قراءة في دراسة عن الإسلام والمسيحية والتعددية

محاضرة لرئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية

TT

من بين الأنشطة والمحاضرات المهمة التي تقدمها جمعية علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا، سلسلة المحاضرات السنوية التي تعقد في ذكرى الشيخ زكي بدوي. وضمن هذه السلسلة المتميزة، قدم الدكتور روان ويليامز رئيس أساقفة الكنيسة الإنجليكانية، محاضرته الأولى القيمة والعميقة حول موضوع «التعددية»، والذي يطرح الآن تحديات ملحة على أهل الديانات كلها على حد سواء.

وقد صدرت حديثا هذه المحاضرة في كتيب من الحجم الصغير عن مكتبة «الشروق» الدولية في القاهرة، من ترجمة الدكتور جاسر عودة، ومراجعة وتحرير الدكتور بسام الساعي. وقد لخصت المقدمة في براعة فائقة فحوى ودلالة هذه المحاضرة المهمة.

في تحليله الدقيق والمهم لمفهوم التعددية، يعطي الدكتور ويليامز رؤية عميقة للمخلصين من أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية، كما أن الأفكار العميقة التي طرحها تقدم رؤية أخلاقية واجتماعية تحث المسلمين والمسيحيين على المضي قدما في حوار أديان بناء وقائم على الاحترام المتبادل بغرض الوصول إلى الحقيقة، وكذلك تحث الجميع على المشاركة الفعالة في ازدهار المجتمع عن طريق الالتزام التام والمشترك بالحفاظ على ما يسميه «المظاهر الدينية في الحياة العامة».

بدأ الدكتور ويليامز محاضرته ببيان أن مصطلح التعددية يتم تداوله كثيرا هذه الأيام دون تفريق واضح بين مدلولاته المتعددة، ثم أعطى ثلاثة معان لهذا المصطلح ودلالات هذه المعاني لكل من المسيحيين والمسلمين، ففي مناقشته للمعنى الأول لتعددية الأديان، لم يتردد في القول إن هناك خلافا حتميا وحوارا لا مفر منه ومفاوضات وتجاذبا بين أعضاء الأسرة الإبراهيمية، وأكد مستشهدا بالنص القرآني الذي يعتبر التنوع جزءا من المقاصد الإلهية في الخلق، أن «الاعتراف بخصوصية كل دين سوف يؤدي بنا إلى فهم أفضل ونقد للذات، وبالتالي إلى نظرة أكثر عمقا للأديان».

ومن خلال حديث الدكتور ويليامز عن المعنى الثاني للتعددية، والمتمثل في تعامل النظام الاجتماعي والقانوني مع جاليات دينية متنوعة، طرح رؤية أخلاقية واضحة ومطلوبة جدا في قضية الولاء، وهي قضية - كما أشار - يساء فهمها بشكل كبير في هذه الأيام، ووصل إلى نتيجة ذات دلالة وهي أنه لا بد للولاء للمجتمع الذي نعيش فيه من أن يؤول ويتطور ويمتحن من خلال ولائنا المبدئي لله، عندها فقط نصبح أمثلة يحتذى بها للمواطنة المسؤولة دينيا.

أما المعنى الثالث لمصطلح التعددية، والذي تطرق إليه الدكتور ويليامز في محاضرته، فهو في سياقها السياسي، ما كان ضد الهرمية والمركزية في النظام الاجتماعي ويتحدى الرؤية القمعية المتسلطة والقهرية وغير القابلة للنقد لسلطة الدولة المطلقة، وهي الرؤية التي تدعي السلطة الكاملة للدولة. فالثقافة التعددية الحقيقية تقتضي أن الشرعية لا تمنح من أعلى لأسفل من قبل دولة سيادية تمتلك كل السلطة، بل على العكس من ذلك تستمد الدولة شرعيتها حين تنجح في إدارة العلاقة بين مؤسسات المجتمع المدني المختلفة، وبين المجتمعات الدينية، وما بينهما من المجتمعات البشرية.

ويقول الدكتور ويليامز في محاضرته «أعتقد أن على المسلمين والمسيحيين على حد سواء النظر إلى التعددية الدينية بالكثير من الحذر، ففكرة أن جميع الأديان متساوية وكلها طرق مختلفة تؤدي إلى الله، من شأنها أن تثير صعوبات جمة خاصة عند المسيحيين والمسلمين، هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار المشاعر القوية التي يشعر بها أهل كل من الديانتين إزاء الخصوصية التاريخية لأصول ديانتيهم، والمهمة التبشيرية الواجبة عليهم والمتجسدة في ممارساتهم الدينية». ويضيف بالقول «لا أؤمن أبدا بأن إنكار الخلاف بين الأديان مفيد في حوار الأديان، بل على العكس، أنا أرى أن من الغرور أن أقول لك دعني أشرح لك ما تعنيه بعقيدتك. ويسوؤني جدا هؤلاء الذين يرفعون شعار التعددية الدينية، ثم يشرحون، وبلا أدنى تردد، لكل مؤمن في كل دين بهذا العالم ماذا يعني دينه. إن الاعتراف بالخلاف بين الأديان لا يتعارض مع الاحترام العميق المتبادل، ولا يتعارض مع الالتزام بالحوار مهما كان صعبا، كما لا يتعارض مع التعايش السلمي، فهناك كما يبدو إقرار شكل ما من التعددية داخل إطار النص القرآني نفسه، وتذكرنا الآية المعروفة التي تبين لنا أنه لو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة، بأن الاختلاف ووجود الآخر حقائق وسنن مقصودة عند الذات الإلهية، وتعلمنا كذلك أن الناس يختلفون في ما يمكنهم أن يستوعبوه ويتعلموه حسب زمانهم ومكانهم وقدراتهم».

وفي حديث الدكتور ويليامز عن المعنى الثاني من معاني التعددية، عن نظام اجتماعي أو قانوني يتعامل مع جاليات من مذاهب متعددة، يقول إنه «على الرغم من أنني لا أقلل من صعوبة المشكلات الناتجة عن وضع المسلمين الهش أمام الحماية القانونية في هذا البلد، فإنني أرى أن من الحق أن نقول إننا مجتمع تعددي تتعايش فيه الجاليات والديانات المختلفة جنبا إلى جنب، وتتساوى ضمن نظامه القانوني والاجتماعي».

وفي تناوله لموضوع الولاء، يشير الدكتور ويليامز بالقول «في رأيي أن على الملتزم الحقيقي بدينه أن يضع ولاءه وطاعته ومسؤوليته نحو الخالق فوق جميع الاعتبارات.. ولائي للمجتمع الذي أجد نفسي أعيش فيه هو ولاء ينمو ويزدهر من خلال ولائي المبدئي للخالق». ويضيف «مفهوم الولاء التام والشامل للوطن، والذي نربطه الآن بمفهوم الدولة الوطنية، هو مفهوم حديث ويمثل ظاهرة محدودة، وهو مفهوم - على أي حال - يبنى على اعتبارات مهمة تتعلق بالتزامنا بالمكان الذي نجد أنفسنا فيه، وبدفاعنا عن أمنه واستقراره، وهو حتما مفهوم لا يعني تجاوز هويتنا والتخلي عنها».

أما عن المعنى الثالث للتعددية في إطار المجتمع المدني، فيشير الدكتور ويليامز بالقول إلى أن التعددية الحقيقية تكون حين ترتبط شرعية المجتمع بأساليب تسهيله لعمل وحرية وإبداع المؤسسات المستقلة، الدينية منها وغير الدينية، في تعاونها وتعايشها السلمي بعضها مع بعض، ويضيف «أعتقد أن هذا المفهوم الجديد للتعددية هو مفهوم لا بد لكل مسيحي ومسلم على حد سواء أن يرحب به ويجده ملهما ومبدعا، إذ ربما يعطينا فرصا واعدة للتعاون والتفاهم المتبادل، ويمكن أن يبدأ عملية التغيير».

وفي الحديث عن دعوته إلى «مواطنة ذات مسؤولية دينية»، يؤكد الدكتور ويليامز على أهمية هذه المفردات «إنها مواطنة بمعنى المشاركة الواعية في المكان الذي نعيش فيه، فهي لا تخرج عن إطار المسؤولية والقانون المتعارف عليهما في المجتمع، لكنها في الآن ذاته تعمل من خلال دافع ديني وإحساس بالمسؤولية أمام الله، وليس فقط بالمسؤولية عن نجاح المشاريع أو إرضاء القيادة السياسية التي قد تكون في السلطة في وقت ما. هذا هو الالتزام المدني للمواطنة المسؤولة دينيا».