الفقه الإسلامي في عالم متغير

رضوان السيد

TT

شهدت وزارة الأوقاف بعمان المؤتمر العاشر في سلسلة الندوات الفقهية تحت عنوان: الفقه الإسلامي في عالم متغير. وقد كان هناك من قال إن المشكلات المعاصرة ليست ذات طبيعة فقهية، بمعنى أن الفقيه إنما يصلح لمعالجتها بطريقة جزئية فقط، أي ما اتصل بالحلال والحرام منها. وقد رأيت أن ذلك غير صحيح، فالفقه يعني الفهم الذي يؤول للتفكير والتدبر، وهذا هو شأن الاستراتيجي الذي يملك ثوابت في الجغرافية الطبيعية والاقتصادية والسياسية والعلمية، ويحاول، استنادا إليها، قراءة المتغيرات فيها وفي خارجها. وصحيح أن الفقيه معني بالحلال والحرام، لكنه معني بطريق التبع بما هو مفيد أو غير مفيد، شأن الاستراتيجي الباحث عن التلاؤم وسط الظروف المتغيرة. وتختلف ثوابت الفقيه عن ثوابت الاستراتيجي، من حيث أنه يستند إلى القرآن والسنة والإجماع، لكنه في كل عصر إنما يحاول قراءة القرآن والسنة والإجماعات السابقة قراءة جديدة. وهذا ما عناه الدكتور محمد كمال إمام عندما عالج موضوع تغير قواعد الفتوى، بناء على متغيرات الزمان والمكان (تغير الأحكام بتغير الزمان). فهو يبحث إذن بعد التعقل والفهم والتشخيص في طرائق الملاءمة، أو التصرف بناء على الموقف الجديد، لخدمة المؤمنين وبطريقتين: مواجهة التحديات، واستكشاف سبل الحلال والإباحة في المكان المتبدل والزمن الجديد. وهذا هو معنى ما قام به محمد جورماز من دراسة لمفهوم التجديد والتطور، وما قام به سعيد بنسعيد العلوي من دراسة لمتغيرات العولمة، وما قام به أحمد الخمليشي من استطلاع للاتجاهات القانونية المعاصرة، وما قام به آخرون من دراسات لفروض الكفاية، وعلائقها بالمقاصد الشرعية. وقد كانت هناك بحوث في «الاجتهاد الجماعي» قادها شيخ علماء الشام وهبة الزحيلي، حول مناهج المجامع الفقهية في العالم الإسلامي وخارجه. وكما كان مبحث «العولمة» الذي ألقاه سعيد بنسعيد جديدا من حيث أنه لا علاقة مباشرة له بالمصطلح الفقهي المتعارف عليه، فإن مبحث الهجرة الذي عهد إليّ به، إنما يجمع بين الاستراتيجي والفقهي، والاستراتيجي أكثر من الفقهي.

إن المعروف أن هذا المبحث بدأ بهجرة النبي، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى يثرب (المدينة) عام 622م. وقد كان مطلوبا من المسلمين، بحسب القرآن، الالتحاق بالمدينة، بعد هجرة النبي، صلى الله عليه وسلم إليها، كما تدل على ذلك الآيات في سورتي «النساء» و«الأنفال». وعندما فتحت مكة وانضمت إلى دار الإسلام، قال النبي، صلى الله عليه وسلم: لا هجرة بعد اليوم، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا. وهذا يعني أن المسلمين ما عادوا ملزمين بالذهاب إلى المدينة، إلا إذا دعوا للتجمع من أجل الحرب، وهذا ما حدث في آخر حياة النبي، صلى الله عليه وسلم، وفي عهدي أبي بكر وعمر. لكن في القرنين الثاني والثالث للهجرة، تصاعدت النقاشات بشأن تعريف وتحديد دار الإسلام، مع ظهور مقولة دار الإسلام ودار الحرب، بسبب الجبهة مع البيزنطيين. ثم جاءت الحروب الصليبية، وسقطت صقلية في أيدي النورمان، وصار الموضوع: هل يستطيع المسلمون البقاء في المواطن التي احتلها الغزاة من دار الإسلام، أم أن عليهم أن يهاجروا. وفي حين قدم الفقهاء الأحناف اعتبارات الجماعة وحريات المسلمين في ممارسة عباداتهم، قدم المالكية والشافعية اعتبارات السلطة، وهل هي بيد المسلمين أم لا. فالأحناف أجازوا للمسلمين البقاء في الأقطار التي احتلت، بينما رأى المالكية، على الخصوص، أن الديار المحتلة ما عادت دار إسلام، ويكون على المسلمين الهجرة منها. وقد أفتوا بذلك مع الحنابلة والسلفية في حالات الأندلس والجزائر والسودان وليبيا التي احتلها الطليان عام 1911. وما كان ذلك هو الشأن في النقاشات الدائرة بشأن الهجرة الإسلامية إلى أوروبا وأميركا بعد الحرب العالمية الثانية. ففي الحالات الحديثة ما كان الأمر أمر الاحتلال؛ بل إن المسلمين هم الذين بادروا إلى ترك ديارهم، وذهبوا للعمل والسكنى في الغرب. وهم منذ ذلك الحين يطالبون بحقوق الأقليات تارة، وبحقوق المواطنة تارة أخرى في ديارهم الجديدة. وهكذا فإن مفهوم دار الإسلام تغير تغييرا كبيرا، حتى في الديار الأصلية للمسلمين. ففي تلك الديار، وفي الأوضاع الجديدة للدولة في النظام العالمي الجديد (عالم الدول القومية والوطنية)، صارت المواطنة أيضا هي المبدأ السائد. وإذا اعتبرنا أن المواطنة في الدور الأصلية حلت محل مبدأي: طبيعة الأحكام السائدة، وكون الساكنين آمنين بالأمان الأول؛ فما الحكم في الديار الجديدة، التي يعيش المسلمون فيها، ويريدون المواطنة وحقوقها أيضا؟! لقد كان هناك من المتشددين من قال إن المسلمين في الديار الجديدة يكون وجودهم وجود «ضرورة»، والضرورة تقدر بقدرها، فتظل إقامتهم مؤقتة، ولا يجوز لهم الاندماج والتأبيد، لأن شروط دار الإسلام لا تنطبق عليها ولا عليهم. بيد أن الكثرة الكاثرة - كما سبق القول - أرادت أن تقيم من دون هجرة، عودة أو ما شابه، خاصة أن المواطنة تضمن شتى الحريات، ومنها الحرية الدينية. وفي الوقت الذي كان فيه المسلمون يعيدون التأمل في الحياة الجديدة، بقيمها الجديدة، التي غمرت العالم، وغمرت حتى المواطن الأصلية لدار الإسلام، كان الأوروبيون يتغيرون تجاه المسلمين بالذات. فهم - أو جهات قوية فيهم - أبوا على المسلمين حقوق المواطنة أو الجنسية بما تقتضيه من واجبات وأحكام. وعندما حصل ملايين من المسلمين على جنسيات تلك الدول بسبب مضي أجيال عليهم فيها، أصر اليمين الأوروبي على أن المسلمين يأبون الاندماج، وكثير من تقاليدهم الخاصة (ومنها تقاليد دينية، مثل الحجاب) تخالف ثقافة المواطنة في الغرب الأوروبي! لقد ذهبت في البحث الذي قدمته إلى أن المتغيرات الهائلة تناولت في ما تناولت، مفهوم دار الإسلام أيضا، وما عادت هناك دار إسلام ودار حرب وكفر. فيكون علينا العودة إلى الأصول، أصول العيش والدعوة: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين». وبذلك فقد حلت محل المقولات الكلاسيكية مقولة الدولة السيادية، والمجتمعات المتعددة. وفي الدولة السيادية يسود مبدأ المواطنة، وبداخل المجتمعات (حتى ضمن الدولة السيادية) يتجاور ويتعايش أهل الديانات والثقافات المختلفة. لقد توارت لدينا اعتبارات وحدة السلطة والدار، وبقيت وحدة الأمة، التي تتجاوز الحدود والسيادات، ويمكن لها التعبير عن نفسها بالجمعيات والهيئات ومنظمات التضامن الإقليمية والعالمية، التي تقرها القوانين الدولية. لكن ماذا نفعل مع اليمين العلماني والمسيحي، الذي لا يقر للمسلمين بالمواطنة والتعدد؟ يكون علينا أن نظل نناضل في ظل القيم التي يعترف بها الجميع: حقوق المواطنة وواجباتها، والحريات التي تعطيها المواطنة والتعددية - فهي مبادئ وقيم وتقاليد لا يستطيع أحد إنكارها علينا، على الرغم من كل المظاهر. ويكون على دولنا ومجتمعاتنا أن تتجاوب مع الحوار في قضايا ومشكلات الهجرة التي لا تزال تتدفق على الغرب، من أجل العمل والحرية والعيش الكريم أو الأكرم.

والتفت آخرون من الباحثين إلى مباحث مثل القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني والمعاهدات الدولية، والاتفاقية العالمية لحقوق الطفل. وسار بعض الباحثين على النهج الذي صار متعارفا عليه، وهو الاتجاه للتأصيل، أي التماس مشابهات بين الموروث الفقهي والكلامي عندنا، وما توصل إليه العالم الحديث. في حين استظهر آخرون بالقيم الأساسية للإنسان ووجوده وحقوقه في القرآن والسنة. والواقع أن هذه المسائل مشكلة، وتتطلب تأملا غير مستعجل، بعد الجهود الكبيرة والكثيرة من جانب الفقهاء في الأزمنة الحديثة. فاتفاقيات حقوق الطفل والمرأة، تصادم أعرافا فقهية وأحيانا نصوصا قرآنية أو نبوية. كما أن القانون الدولي الإنساني، يعطي للمؤسسات الدولية التي تهيمن عليها قوى كبرى، حق التدخل في ظروف معينة، على الرغم من سيادة الدول. ومن المعروف أن المسلمين ليس لهم تمثيل وازن في هرميات المؤسسات والجهات الدولية. ومن جهة أخرى هناك اليوم قيم عالمية ينبغي أن يلتزم بها الجميع من الناحية النظرية، وقد نضطر لذلك عمليا، وإن جادلنا أو ماحكنا طويلا. ثم من الذي يقرر أن هذا الأمر أو ذاك ينبغي الاعتراف به باعتبارنا جزءا من هذا العالم، ولا نستطيع معاداة قيمه وممارساته. وفي هذه الأمور، لا يرجع المسؤولون عادة إلى الفقهاء والعلماء؛ بل يقرون ما يعتبرونه مصلحة عامة، ويحاولون التملص من الباقي دونما قدرة على المقاومة الطويلة. فيكون على علمائنا ودعاتنا أن يكفوا عن التشبث بالانفصال عن العالم، وأن يراعوا طبيعة الإسلام، وأنه للناس كافة. وقد كان هناك حتى الآن ثلاثة مسالك من جانب دولنا تجاه الهيئات الدولية، الأول الإصغاء وحسب إلى النتاجات الدولية دونما استعانة بعلمائنا، سواء كانوا عارفين أم غير عارفين، والثاني الاستشارة دونما تطلب جهد، والثالث العمل مع العلماء من أجل المبادئ والمصالح، وسلوك مسلك نضالي دونما مبالاة بالصعوبات. والمسلك الثالث هو الأحكم والأسلم حتى لا ننعزل ولا نخضع، أيا ما كان هذا الذي نعانيه أو نعاني منه.

لقد كان المؤتمر الفقهي بعمان مجالا للتبصر والتأمل في الجديد أو صناعته. ويكون على العلماء التأهل من أجل المبادرة، أو ننعزل دون أن يسأل علينا أحد، وليس من جانب العالم الدولي، بل ومن جانب مسؤولينا أيضا. إن هذه المشكلات، تعنينا جميعا، وعلينا جميعا أن نتشارك في إيجاد حلول لها.