الإيمان بوصفه قيمة اجتماعية

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

نستكمل اليوم ما ذكرناه في مقال الأسبوع الماضي تحت عنوان «الدلالات الروحية لقيمة الإيمان» من توضيح الآثار الإيجابية للإيمان على مستوى كل من حياة الفرد والمجتمع. ونبدأ أولا بتقرير أن المولى عز وجل - وإن كان غنيا عن عبادة المتعبدين وتهجد المتهجدين - فإنه لا ينفك على الرغم من ذلك يمد يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويمد يده بالنهار ليتوب مسيء الليل. وأنه يفرح بعودة العبد العاصي إلى الإيمان كما تفرح الأم بعودة ولدها، بل إنه يباهي بإخلاص عبده له ملائكته الأبرار ويقول لهم: «انظروا يا ملائكتي، هؤلاء عبادي أتوني شعثا غبرا، أشهدكم أني قد غفرت لهم»! ومن هنا يبدو الاقتران واضحا بين تجذر الإيمان في قلب المسلم وشعوره بعزة الإسلام، فمن كان عزيزا بالله استعصى على الخضوع والإذلال لملوك الأرض مهما قوي سلطانهم، واشتد بأسهم، وجاوز ظلمهم. ليس غريبا إذن، والحال هذا، أن يقف المؤمن في مواجهة شتى أصناف القهر وضروب الظلم كالطود الشامخ، والجبل الراسخ، لا يزعزع إيمانه شيء، ولا ينال من توكله على الله إنسان: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ».

وكما لا يخاف المؤمن طغيان الطغاة واستكبار المستكبرين، لا يقلق المؤمن كذلك على رزقه المكتوب وكسبه المعلوم؛ لأن ذلك كله مرده إلى الله الذي بمقدوره أن يمنح، وبإمكانه أن يمنع، فلا معقب لحكمه في شيء أبدا: إن منع منع لحكمة قدرها، وإن أعطى ومنح فعل ذلك أيضا لحكمة يعلمها. فهل بإمكاننا أن نضع أيدينا اليوم على شعور مماثل بالقناعة والرضا في ظل تنامي صيحات المد الانتحاري، وازدياد موجات القلق والاضطراب في حياة الإنسان المعاصر نتيجة هزات البورصة وتقلبات السوق وتحكم ثقافة الرأسمالية وتتابع الأزمات الاقتصادية مع ما يعقبها من تحولات في مصائر الأفراد، ومآلات الجماعات؟

حقيقة الأمر أن هؤلاء لو أدركوا أن الأمر كله بيد الله - مع ضرورة السعي في الأرض والأخذ بالأسباب - لعلموا أن «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ»، ولعلموا أيضا أنه «ما من قلب إلا وهو معلق بين إصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه، وأن الميزان بيد الرحمن، يرفع أقواما، ويخفض آخرين، إلى يوم القيامة». مع التأكيد أن ذلك كله لا ينفي أننا مدعوون بقوة لاستكناه سر حكمة الخالق، عز وجل، والأخذ بسننها حتى نفيد من الدروس ونتعظ من المحن ونتعلم درس الحضارة الأول الذي بينه سبحانه وتعالى في ثنايا قصص الكتاب: «لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ».

وبذلك يكون المؤمن مستحقا للسيادة والخلافة في الأرض، مصداقا لقوله تعالى: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ»، مع ما يستلزمه ذلك من ضرورة أداء أمانة الاستخلاف بصدق وإخلاص: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ».

هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الاجتماعي فيكفي القول إن الأنماط المختلفة من العبادات الجماعية في الإسلام توفر فرصة كبرى لانتظام الجماعة المؤمنة في صف واحد، وحركة واحدة، وسعي واحد، يضم القدم السوداء إلى جانب القدم البيضاء، ويسوي بين مناكب الجميع من دون تفرقة واضحة أو حتى مضمرة بين الأغنياء والفقراء. ولا شك أن مثل هذا النمط من التجمع التعبدي يعتبر تعبيرا صادقا عن الإيمان برب واحد، مع ما يتضمنه ذلك الإيمان من الاجتماع على محبته، وطاعته، وقد طرح كل واحد منهم أسباب التفاوت الدنيوي وراء ظهره، مستقبلا القبلة الواحدة، ومتوجها لرب واحد.

ففي الصلاة مثلا، نجد تشجيعا وتأكيدا على ضرورة الالتزام بصلاة الجماعة التي توجب الأجر المضاعف وتبز صلاة المفرد. وإذا كان الغني فيهم قد استحق أجرا مضاعفا على تواضعه الذي ضمه إلى صف فيه من هو دونه غنى ومالا، فإن الفقير منهم يستحق الأجر المضاعف على استناده واعتزازه بعزة الله التي كتبها لذاته وللمؤمنين جميعا كما جاء في قوله تعالى: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ». تلك العزة التي جعلت هذا الفقير الضعيف يضم نفسه إلى جوار الأغنياء والعظماء في صف الصلاة وهو معتز بإيمانه بالله، إيمانا جعل الفوارق الطبقية بين الناس تنتهي، وتذوب في حسن العبودية المطلقة للعلي القدير.

والحال، أن الصلاة بمثابة المنظم لحياة المسلم وللحياة الإسلامية كلها، وهي مظهر حياة الإسلام وحيويته، فضلا عن أن كثيرا من أصول التكليف وفروعه تعتبر امتدادا لأصولها، ناهيك عن أن التكليف كله ينسجم مع الصلاة ويتكامل معها، ويعتبر انبثاقا عنها؛ فالصلاة هي محل التركيز الثاني بعد التوحيد في دعوة الرسول الكريم، وهي للقلب البشري وللحياة البشرية دواء وغذاء وارتقاء، كما أن بين الصلاة والتكاليف الأخلاقية تكاملا؛ فهي بما تتضمن من خضوع وخشوع لله تنفي الكبر والعجب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، كما أن بين ستر العورة فيها وسترها خارجها صلة وتكاملا، وبين إعمار المساجد حسا ومعنى، وبين الذكر والعلم وصلاة الجماعة والجمعة صلة وتكاملا كذلك.

ومما يدل على هذا المعنى أن الله، سبحانه وتعالى، إذا أورد تكليفه للمؤمنين بالصلاة أورده إقامة مفروضة ولم يكتفِ بأن يورده أداء مثل الزكاة على سبيل المثال. وعلى ذلك؛ فالصلاة لن تكون ناهية عن الفحشاء والمنكر إلا إذا جعلها المصلي قيمة على سلوكه كله، أي أن تضمن له فاعلية التقويم الدائم والمحاسبة المستمرة لسلوكه وأفعاله مع الناس. أضف إلى ذلك أيضا أن من أبرز ما تتركه العبادة في القلب من آثار: «التحاب في الله بين جماعة المؤمنين»، فقد روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «إن لله خلقا عن يمين العرش بين يدي الله وعن يمين الله، وجوههم أبيض من الثلج وأضوء من الشمس الضاحية. يسأل السائل: ما هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء الذين تحابوا في جلال الله».

ولذلك حرص الإسلام على تأكيد عدم افتراق طريق الدنيا عن طريق الآخرة؛ فالعبادة والعمل، الدين والمعاملة، وجهان لعملة واحدة، وذلك مصداقا لقوله تعالى: «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ».

يتحصل مما سبق أن للصلاة وظيفة اجتماعية تعمل من خلالها على ضبط السلوك الفردي والجماعي وتماسك المسلمين وتضامنهم؛ فهم صف واحد في مسجد واحد خلف إمام واحد، يجتمعون خمس مرات كل يوم وليلة، يتساوون في الوقوف بين يدي الخالق، عز وجل: «كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ»، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، ولا بين قويهم وضعيفهم.

والواقع أن في انصراف هؤلاء جميعا إلى صلاة الجماعة ما يفيد معنى استعلاء الروح واستعلاء المثل العليا على المال والمنصب والجاه والقوة، وفيه أيضا ما يفيد معنى التقاء الناس على اختلاف أحوالهم المالية والاجتماعية على صعيد العبودية لله والمساواة في هذه الصفة؛ فليس التعبد في منهج الإسلام قاصرا ولا مقصورا على الصلاة والذكر فقط، بل إن كل عمل صالح يفعله الإنسان مخلصا فيه امتثالا لأمر ربه وابتغاء لمرضاته هو عبادة يثاب عليها ثواب المتعبدين الخاشعين لله، ولو كان ذلك العمل من مشتهياته وحظوظه، كالأكل والشرب والنوم والنزهة، وسائر الأعمال الحيوية، التي تتطلبها طبيعة الإنسان وله فيها رغبة، وكان في إتيانها كمال لبدنه ونفسه، تصديقا لقول المصطفى، عليه الصلاة والسلام: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».

* كاتب مصري