في الملك الألفي الإسرائيلي.. لا المسيحي

إميل أمين

TT

هذه هي الحلقة الأخيرة من ثلاثية تناولنا من قبلها الحديث عن شقين، الأول متعلق بفكرة إقامة هيكل سليمان وهدم المسجد الأقصى، والثاني دار حول معركة هرمجدون، ولا تكتمل الرؤية إلا بالتوقف مع طرح «الملك الألفي السعيد» كما يراه المروجون له، لا سيما أنه يتصل اتصالا وثيقا مع تنامي الأصولية الدينية في الولايات المتحدة الأميركية على نحو خاص.

ماذا يعني مفهوم الملك الألفي بادئ بدء؟

بعيدا عن الإغراق في التحليلات والتفسيرات اللاهوتية الشارحة والمقارنة لهذه الرؤية، فإن الحكم الألفي يعني اعتقادا راسخا لدى طائفة كبيرة من المسيحيين الذين لا ينتمون للكنائس الرسولية، أي التي أسسها رسل المسيح (الحواريون)، وهي الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية، ومفاد هذا الفكر الذي طوع لاحقا لخدمة أغراض سياسية منحولة، هو أن السيد المسيح سيعود إلى الأرض قبل نهاية الأزمان ليحكم بنفسه لمدة ألف عام، ينعم العالم خلالها بالسلام العالمي، وبانتصار الخير على الشر، معه سيحكم المؤمنون به طوال هذه الفترة الزمنية على الأرض.

ومنشأ هذا الفكر هو التفسير الحرفي لبعض ما جاء في أسفار الكتاب المقدس، سواء في العهد القديم أو الجديد، لكن الأمر ليس بهذه البساطة، من حيث المفهوم العام للملك الألفي، ذلك لأن أتباعه انقسموا إلى عدة طوائف، كل منها لها مفهومها الخاص لفترة الحكم الألفي، وكيفية حدوثه، ومن الذي سيملك وكيف يتم تمهيد الأمر لحدوث ملك المسيح على الأرض ألف سنة، وأحسب أن أكبر طائفتين في هذا النهج هما أصحاب ما يعرف بـ«القبل الألفية»، وأصحاب «البعد الألفية»، بجانب أولئك حملة مذهب الألفية التدبيرية.

أما الألفية التدبيرية فهي كما يتضح من اسمها يقوم فيها العنصر الإلهي بفعل واضح ومفهوم، وهو فعل التخطيط لحدوث شيء ما، وتعني أن من يؤمن بها يعتقد أن هذا الملك أو تلك المملكة إنما ستكون من عمل الله المدبر للأمر، وأن الله يهيئ الملك من خلال رموز يستدل بها على قرب وقوع زمان الحكم، مثل قيام دولة إسرائيل.

وينصب نشاط المؤمنين بالألفية التدبيرية على التبشير الديني بقدر سياسي وبملامح اجتماعية، وقد أخذوا في بلورة نهجهم منذ ستينات القرن الماضي. أما المؤمنون بفكر «بعد الألفية» فيرون أن السيد المسيح عائد إلى الأرض، لكن بعد أن يكون المؤمنون قد حكموا العالم لمدة ألف عام، وفي هذه الحقبة الزمنية الطويلة، سوف يبنون ملكا مسيحيا أرضيا، من خلاله يتم لهم الحكم والسيطرة على العالم لمدة ألف عام، ثم يأتي بعد ذلك المسيح.

وللوصول إلى هذا الشكل من أشكال الحكم يتم الانتقال التدريجي من النظم العلمانية السياسية إلى النظم الثيوقراطية التي تعمل فيها العقيدة عملها وتشكل أبعاد الحياة على وفقها، ويكون استخدام الكتاب المقدس - خاصة العهد القديم فيها - كمصدر رئيسي للتشريع والقيم والأخلاقيات.

ومن أمثلة هذه التشريعات الكثير الذي يخالف ما هو كائن الآن في الكثير من البلاد الأوروبية والولايات المتحدة بصفة خاصة، مثل العلاقات الجنسية خارج الزواج وتحريمها، وكذلك مجابهة المثليين جنسيا، ومنع الضرائب، وتحريم الخمور والمواد المخدرة على اختلاف أنواعها ورفض الديون طويلة الأجل.

بينما أصحاب المذهب «قبل الألفي» فيرون أن الأحداث ستسير بدءا من عودة السيد المسيح إلى الأرض ليبدأ إقامة مملكته الأرضية بنفسه لمدة ألف عام، وهي تحتمل أن يكون المؤمنون هم الذين يقومون بتنفيذ الخطط الأولية للمملكة ونظامها أو تدبيرية، حيث دور المؤمنين فيها ينحصر في انتظار حدوث الملك، مع المساعدة قدر الإمكان لتهيئة الأجواء للحدث الجلل وتذليل الصعاب أمام العلامات المبشرة بقرب حدوثه، مثل قيام دولة إسرائيل.

والأصل أن قضية الملك الألفي في حاجة إلى مؤلفات قائمة بذاتها لتوضيح أبعادها، ونحن هنا لسنا بصدد أو في مجال البحث اللاهوتي، لكنا نتوقف مع تلك المفاهيم لتداخل خيوطها وتشابك خطوطها مع الكثير من القضايا السياسية والعسكرية في حاضرات أيامنا.

ففكر الملك الألفي بات اليوم يعني حقيقة واحدة، وهي أن جزءا كبيرا من المفاهيم الدينية الروحية، قد أصبح يشكل واقعا حياتيا يراد تحويله إلى أحداث دنيوية في الزمان والمكان من خلال العنصر البشري، وهو ما يتسق كثيرا مع الدعاوى الأميركية الأخيرة لنشر قيم مثل «العدالة المطلقة»، و«الحرية التامة»، و«الحقوق الكاملة»، إذ يسعى أصحاب الألفية إلى تخليق حقبة من عصر ذهبي للإنسان سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا.

وتاريخيا كانت فكرة الملك الألفي هي المعتقد لدى قسم كبير من الثوار الفرنسيين عام 1798، وقد أخرجوا الثورة من قلب تفسيراتهم للكتاب المقدس، كما يخرجون دولة إسرائيل عبر الزمان، وكما فعلوا مع حرب الخليج وغيرها، وقد قاموا بتأييد الثورة الفرنسية بسلطان الوحي.

والمؤكد أن أصحاب الألفية من الأصوليين المسيحيين الجدد، والذين هم رحم المحافظين الجدد وحبلهم السري إنما وجدوا في إسرائيل المعبر لتحقيق الأحلام التي تراودهم، ومرد ذلك أنه خلال السنوات السبع التي ستستغرقها معركة هرمجدون سوف تؤمن أغلبية إسرائيل بالمسيح كالمسيا المنتظر.

وفي ظل حكم السيد المسيح الألفي كما يوقن هؤلاء على اختلاف مشاربهم سيكون لليهود مكانة أعظم من كل الأمم، فيعاد خلالها بناء الهيكل في أورشليم، وتقدم الذبائح عليه ثانية، ويملأ السلام والعدل والحب كل العالم، ويرث شعب الرب «اليهود» الأرض ويدخلون إلى ملكوت الله كالشعب المختار.

وقد وجدت حركة الألفية دعما وتأييدا شديدين من قبل البيوريتانيين في إنجلترا بشكل أحدث تأثيرا واضحا في حياتهم، وهو ما دعا «ج. س ريال» لأن يكتب عام 1870م يقول عن البيوريتانيين: «لقد عملوا كمواطنين صالحين لهم رجاء في هذا العالم».

ووجدت فكرة الملك الألفي كذلك الأرضية الخصبة لها في أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ومنها كانت الجذور الأولى لفكرة عودة اليهود إلى أرض فلسطين.

إلا أن أهم ما ننبه إليه في تعاطينا بالرؤية والتحليل، ولو باختصار غير مخل، هو موضع وموقع اليهود عند المؤمنين بهذا الفكر، وهم باختصار يرون أن اليهود هم تمام التنبؤات وآخر المنتهى، وهو مفهوم مجاف ومناف للمفهوم الإيماني المسيحي الصحيح، فعودة اليهود ليست وصية أو مطلبا إلهيا وتكليفا للمؤمنين، فالمسيحيون غير مطالبين بالعمل لعودة اليهود، لكن موقع اليهود في هذا الفكر هو أنهم سيعودون بفعل إرادة الله التي فهموا هم أبعادها حسب قراءتهم الشخصية لبعض أسفار الكتاب المقدس، ولذلك هم يسوقون لأطروحاتهم بعلامة استفهام مثيرة: «وهل من يستطيع أو يملك الوقوف أمام إرادة الله بعودة هؤلاء إلى أرض فلسطين؟».

والواقع أنه من هنا تتجلى معالم اختلاط ما هو ديني بما هو سياسي، بدءا من وعد بلفور في عام 1917، مرورا بقرار التقسيم في عام 1947، وصولا إلى دعم ومساندة والاعتراف بدولة إسرائيل عام 1948.

وفي هذا كله كان الألفيون داعما رئيسا ورافدا أساسيا لعودة اليهود إلى فلسطين، ذلك أنه دونها لن يتحقق الخلاص المنتظر بعودة السيد المسيح إلى الأرض ثانية، لذا فإن إسرائيل اليوم هي إسرائيل المقصودة في الفكر الألفي، وعليه فإن نهاية العالم على الأبواب، والبعض من منتظري الألفية ينتظر نهاية العالم في غضون سنوات، والكثيرون يعتقدون أن النهاية ستتم في خلال حياتهم، وهذا الموقف يجعل المؤمن بالملك الألفي يرى أن إسرائيل الحالية تحقيق لإرادة الله، ويصبح موقفه منها شائكا.

على أن السؤال إذا كان فكر الألفية وتماسه مع عالم السياسة يعود إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر فلماذا عاد للظهور من جديد مؤخرا؟.

الثابت أنه حتى العقد الثالث من القرن العشرين كان التيار الأصولي المسيحي قد استكان قابعا ومعتزلا حتى بدأت بذور تأسيسه في أربعينات القرن الماضي، على يد الواعظ الأميركي الأشهر «بيلي جراهام» وكانت المعركة بين إسرائيل والعرب في عام 1967 منعطفا خطيرا، دعم هذا الاتجاه الأصولي لتبدأ الأصولية السياسية طرح أوراقها على العامة والخاصة في الولايات المتحدة تحديدا لتصل إلى الذروة في الثمانينات وعلى يد الرئيس الأميركي رونالد ريغان.

ومع وصول ريغان إلى الحكم تحولت الأصولية السياسية من الفكر الألفي التدبيري الذي يرى أن الله تعالى هو الذي سيتدبر تنفيذ مخطط العودة وإعلان ملك الألف سنة، إلى الألفية السياسية، إن جاز التعبير، والتي فيها تقوم القوى الأصولية بتسييس الدين، وإعداد أنفسها لمعارك مع التيارات المناوئة، سواء الدينية أو غير الدينية لتنفيذ مخططاتها التي تقف وراء الإعداد للألفية الجديدة.

ومعروف أن رونالد ريغان كذلك كان المثال الحي الأول للرئيس الأميركي الذي يجاهر علنا بصدق الرؤى التوراتية بحرفيتها وليس بروحها، خاصة رؤيا حزقيال النبي - أحد أنبياء بني إسرائيل - واعتمد على ما جاء في سفره اعتمادا كليا في مواجهة الاتحاد السوفياتي، وكانت آيات ذلك السفر منطلقا لبرنامج حرب الكواكب أو النجوم.

ومما لا شك فيه أن طرح الألفية بأبعادها اللاهوتية الشائكة أمر لا يهم القارئ غير المتخصص، لكن الموضعية تقتضي التنبيه إلى أن فكر الألفية بأنواعه وبدرجاته المختلفة هو فكر مرفوض من الكنائس الأم والكاثوليكية في مقدمتها، وأحاديث الألف سنة هي أحاديث رمزية لأمور ذات سمة سرية (MYSTICAL)، تخفي وراءها معاني روحية أعلى وأبعد وأوسع وأنفع، بل وأرفع من حصرها في تفسيرات مادية محدودة تستغل لصالح فصيل سياسي أو ديني بعينه حول الكرة الأرضية أو تحيزها لأمة أو شعب بعينه كما في منظومة «شعب الله» المختار.

وجل هدف تلك القراءات الروحية في العهدين القديم والجديد هو تنبيه المؤمنين والكنائس للسهر والصلاة والاستعداد لمواجهة الشر والقدرة على التمييز بين الخير والشر، وذلك بالصلاة والثبات على الإيمان، والقدرة على التمييز بين الغث والثمين، لا سيما أن كثيرا من الشر يغلف أحيانا بالخير، وتسعى تلك القراءات النبوية إلى دفع المؤمنين للتفريق بين الإيمان الصحيح والإيمان الباطل المزيف المغلف بالظواهر والمظاهر الخارقة البراقة، لذا فإنه لا حاجة للمسيحي، ولا حتمية عليه لأن يستقي تنبؤات للأوضاع السياسية في العالم استنادا إلى نصوص من أسفار التوراة.

لكن هذه السطور التي تعبر عن الفكر الإيماني النقي غير المخترق، لا تجد لها أرضية، ولم تجد في الثلاثين سنة الماضية في الولايات المتحدة سندا أو دعما، حيث احتدم الصراع بين الكتلة الشيوعية والعالم الغربي الرأسمالي، وقد كان لفكر الملك الألفي نصيب الأسد من هذا الصراع، خاصة أنه كان مدفوعا بأبعاد معركة هرمجدون، والتي كانت تشير التحليلات إلى أن الاتحاد السوفياتي السابق سيكون طرفا فيها.

واليوم وبعد زواله تتعدد الآراء وفي معظمها نجد إجماعا على أن العالم الإسلامي هو الخليفة المرشح للمواجهة.

وما بين هذه وتلك، رسخ فكر «الملك الألفي» للحضور الإسرائيلي في أرض فلسطين، إذ لا مجيء للمسيح دون عودة اليهود، حتى أن إعلانا نشر في الكثير من وسائل الإعلام الأميركية عبر السنوات الماضية يقول «ساهم في التعجيل بعودة المسيح ثانية من خلال مساهمتك في بناء مستوطنة لليهود في إسرائيل».

هذه هي صورة سريعة للملك الألفي الإسرائيلي كما تتوجب تسميته لا الملك الألفي المسيح كما يزعمون».

* كاتب مصري