الدلالات الروحية لقيمة الإيمان

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

أكد القرآن الكريم، في غير موضع من آياته، على قيمة الإيمان بالله وما لها من آثار نفسية كبرى في حياة الفرد والمجتمع، يأتي في مقدمتها: بث الشعور بالسكينة والراحة والاطمئنان. فأصل السكينة الطمأنينة والوقار، والسكون الذي ينزله الله في قلب عبده، عند اضطرابه من شدة المخاوف، فلا ينزعج لما يرد عليه، ويوجب له زيادة الإيمان، وقوة اليقين والثبات.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى «السكينة» في القرآن في ستة مواضع، كلها تفيد معنى الطمأنينة؛ أولها قوله تعالى: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ». ثانيها قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ». ثالثها قوله عز وجل: «إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا».

رابع المواضع قوله سبحانه: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ». أما خامسها فقوله: «لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا». آخر المواضع قوله سبحانه: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا».

ففي السكينة حياة القلب ونوره معا، وفيها ما فيها من الثبات في الإرادة والعزم على الطاعة، ولعل ذلك هو معنى الزيادة في الإيمان المقصودة في قوله تعالى: «لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ». ومن ثمراتها المعروفة: حصول الخشية والوقار. ويكفي أن القلب المؤمن المطمئن إلى ربه لا تصيبه الهموم ولا تركبه الوساوس المتعلقة بالرزق، فهو مطمئن إلى وعده تعالى: «إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا»، وقوله أيضا: «وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ». فالسكينة نعمة، والطمأنينة رخاء يخيب من لا يدركهما في الدنيا والآخرة، مصداقا لقوله تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ».

يقول صاحب الضلال (سيد قطب) في تعليقه على هذه الآية: إنها تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به. وتصور حالها مع الله. حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة، والإشراق والاستنارة. كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها، وعتمتها وظلامها. ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره، ليس قطعا كالقاسية قلوبهم من ذكر الله. وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء.

ففي مقابل الانشراح هنا، ثمة الضيق هناك: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ». فأكثر الناس بلاء من أظلم عليه قلبه، والتبس عليه أمره، وخفي عليه قدر مولاه، فإذا به يتردد في أمره، لفقدان نور الهداية عن قلبه، وطلب النجاة من غير وجهه.

ولا شك أن لعلم الإنسان بوجود الآخرة والحساب الأثر الأكبر في تحديد سلوكه في الحياة. ومن هنا نفهم خطاب القرآن لجميع الناس على اختلاف طبقاتهم: فمنهم من يحركه الخوف من سوء المصير، ومنهم من يبتغون من وراء عباداتهم رضوان المولى القدير: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ»، «لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا»، «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا»، أي اصبر على من صبر علينا بنفسه وقلبه وروحه؛ وهم الذين لا يفارقون محل الاختصاص من الحضرة بكرة وعشيا، فحق لمن لم يفارق حضرتنا أن تصبر عليه ولا تفارقه أبدا.

ومن ثم؛ فليس من المعقول أن يتساوى سلوك الإنسان في حال اعتقاده أن ثمة جزاء على ما كسبت يداه في الحياة الدنيا، وسلوك من يعتقد بأن ليس وراء الموت من حياة وأن الأمر يسير على نحو ما قال الدهريون من قبل: «ماهي إلا أرحام تدفع وأرض تبلع وما يهلكنا إلا الدهر»!! ولذلك؛ فإن فكرة رعاية الآخرة والاستعداد للحساب يوم الجزاء عادة ما تقترن في القرآن بأمر أو نهي إلهي: أي مع كل حكم من أحكام الشريعة وكل توجيه أخلاقي. ومن ذلك قوله تعالى في نهاية آيات الميراث: «تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ».

ولا أدل على ذلك الارتباط أيضا مما ورد في سياق تحذيره عز وجل من كنز الأموال، حين قال: «وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ».

يتحصل مما سبق إذن أن الإيمان بالآخرة ومسؤولية الإنسان العظمى أمام خالقه يكون في أعماق النفس دافعا قويا إلى فعل الخير والامتناع عن الشر. ولذلك جاءت صنوف العبادة كلها مرتبطة بفعل الخير والعمل الصالح في كثير من آيات الذكر الحكيم، كقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

ومثل هذا الشعور النفسي القوي يكون ضامنا لاتباع وتنفيذ قواعد الأخلاق والتشريع أكثر من الجزاءات الدنيوية وقواعد الزجر والعقاب المتعارف عليها في دنيا الإنسان. ولذلك الأمر من الشواهد ما يفوق الحصر لو فهم المسلمون دينهم فهما صحيحا والتزموا بمراقبة أنفسهم وأحوالهم مع الله عز وجل. ولتقريب هذه المسألة من الأذهان سنضرب لها بمثل بسيط: فلو افترضنا أن المسلم المعاصر يفهم تعاليم دينه الحنيف جيدا، هل سيرضى هذا المسلم ببيع صوته الانتخابي لمن يدفع أكثر؟ هل سيدافع – لو كان محاميا - عن القتلة والفاسدين ومصاصي دماء الشعوب المسلمة وتجار المخدرات الآثمين؟!، أم يعتبر ذلك كله ضربا من «خيانة الله ورسوله»؟ وهل سيرضى - لو كان تاجرا - أن يغش الناس في بيعه وشرائه، مع علمه بحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام: «التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء»؟! وفي مجال العمل، هل كان ليعمل فقط بنية الحصول على شكر رئيس أو ترقبا لترقية أو مكافأة من المدير؟ أم أن إخلاصه في العمل ينبع أساسا من التزامه بتعاليم إسلامه الذي يحرم الغش والإهمال ويأمر: «إن الله تعالى يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه»؟! يترتب على ما سبق إذن أن للإيمان العديد من الثمرات الإيجابية في حياة الإنسانية: أفرادا، وجماعات.

فعلى المستوى الفردي ينتج الإيمان قوة قاهرة غالبة تتخطى كل الصعاب، خاصة أن المؤمن يعلم أن قدرة الله سبحانه لا يعجزها شيء في الأرض ولا في السماء: «إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ». أضف إلى ذلك أيضا ما يتيحه الإيمان من شعور الإنسان بالغبطة والسعادة واللذة، وهو ما عبر عنه أحد السالكين بالقول: «نحن في لذة لو علمها ملوك الأرض لنازعونا عليها بالسلاح»! خاصة أن هذه السعادة تكون مشروطة ومقترنة بالإحساس بالعزة، لأن المؤمن يعلم جيدا موقعه في الوجود وأنه مطلوب ومرغوب من قبل المولى عز وجل في الوقت نفسه الذي يدرك فيه مدى افتقاره واحتياجه لخالقه!.. على نحو ما سنفصل القول فيه لاحقا.

* كاتب مصري