التطرف الديني والمؤسسة الدينية والعلاقة بالغرب

رضوان السيد

TT

قام القس البروتستانتي الأميركي الذي كان قد هدد بإحراق القرآن الكريم قبل عامين، بذلك بالفعل، وإن يكن بعد عامين. وما لقيت فعلته الاستنكار البارز في الأوساط الغربية، كما كان متوقعا. وقد أرجع المراقبون ذلك إلى انشغال الجميع بالأحداث التي تجري في المنطقة العربية؛ وبخاصة أن الغربيين (الأميركيين والأوروبيين) متدخلون فيها بقوة. بيد أن عددا من الإعلاميين بالولايات المتحدة وأوروبا لفتوا إلى غياب المؤسسة الدينية البروتستانتية الجامعة، والتي كان يمكن أن تلعب دورا في ضبط المتطرفين؛ خصوصا في مسألة حساسة كهذه، تتصل بالنص الديني الأساسي في ديانة كبرى وعالمية هي الإسلام. فالمعروف أن البروتستانتيات (أي الاحتجاجيات) ظهرت في القرنين السادس عشر والسابع عشر بوصفها انشقاقات عن الكنيسة الكاثوليكية الشديدة المركزية. ومع أن هذه الانشقاقات هي الأكبر والأبقى في المسيحية حتى اليوم؛ فإنها لم تكن الأولى في المسيحية الأوروبية. فمنذ القرن الحادي عشر الميلادي، عندما حصل الافتراق بين الكنيسة الأرثوذكسية البيزنطية (بالقسطنطينية والمشرق)، والأخرى الكاثوليكية الغربية (بروما)، توالت أحداث ووقائع التمرد ضد بابوية روما في عقر دارها. لكن روما استطاعت ضربها بالقوة على مدى أكثر من أربعة قرون، بالتعاون مع ملوك القارة وأمرائها، وأنشأت لهذا الغرض محاكم التفتيش التي ذهب ضحيتها مئات الألوف من «الهراطقة» بنظر البابوية. وقد عانى المسلمون بالأندلس معاناة شديدة من محاكم التفتيش هذه بعد سقوط غرناطة عام 1492 على يد «الملوك الكاثوليك» كما كانوا يسمون أنفسهم، وكان اليهود أيضا بين من نالهم الاضطهاد. وفي حين تكرر اعتذار بابوات روما في القرن العشرين من اليهود؛ فإنهم ضنوا بذلك على الإسلام والمسلمين حتى اليوم. والمهم هنا أن انشقاقات القرن السادس عشر، نجحت فيما لم تنجح فيه التمردات السابقة، لأن ملوكا وأمراء في قلب القارة دعموها بسبب مشكلاتهم هم أيضا مع بابا روما. ونجمت عن ذلك حروب دينية طويلة الأمد لأسباب دينية وسياسية، انتهت بمهادنة عام 1648. وترتبت على ذلك هجرة عدة ملايين من أوروبا إلى «الدنيا الجديدة» التي صارت الولايات المتحدة وكندا. والنتيجة الأخرى المهمة لهذه الانشقاقات انكفاء الكنيسة الكاثوليكية عن التدخل في الشأن السياسي لحفظ ما تبقى من وحدتها ومجتمعاتها. بيد أن البروتستانتيات هذه ما أعادت نظم نفسها في كنيسة جامعة، لأن المركزية الشديدة في الكاثوليكية كانت هي السبب الأهم للانشقاق أو الانشقاقات. والمشهد اليوم أن هناك نحو السبعمائة مليون مسيحي في المغارب خارج الكنيسة الكاثوليكية، من بينهم نحو مائة وخمسين مليونا يتوزعون على تسع كنائس كبرى، أما البقية فينتمون إلى مئات الكنائس الصغيرة والمتناثرة. وفي كل عام تقريبا تظهر كنائس جديدة من وراء دعاة ومبشرين. وهذه المجموعات المتناثرة التي باتت معروفة تحت عنوان: الإنجيليين الجدد، نمت وتكاثرت في العقود الثلاثة الأخيرة، فيما بين الولايات المتحدة والصين والهند وأفريقيا، وهي تكسب أنصارا جددا بين المسيحيين وغير المسيحيين، ومنها المجموعة التي يتزعمها القس المتعرض للقرآن الكريم، والتي يقال إن أتباعها وأتباعه لا يزيدون على المائة عدا. ويقال أيضا إن القس المذكور «اكتشف» هذه الوسيلة لزيادة عدد أتباعه، بعد أن قدر أن الخصومة مع المسلمين صارت بضاعة رائجة ومربحة في الغرب في العقود الأخيرة؛ وبخاصة بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، وتفاقم قضايا الهجرة في أوروبا.

إن الذي يهمنا في هذا السياق أمران: مسألة المؤسسة الدينية، ومسألة العلاقات المضطربة بين الغرب والمسلمين. في المسألة الأولى، لدينا نحن المسلمين مشكلة ليست في هول المشكلة التي تعاني منها الكنائس البروتستانتية الكبرى مع الكنائس الصغيرة المتكاثرة، لكنها شديدة التأثير على وحدتنا، وعلى علاقاتنا بالعالم، ومنه العالم أو العوالم المسيحية. إن الشق الأبرز من هذه المشكلة يعود لاختلاف الطبيعة بين المسيحية والإسلام. فالمسيحي (وليس المؤمن) لا يستطيع أن يكون كذلك إلا إذا انتمى إلى كنيسة، لأن المسيحية من ديانات الأسرار، التي لا يطلع عليها أو يمتلكها بحسب اعتقادهم إلا كاهنا من سلطة مؤتمنة على ذاك السر كلا أو بعضا. وبدون تفصيل؛ فإن المسيحية كما تطورت إلى حدود القرن الثالث الميلادي، اقتضت وجود مؤسسة دينية قوية ذات تراتبية صارمة بداخلها، وهي للنفي والاستبعاد أكثر مما هي في الواقع للضم والاستيعاب. وقد كان ذلك دائما عنصر قوة من وجه، وعنصر ضعف من وجه آخر أو وجوه أخرى. والإسلام من جهة أخرى - ولله الحمد - لا أسرار فيه ولا وسائط قدسية. ولذلك ما قامت في اتجاهه الرئيسي (أهل السنة والجماعة) مؤسسة مشابهة، وإنما بقي عالما مفتوحا، برزت فيه مرجعيات عالمة كبرى عبر العصور، انتظمت في مدارس فقهية وكلامية، تجمعها الثوابت العقدية، ولا تفرق بينها الاجتهادات في الفروع. وبسبب طبيعة الدين، والاجتماع المفتوح على الاجتهاد والنقاش والتشاور استنادا لوحدة الأصول، ما عرفنا في الأزمنة الوسيطة انشقاقات تشبه ولو من بعيد ما حصل في المسيحية. إنما ينبغي الاعتراف بأن الأزمنة الحديثة طرحت على جماعتنا تحديات كبرى هددت وحدتنا، وأعفت مؤسسات وجهات التعليم والفتوى، وتشابك في الأمرين الديني والمذهبي والسياسي. وقد حاول علماء المسلمين وجهاتهم الرسمية التصدي للتحديات الجديدة بوسائل شتى ومنها المجامع الفقهية، ولا يزال الأمر مجالا للأخذ والرد. وهناك من يذهب اليوم إلى ضرورة السعي (ومن خلال المجامع) لمواجهة مسألة المرجعية والمؤسسة، والتي ما عاد ممكنا إهمالها أو تجاهلها مع مراعاة الطبيعة المفتوحة للدين الإسلامي. والقضية التي أريد التوصل لنقاشها هي العلاقة أو العلائق المتأزمة مع عالم اليوم. فمنذ نحو القرن تنهض المؤسسات الدينية المسيحية البروتستانتية والكاثوليكية لمحاورة المسلمين، وتارة من خلال أفراد بارزين أو غير بارزين من علماء المسلمين، وطورا من خلال الجهات الرسمية وجهات التعليم والفتوى. وعندما اتسعت الجاليات الإسلامية بالغرب، وتعقدت المسائل واتخذت طابعا شبه ديني، ازداد ظهور الافتقار إلى المرجعية أو المرجعيات التي تعتبر ممثلة للإسلام. وما وجدت هذه المشكلة حلا شافيا لها حتى الآن. فالقس البروتستانتي السيئ الذكر على سبيل المثال، ما وجد من يحاوره أو يتصدى له غير إمام المسجد الذي يراد بناؤه في قلب نيويورك، على مقربة من الـ«غراوند زيرو» حيث مركز التجارة العالمي الذي تدمر في هجوم «القاعدة» عليه. وقد قرأت قبل مدة الجزأين اللذين أصدرتهما الجامعة اليسوعية ببيروت عن بيانات وتوصيات الحوار المسيحي/ الإسلامي فيما بين العامين 1954 و2004؛ فوجدت أن الجهات المسيحية التي شاركت في الحوارات أو استضافتها لا يزيد عددها على الثلاث أو الأربع طوال نحو الخمسين عاما؛ بينما تعدد الأفراد وتعددت الجهات من الجانب الإسلامي، بحيث تكاد تستعصي على الحصر. وربما كان ذلك مقصودا في الاستراتيجيات التي وضعوها، إنما من الجهة الأخرى، هناك ضياع شبه كامل لعدم وجود الخطط أو المقاصد أو الأولويات المعروفة. فبالإضافة إلى وجود الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية المتخصصة لديهم بتتبع المسلمين وأحوالهم وقضاياهم واهتماماتهم، هناك الانتماء الكبير الذي يجمعهم، والذي يظهر في خطاباتهم وللجهتين: المسيحية، والغرب المتقدم. والطريف أو المفارق أن الفاتيكان بالذات، والذي يستميت في الدفاع اليوم عن الغرب وقيمه (المسيحية)، هو الذي صارع من الداخل طوال ثلاثة قرون إنكارا على الغرب العلماني المغادر للمسيحية وقيمها كما يفهمها الفاتيكان وتفهمها كاثوليكيته الشديدة التمركز. يقول البابا الحالي إن لأوروبا هوية مسيحية ثابتة خرج عليها البروتستانت، وخرج عليها العلمانيون الملحدون، ثم يطالب المسلمين بالاعتناق المشترك لقيم الحداثة الغربية في الحريات الدينية وحقوق الإنسان، والفصل بين الدين والدولة في بلدانهم! وما أقصده أن المسلمين يعانون اليوم معاناة شديدة في حرياتهم الدينية في ذاك الغرب بالذات، إضافة لمعاناتهم المرعبة مع هيمنته على العالم، وهم جزء من ذاك العالم المهيمن عليه، سواء في الجوانب السياسية والاقتصادية، أو في الجوانب القيمية العامة. ولا شك أن نموذج القس البروتستانتي نافر من كل وجه. بيد أن السنوات الأخيرة بالذات، وفي أوروبا على الخصوص، شهدت أحداثا وقوانين غريبة، تتناول المسلمين بالذات، لا تقل سلبية عما حصل مع القس، وما لقيت من الاستنكار ما تستحق، لأن البرلمانات صوتت عليها، والاستفتاءات والبرلمانات وافقت على إخضاع المسلمين على الخصوص لها.

هناك إذن مشكلات ضخمة في العلائق بالغرب، وبالمسيحيات التي تسود فيه. وهناك من جهة المسلمين أفعال وردود أفعال لا تتلاءم مع تلك التحديات. بيد أن الأبرز يبقى غياب المراجعات واجتراح الرؤى الجديدة بالفعل، باعتبار أن هذا الحدث يأكله غدا حدث أفظع منه:

تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد