ياكوبوتشي.. بين أعداء الحوار وأسباب اللاتسامح

إميل أمين

TT

لعلنا في عالمنا العربي، وإن شئت الدقة حول العالم برمته، في حاجة ماسة هذه الأيام إلى إعادة روح التسامح المفقودة، فلم يعد لأحدنا صبر على الآخر، وبات الضيق في الصدور على أشده، وتقلصت مساحة التسامح حتى بين الإخوة في الوطن الواحد.

في هذه الأجواء التي تتصاعد فيها النعرات العنصرية والتفرقة المذهبية وتحتدم الصراعات القبلية والهووية، ربما كانت تلك الكلمات التي أوردها المفكر الإيطالي والسفير المعروف مايكل أنجلو ياكوبوتشي في كتابه القيم والسفر الثمين «أعداء الحوار.. أسباب اللاتسامح ومظاهره»، أفضل الكلمات التي ينبغي علينا قراءتها، لا سيما أنه مثقف موسوعي استقى ثقافته من أسفاره المتعددة التي جعلته شاهد عيان لبعض فصول اللاتسامح حول العالم.

ومن أفضل الكلمات في المقدمة التي كتبها لهذا العمل الأدبي البديع أديب إيطاليا الكبير أمبرتو إيكو هي قوله «إن النضال من أجل خلق سياسة التسامح لا يزال هدفا يجب علينا أن نضعه نصب أعيننا، دون أن نتقيد بكلمات بعينها، فإذا ما أردنا أن نستخدم عبارة (قبول أوجه الاختلاف) بدلا من التسامح فإن ذلك حسن أيضا».

ولكن إذا كان مصطلح تسامح يمكن أن يثير الانتقادات على ما يبدو، فإن الجميع متفقون على معنى اللاتسامح، وهو سلبي بالطبع. فإذا ما ساورنا الشك فإن بعض ألوان وممارسات التسامح يشوبها النفاق وتخفي في طياتها بعض التحفظات الذهنية، فإن اللاتسامح يتسم بالصراحة القاسية.

يؤكد ياكوبوتشي على أن اللاتسامح في أغلب الأحيان عبارة عن سلوك عدواني وعنيف، ولكنه لا يعرف فقط بالعدوانية والعنف، فهو مخالف لذلك وأكثر منه.

كما أن الصدامات التي أدت إلى إراقة دم الإخوة والتي حددت تاريخ الإنسانية كانت تندلع في الغالب بسبب احتياجات موضوعية: الطعام، النساء، ماء البئر، ثم بعد ذلك في أعقاب تعقد التنظيم الاجتماعي أصبحت تندلع لضمان مواقع متميزة في توازن القوى.

واللامتسامح هو إنسان عاجز عن النقاش، يفكر ويتكلم بمفرده دون أي حوار، ويمكن أن يتكلم المرء بمفرده أيضا باستخدام ضمير الجمع فقط عندما يتوجه بالحديث إلى رفاق المعركة.

إذن فمن الأمر المعتاد جدا أن يصل اللاتسامح إلى أكثر أشكاله حدة، ألا وهو التعصب، لأنه يجعلنا نرى الحياة من منظور اختبارات إما.. أو.. ويمكننا القول بالتأكيد إن اللامتسامح وبدرجة أكبر منه المتعصب دائما ما تحركه أحكام تقويمية سلبية أكثر منها أي شيء آخر.

حتى الفكرة العامة القائلة إن اللاتسامح مرجعه الجهل لا تصمد أمام أي تحليل متأن، وفي أغلب الأحوال يرغب اللامتسامح في الجهل، فهو لا يشعر بأي احتياج لتعلم أي شيء ممن لا يفكرون على نفس شاكلته. إنه يعرف أن كل ما يعتقده هذا الآخر، وكل ما يقوله أو يفعله هو خطأ، ولذلك فهو لا يريد حتى أن يسمع أي شيء عنه.

وكثيرا ما يتخطى اللامتسامح حدود المتعصب البسيط، فذلك الأخير لا ينوي أن يتحرك ملليمترا واحدا عن مواقفه، ولكن يمكنه رغم كل شيء الإقرار بشرف بأن للخصم أسبابه لكي يتصرف بمثل هذه الطريقة. أما اللامتسامح فهو لا يرضى بالتزام مواقفه، فالأمر الذي يضغط عليه أكثر من أي شيء آخر هو أن يكون على حق وأن يفرض هذا الحق على كل الآخرين. اللاتسامح إذن يحمل في طياته شحنة انفعالية عالية.

وعلى النقيض من هذه القوة الجائرة قاتمة اللون التي تحدد تصرفاتنا بشكل أكبر مما نريد الاعتراف به (من منا قد يصف نفسه باللامتسامح؟) يبدو لنا التسامح هشا بلا رونق. وكما قيل عنه «فكر ضعيف».

والمؤكد أن البعض يعتقدون أن المتسامح هو إنسان ذو عقلية متفتحة، ومنفتح تجاه الآخر، وللتعبير عن هذا المفهوم يستخدم الأنجلو ساكسون مصطلحا «ليبراليا»، أما البعض الآخر فيرى على النقيض من ذلك أن المتسامح هو إنسان سهل الجانب بدرجة كبيرة يتحمل قدرا كبيرا من الظلم دون أن يتذمر.. أين يقف ياكوبوتشي بين الاثنين؟

يخبرنا أن كلا الرأيين في الحقيقة غير صحيح، لأن التسامح هو بين هذا وذاك، في منطقة بينية رمادية. فهو حل وسط، منزلة بين منزلتين، بين التفهم الكامل والرفض التام، وهو دائم التأرجح بين هذين القطبين. وإنه إذا كان التسامح لا يجب أن يكون تساهلا أو إرضاء للذات، فلا يجب أن يتم أيضا الخلط بينه وبين اللامبالاة، إذا كان قبولنا لشيء ما سببه أنه لا يمسنا من قريب أو بعيد ولا يخلق لنا مشكلات، فلا يمكننا أن نسميه تسامحا. إن من يتسامح يتحمل شيئا ما يسبب له الضيق. يقرر أن يترك الأمور تجري في أعنتها إيثارا للسلام، بيد أنه يتألم نظرا لتأذي مشاعره وإرباك عاداته. وعادة لا يلقى هذا الجانب الاهتمام الذي يستحقه، بيد أنه هو ما يمنح التسامح معناه الحقيقي، فاعليته العلمية، مستثنيا إياه من مملكة اليوتوبيا.

يعتقد الكثيرون ممن يلتبس عليهم الفرق بين التسامح والتضامن أن التسامح إزاء موقف معين يساوي تفهمه وجعله جزءا من الذات. على العكس تماما أن التسامح يصبح له معنى فقط في وجود تناقض عندما تتقابل سلوكيات وطرق تفكير غير متوائمة فيما بينها. من ينجح في امتصاص هذا التناقض والتسامي به ليس به حاجة في التسامح.

أما من يتسامح فهو ينجح فقط وفي منتهى الصعوبة، ولا يكون ذلك بالشكل التام مهما حاول من جهد، في أن يضع نفسه مكان الآخر، وهذه نقطة حرجة. لن نكرر أبدا لمرات كثيرة أن التسامح لا يعني على الإطلاق الاستغناء عن اليقين الشخصي الراسخ، بل فقط الاستغناء عن ترسيخه بوسائل مغايرة لوسائل الإقناع وهو ما يطلق عليه أحد المؤرخين التونسيين وهو محمد طالبي «تحمل رضائي».

والكتاب يدعونا لطرح سؤال جوهري: «ما الذي يهدف إليه التسامح؟».

يهدف التسامح بإيجاز إلى إيجاد الحد الأدنى من التعايش ومن شأنه إصابة محبي أفكار القوة الكبيرة بالحزن، ولكن نظرا لأن الحكمة الدينية تقول «حب لجارك ما تحب لنفسك» ظلت حبرا على ورق، فلنحاول على الأقل أن نتبع أكثر المعايير تواضعا «احترم جارك».

فلننح جانبا إذن أي ادعاء بأننا نحب، أو على الأقل نقبل جارنا الذي يعيش بطريقة مخالفة لطريقتنا أو لقائد يمضي على منهج إداري أو فكري أو سياسي معين، فنتحدث ولنتخذ سلوكا خاليا من النفاق، دون محاولة إخفاء عدم إعجابنا بهؤلاء أو كم هو قليل قدر الاحترام الذي نشعر به تجاه ما يقولون أو يفعلون. الشيء الوحيد المطلوب منا كخطوة أولى هو أن نهجر أي فكرة تدعو إلى إزالة هؤلاء من على وجه البسيطة لكونهم مختلفين.

هل تعتقدون أن هذا بالأمر اليسير جدا؟ يتساءل ياكوبوتشي ورده: فلتحاولوا أن تتخيلوا كم سيختلف العالم لو أننا نجحنا في تطبيق هذه المبادرة على مستوى عالمي بدءا من الغد ولمدة شهر واحد فقط.

إن مثل ذلك المجاز الذي يقلل من شأن التسامح يفيد أيضا في الدفاع عنه من ذلك الاتهام الذي يوجه إليه بانتظام، بأنه نسبي. إن قبول وجود أكثر من حقيقة يعني نفي إمكانية الحقيقة نفسها، والقول إن الجميع على حق يساوي القول إنه ما من أحد على حق. بناء عليه فإن المجتمعات التي تتسم بنزعتها إلى التسامح في المقام الأول تلك القائمة على مبادئ الديمقراطية الليبرالية، والتي تتجه كما هو حالها الآن إلى قبول كافة المعتقدات تخاطر بالوقوع في الركود، وفي فقدان كافة المثل.

إن اليقين عنصر جوهري بالنسبة لنا، تماما مثل الهواء الذي نستنشقه، وهذا أمر محل اتفاق، وتشجب مقولة بريشت الشهيرة «طوبى للشعوب التي ليس بها أبطال»، استغلال القيم المقدسة لخدمة مغامرات حربية مجنونة، ولكن يجب علينا أيضا أن نأخذ في الاعتبار أن الأمم التي لم يعد لديها علم ترفعه عاليا، هي أمم على شفا الانحطاط. ويا لمصيبة الشعوب التي لم يعد لديها شعار خاص بها، التي لم تعد تنظر للأعلى، ولكنها ترضى فقط برغد العيش المادي وإرضاء مصالحها الشخصية الفورية.

وفي هذا الصدد تظهر أهمية التسامح بكل معانيها كمنطقة رمادية اللون، تتخذ فيها كل درجات الاختلاف أهميتها. أن يكون الإنسان متسامحا لا يعني ألا يكون على يقين ما، يعني فقط أن يكون حذرا من اليقين المطلق الأعمى الذي لا يقوم على قاعدة تقنية، يعني التشكك من كل شكل من أشكال الدوجمائية، من كل رفض لواقع المعتقدات الخاصة تحت الاختبار.

إن المتسامح نصير الحوار لديه هو الآخر حقائقه ويقينه. لا ينوي على الإطلاق التشكيك من كل شيء ولكنه يفكر، كما قلنا في البداية إنه لا يمكن الاستغناء عن ذرة الشك، لتجعله أكثر تماسكا في معتقداته وإن هذه المعتقدات يمكن أن يتحقق منها فيما بعد من خلال مواجهتها بأفكار أخرى.

على أن ما نختم به هذه السطور القليلة لكن ذات القيمة الكبيرة فكريا هو العودة إلى التساؤل الإنساني الدائم: «كيف يمكننا أن نكون متأكدين أننا بالفعل في موقف به شر وأنه قد حانت ساعة أن نقول كفى؟».

في ماض ليس بالبعيد كانت هناك شرور نعتبرها اليوم لا يمكن التسامح معها، مثل التعذيب والإبادة الجماعية والرق، كانت مقبولة وكأنها حتمية حتى من قبل السلطات الدينية. أما اليوم فقد جردتنا العقلية العلمانية من ذلك المرشد الروحاني الأكيد الذي كانت تمدنا به النصوص المقدسة.

من الاستفهام السابق تنبع علامات استفهام أخرى كثيرة. هل وجود نية حسنة محتملة لدى من يمارسون الشر يعتبر أم لا يعتبر عاملا مخففا؟ هل يخفف الأمر من حدة جرائم هتلر كونه كان مقتنعا بفعل الخير لشعبه وربما للإنسانية كلها؟

كان تشاوسسكو يود لو وضع شاشة تلفزيون في كل بيت روماني، لأنه كان يقول إنه بمتابعة الحياة الشخصية لمواطنيه حتى في أدق تفاصيلها كان يمكنه أن يفي باحتياجاتهم بشكل أفضل. لو كان هذا الطهر الظاهر قد تم التحقق من صدقه، هل كانت مثل تلك المواضيع سوف تكون ممدوحة ومقبولة؟ هل سيكون بن لادن أقل خطأ لو تم التحقق من أنه يعتقد بصدق أنه ينفذ إرادة الله؟ يبدو أنه يجدر بنا أن نخلص إلى أن الأمر الذي يعتد به ليست النيات بقدر ما هي العواقب العلمية لبعض الأفعال.

والخلاصة أن الحوار في حاجة إلى نفوس متسامحة وإلى أناس تغيب عنهم إشكالية النظر القصير والعقل الأسير، وإلى سيادة جو من التسامح يسمح بالاختلاف في إطار البناء والنمو، لا في سياق الهدم والفناء، فهل من متسامحين بعد في عالمنا ونحن على عتبات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟

* كاتب مصري