجدون بالفعل؟ وأن التحركات العسكرية في المنطقة تقودنا إلى فكر قريب من هذه الرؤية الدموية؟

ربما ليس هنا مقام تفصيل الكلام لجهة تفنيد هذه الرؤية من قبل التيارات المسيحية الأصلية والحقيقية وبعيدا عن الرؤى الأبوكريفية المنحولة، سيما أن غالبية شراح المسيحية الثقات يؤكدون على أن كل ما تقدم هو رموز تحققت في التاريخ المسيحي من قبل، والقول بتفسيرها أو محاولة ترجمتها بصورة حرفية هو أمر بشري يستند إلى توجهات إمبريالية لا لاهوتية.. لكن يبقى من الواجب أن يتم التنبه لما يجري على الأرض في الشرق الأوسط في ضوء تنامي الحديث عن المعركة الكبرى الممسوحة بمسحة مسيحانية دينية تلتبس فيها الخيوط وتتداخل الخطوط ما بين اليهودية والمسيحية اللوثرية، إن جاز التعبير، ولهذا حديث آخر.

*كاتب مصري