قضايا الإسلام والحداثة ومشكلات العصر

رضوان السيد

TT

صارت عناوين مثل الإسلام والعصر أو الإسلام والحداثة، معروفة منذ الستينات من القرن العشرين المنقضي. وهي عندما تطلق يقصد منها أحد معنيين: مشكلات المسلمين المحدثين مع الحداثة الغربية، وكيف يمكن مواجهتها من وجهة نظر الغربيين وأنصار الحداثة العصرانية في العالم الإسلامي - أو يكون الكتاب أو المقال مكتوبا من جانب أحد المفكرين المسلمين لإيضاح موقفهم استنادا إلى أصول الإسلام ومبادئه، من مشكلات ومقولات حداثية أو عصرية تواجههم في الأزمنة الحاضرة. وما أتحدث عنه في هذه المقالة كتاب صدر قبل عدة أشهر بعنوان: «الإسلام والحداثة، هل هو الانسحاب الثاني من مواجهة العصر» وقد قدم للبحوث المنشورة فيه الدكتور محمد حلمي عبد الوهاب، ونشره «منبر الحرية» في الدار الأهلية بمصر عام 2010. والحقيقة أن الكتاب - والبحوث المنشورة فيه - ليس من أحد النوعين الأول أو الثاني؛ بل هو إذا صح التعبير كتاب يضم دراسات تبحث سائر الأمور، باعتبارها إشكاليات، وليست قضايا مواجهة أو مسائل تتضاد بين الأبيض والأسود. وبسبب متغيرات الظروف التي تمر بها أمتنا، وجدت أنه من المفيد استعراض بحوث الكتاب وقراءتها قراءة نقدية، لتجديد طرح المسائل من وجهات نظر جديدة أو متمايزة.

ينقسم الكتاب في قسمين أو محورين، الأول بعنوان: جدل العلمنة والأسلمة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة. وهو يتضمن ثلاثة بحوث: دور العلمانية في المجتمعات العربية المعاصرة، التعاطي والممانعة (مأمون كيوان)، والرأسمالية الإسلامية، الإسلام والسوق الحرة (مصطفى أكيول)، وصراع الحضارات، سوء تفاهم بين الإسلام والغرب (منعم سري). والثاني بعنوان: الإسلام والديمقراطية: أين يكمن الخلل؟ وترد فيه بحوث ثلاثة أيضا: حول العجز الديمقراطي في العالم الإسلامي (سوكيدي موليادي)، وهل لا يزال الفقه السياسي مناسبا (لطفي الشوكاني)، ودور الاتصالات والمعلوميات في التحول الديمقراطي في العالم الإسلامي (مارسودي كيسورو). في المبحث الأول من الباب الأول يدرس مأمون كيوان تعريفات العلمنة، ويقسمها إلى جزئية وشاملة. وهي تعني في بعض التعريفات استبعاد الدين من المجال العام، وفي تعريفات أخرى تعني تحييد الدين في المجال السياسي وربما الاقتصادي. وهو يرى أن الدعوة العلمانية دخلت إلى العالم العربي بالصيغتين الفرنسية والبريطانية في الوقت نفسه عشية الحرب الأولى. وقد كانت عنيفة واستبعادية في الصيغة الفرنسية، ومعتدلة وعملية وجزئية بالصيغة البريطانية. وفيما عدا تركيا؛ فإن الصيغة البريطانية انتصرت وبخاصة في العالم العربي. لكن الصيغة الفرنسية ظلت بارزة في الجانب الثقافي، حيث تبنتها النخب واستمرت في الدعوة إليها ونصرتها إبان صعود اليسار الماركسي فيما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي. وهناك سبب عربي خاص لذلك، وهو يتمثل في الصدام بين الأنظمة الثورية العربية، وحركات الإسلام السياسي المتصاعدة النفوذ، فسارعت النخب الثقافية إلى الوقوف مع راديكاليي الثوريين من الحكام. وكان الدكتور الجابري قد ذهب في التسعينات من القرن الماضي إلى أن كلا الطرفين تغير وتبدل، فلا داعي للاستمرار في نصرة العلمانية أو معارضتها. أما كاتب المقال (مأمون كيوان) فلا يزال على تمسكه بالعلمانية التي تعني تحييد الدين في المجال السياسي. ويرى منعم سري في مبحثه عن «صراع الحضارات» أن سوء التفاهم في هذه المسألة متبادل، وإن تحمل اليمين الغربي المسؤولية الأولى عنه. فقد بدأ الحديث عن الخطر الأخضر (أي الإسلام لجهتي التكاثر والعنف) في الثمانينات بعد تضاؤل الخطر الشيوعي، ثم تطور الأمر إلى نظرية في «صراع الحضارات» ظهر فيها الإسلام وحضارته في مواجهة الحضارة الغربية. وأجاب المسلمون على ذلك بالشدة نفسها، رغم أن الحضارات لا تتآلف ولا تتصارع بل يستمد بعضها من بعض في المديات الطويلة، وإنما تتصارع الدول والأمم. وقد جرت الحروب الكبرى داخل الأمة الواحدة والدين الواحد والحضارة الواحدة، كما هو شأن الحروب في القرن العشرين. على أن الأحداث التي تبنتها «القاعدة» أو ثبت قيامها بها بعد العام 1998، شجعت هذا الاعتقاد أو هذه النظرة في أوساط الرأي العام بالغرب، كما في أوساط بعض المراقبين وذوي النظرة الاستراتيجية. والذي أراه أن الوقائع الجارية في العالم العربي اليوم تثبت أن عالم اليوم فيه حضارة واحدة، وهناك خصوصيات بالطبع؛ لكن هناك أيضا قيم عالمية مشتركة إنسانية وأخلاقية وسياسية، والمسلمون جزء منها. فالجدل لا ينفع، وإنما الذي ينفع هذه التطورات الحاصلة، والتي توشك أن تغير النظرات وبالتالي التعبيرات.

والواقع أن المبحث الثالث في القسم الأول يستحق انتباها أكبر. فالكاتب مصطفى أكيول باحث معروف، والموضوع بشأن الإسلام واقتصاديات السوق مطروح بقوة. وقد كانت المشكلة دائما في الرؤى الشاملة والتي تستبق البحث والتنقيب. ففي الخمسينات قال برنارد لويس إن الإسلام أميل للتوتاليتارية. وفي أواسط الستينات قال الماركسي ماكسيم رودنسون إنه أميل للرأسمالية وحرية السوق والديمقراطية! وقد كانت وجهة نظر المفكرين الإسلاميين (منذ سيد قطب في كتابه: معركة الإسلام والرأسمالية، 1951) أن الإسلام يمتلك نظامه الاقتصادي الخاص، الذي هو أقرب في بعض تطبيقاته (بل وقواعده) إلى الاشتراكية. ويلاحظ مصطفى أكيول أن العالم الإسلامي يشهد تطورات متسارعة لجهة نمو وصعود طبقة رجال الأعمال، وكثير منهم شديد التشبث بالدين وأخلاقياته. ولذلك يطرح فكرة الكالفينية الأخلاقية أو «أخلاق العمل» في البروتستانتية المتشددة، والتي رأى ماكس فيبر (1864-1920) أنها كانت في أصل سرعة التطور الرأسمالي في بعض نواحي أوروبا وأميركا البروتستانتية. ويريد أكيول أن يرى ظاهرة مشابهة في أخلاقيات العمل في الإسلام؛ وبخاصة لدى الحنابلة. ثم إن الإسلام يقر ممارسة الربح في التجارة، ويقول الفقهاء بحرية التعاقد، ويقف بعضهم ضد تسعير السلع باستثناء زمن القحط والأزمات. وكنت قد قرأت قبل ثلاثة أشهر كتابا لولي نصر الباحث الأميركي من أصل إيراني (ابن أستاذ الإسلاميات المعروف سيد حسين نصر)، عنوانه: صعود قوى الثروة في العالم الإسلامي. وهو يعتبر أن الرأسمالية في العالم الإسلامي، وفي سائر بلدانه بآسيا وأفريقيا تقودها الطبقة الوسطى المتوسعة والتي علمت أولادها وتعولمت. وهو يراهن على أن تكون هذه الطبقة (التي يرى الغربيون أنها عماد مجتمعاتهم المدنية) هي التي سوف تغير مصائر المسلمين في العقدين القادمين. والطريف أن المبحث الثالث في قسم الكتاب الثاني عن «الاتصالات والمعلوميات» يتلاقى بشكل ما مع هذه المقولة. فالشبان المتعلمون تعليما حديثا والذين يتعاملون مع الأسواق العربية والدولية، يقيمون تواصلا وثيقا فيما بينهم من طريق وسائل الاتصال كالإنترنت و«فيس بوك»، وهم يسعون للتغيير والمشاركة الفعالة، وليست لديهم تحفظات (رغم تدين أكثرهم) على اقتصاديات السوق، ولا على القيم العربية. أما إحساسهم القوي بضرورة العدالة، فإنهم يستمدونه من إسلامهم، ويحاولون تفعيله من طريق نشاطاتهم الحالية في عدة بلدان عربية وإسلامية.

أما مقالة الشاب الإندونيسي سوكيدي موليادي بشأن العجز الديمقراطي في العالم الإسلامي، فهي من مواريث المرحلة السابقة، مرحلة المحافظين الجدد في الفكر الأميركي والسياسة الأميركية. وهي مكتوبة عام 2005/2006، وتبدأ باستشهادات كثيرة من مقالات وكتب لهنتنغتون (الديمقراطية، الموجة الثالثة، 1991) وفؤاد عجمي وبرنارد لويس، كما تذكر إحصائيات يبدو فيها المسلمون متخلفين بمعايير الديمقراطية مجتمعات ودولا، وبخاصة إذا قورنوا بالكاثوليك الذين قادوا الموجة الثالثة تلك. ولا يتردد موليادي في تكرار الآراء القائلة إن المشكلة أو الاستثناء ليسا في المسلمين بل في الإسلام نفسه. حتى إذا بدأ باستعراض آراء المسلمين أنفسهم، يذكر أن العلماء المسلمين يرون تماثلا أو تلاؤما بين القيم الديمقراطية وقيم الشورى والعدالة والمساواة والتسامح. بيد أن ذلك لم يتحول في نظر موليادي إلى ثقافة وإلى واقع. أما لماذا لم يحدث ذلك التحول؛ فالغريب أن موليادي يعلله بآراء للغزالي وابن تيمية في طاعة الحاكم وأنه ظل الله في الأرض. وبعد جهد واستشهادات كثيرة مقبضة، يحمل الكاتب – شأن ما فعله فريد زكريا محرر «نيوزويك» عدة مرات – المسؤولية في ذلك أو عن ذلك للأنظمة، وللولايات المتحدة التي دأبت على دعم تلك الأنظمة، ولضعف المجتمعات المدنية العربية. ثم ما يلبث أن يتنفس من جهة معينة فيلقي كل آماله في التجربة الانتخابية الإندونيسية (1999 - 2004)، ويضع العبء كله في التخلف عن الديمقراطية والعجز وانتشار ثقافات الأصولية على العرب! وكنت قبل اندلاع التحركات الشبابية بتونس ومصر بشهر أو شهرين قد قرأت كتابين عربيين، أحدهما لنادر الفرجاني بعنوان: عتق أمة (دار الآداب ببيروت، 2010)، والآخر صادر لمجموعة من الباحثين عن مركز دراسات الوحدة العربية (2010) وعنوانه: العجز الديمقراطي في الوطن العربي. والكتابان (على تفاوت في بعض الفصول) يضعان المسؤولية كلها على عاتق الأنظمة العربية، وعاتق النظام الدولي! ولست أدري كيف ستكون ردة فعل موليادي وكل الآخرين على مجريات الشهور الثلاثة الماضية، وهل سيعتبرون هذه الظواهر التغييرية خروجا على الإسلام أو على النظام الدولي! وأريد أن أختم مراجعتي لهذا الكتاب اللافت بكلمة عن مبحث لطفي الشوكاني بشأن الفقه السياسي الإسلامي الجديد الذي يقترحه. فهو يذهب إلى أن الفقه السياسي القديم إنما دار بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة. وهو يرى أن فقه الفقهاء السياسي ما عاد ملائما لأنه قائم على الطاعة والجماعة، وفقه المتكلمين غير ملائم لأنه عقائدي، فالأنسب فقه أو فهم الفلاسفة للدولة المثالية (الفاضلة). وهو يرى أن ما استجد من أنظار في الأزمنة الحديثة فيما بين الهند ومصر وإندونيسيا، إنما أتى من ميراث الفلاسفة الإسلاميين، فوسع منظور الفقه السياسي. وهو يذكر بعد عبده والكواكبي وسيد أحمد خان، عدة مفكرين إندونيسيين أهمهم رجل اسمه مناور الشاذلي، يبدو أنه كان ليبراليا راديكاليا. والذي أذهب إليه هناك ليس مناقشة السياسات الإسلامية أو فقه الدولة الجديد الذي يقترحه، والذي ما فهمته جيدا؛ بل نظرته لمدارس التفكير السياسي الإسلامي القديمة، فهي رؤية اختزالية، إنما يبدو أنها منتشرة في أوساط الشباب ذوي الأصول الصوفية، والمثقفين بثقافة غربية، في شرق آسيا الإسلامية.