الإسلام وأوروبا وفصامات الوعي والواقع

رضوان السيد

TT

عندما بدأ البوليس الفرنسي يتدخل لمنع البرقع ولابساته من الحركة في المجال الفرنسي العام، كانت الطائرات الفرنسية المقاتلة، وطائرات حلف الأطلسي الأخرى، تتدخل بليبيا لحماية المدنيين من كتائب القذافي، المسيطرة هناك منذ أكثر من أربعين عاما. وقد أضاف الرئيس ساركوزي ووزير الخارجية جوبيه إلى أهداف فرنسا ومقاصدها بمنطقتي جنوب المتوسط وشرقه، وبأفريقيا: التصدي لوجوه العنف التي تمارسها الأنظمة ضد شعوبها، بما يشكل انتهاكا للحريات وحقوق الإنسان! وهذه المفارقة في التصرف الفرنسي، ليست بنت اليوم، كما أنها لا تقتصر على فرنسا، بل انتشرت المطالبات عبر أوروبا كلها لمحاصرة المسلمين، بل ومحاصرة الإسلام. وعندما نذكر هذا الانتشار نلاحظ أنه يتراوح بين الدعوات من سياسيين وأحزاب ومثقفين، وبين الوصول إلى مرحلة القوانين في البرلمانات في فرنسا وبلجيكا. ويبدأ الموضوع عادة بإدانة ظاهرة انتشار الحجاب، ثم النقاب. ثم يقال إن تيارات الخصوصية (العنيفة) تصاعدت بين المسلمين بأوروبا، والذين ما قبلوا التعددية الثقافية والسياسية ولن يقبلوها لأن دينهم لا يؤهلهم لذلك. ويجيء هذا الإعلان عن فشل سياسات التعددية القائمة على الاندماج المبدئي والثقافي والمواطنة، من كبار الساسة الأوروبيين: ميركل بألمانيا، وكاميرون بإنجلترا، وساركوزي بفرنسا. ويصل الأمر في هولندا الليبرالية، والدنمارك البالغة الانفتاح إلى حدود الاستفتاءات على بقاء المسلمين أو اقتلاعهم، لينجح قبل عامين أحد هذه الاستفتاءات في سويسرا نموذج الديمقراطية، وعلى ماذا؟ على منع بناء المآذن، والذي استجابت له أكثرية من المواطنين تبلغ نسبتها نحو 59 في المائة ممن أدلوا بأصواتهم! وهذا الأمر هو الذي قصدته عندما قلت إن الحصار لا يقتصر على المسلمين، بل يتجاوز ذلك إلى الإسلام ذاته! وتأتي تعليلات «النفور» لدى العامة والسياسيين الذين يخشون سطوة الرأي العام في الانتخابات، لتثير المزيد من الاستغراب حتى لدى عقلاء الأوروبيين بالذات. فساركوزي، الذي كان أكثر من استفاد خلال العقد الماضي من استنفار العامة الفرنسية على المسلمين (والإسلام)، يذهب إلى أن دعايته هذه المقصود بها سحب الهواء من أشرعة اليمين المتطرف. بيد أن الانتخابات المحلية التي جرت في بعض النواحي بفرنسا أخيرا أثبتت أن كلام ساركوزي غير صحيح؛ إذ فازت ماري لوبان عليه وعلى حزبه الديغولي والحزب الاشتراكي في عدة بلديات ومجالس محلية، وقد جاء الحزب الديغولي أحيانا ثالثا وأحيانا رابعا أو خامسا بعد اليمين والاشتراكي وأحزاب وجهات محلية صغيرة! لكن الفأر الذي اعتاد على أن يجد الجبنة في مكان ما، لا يستطيع مغادرته حتى لو خابت غزوتاه الأخيرتان؛ ولذلك لا يزال ساركوزي مصرا على مناقشة مسألة «الهوية الفرنسية» ومقتضياتها في أوساط الحزب والبرلمان، والمقصود إثبات عدم انتماء المسلمين إلى تلك الهوية «العريقة» (التي اعترف ساركوزي أخيرا وهو العلماني المتطرف، أنها تقوم على التقاليد اليهودية - المسيحية!)، ودعوتهم بالتالي إلى «الاندماج الكامل» أو الافتراق الكامل: مغادرة الأراضي الفرنسية! فالتعليل الآخر أو الثاني لغرابة المسلمين في أوروبا وغربتهم فيها أنهم ينتمون إلى دين آخر، وتقاليد أخرى، وثقافة أو ثقافات غير أوروبية. ومن يقول ذلك؟ الفرنسيون الذين يزعمون أنهم ورثة الثورة الفرنسية التي قامت من أجل مبادئ الحرية والتآخي والمساواة، بين سائر بني البشر. بل إن تلك العلمانية المتشددة والحاسمة في الفصل بين الدين والدولة (صار ذلك قانونا عام 1905)، كانت تعلل تشددها المبدئي في عدم التمييز بما كانت تقوم به الكنيسة الكاثوليكية (ضد اليهود والبروتستانت)، وبما كانت تقوم به الطبقات الأرستقراطية من تفرقة بين المواطنين الفرنسيين على أساس النسب والمقام والملكية. وكأنما تلك المفارقات ما كانت كافية، فخرج البابا الحالي ليقول ويكرر إن مسيحية أوروبا هي جزء أساسي في تكوين هويتها، وإنه كان مصرا ولا يزال على وضع ذلك بوضوح (وليس بالصيغة الغائمة الموجودة الآن) في الدستور الذي استنه الاتحاد الأوروبي لنفسه من خلال لجنة ترأسها الرئيس الفرنسي الأسبق جيسكار داستان. وهذا التعليل الذي يختزل غربة المسلمين بغربة تقاليدهم (ودينهم)، يصبح عنصريا خالصا في ما ذهب إليه الألماني تسرستين في كتابه عن «الأخطار التي تتهدد ألمانيا»، ومؤداه أن التفوق الألماني مهدد بالكثرة الديموغرافية الغريبة وبخاصة الأتراك والمسلمون، والذين يلوثون بوجودهم واختلاطهم العبقرية الألمانية! وقد أثار الكتاب حفيظة كثيرين من المثقفين والسياسيين من بينهم رئيس الجمهورية. وقد اضطر البنك الألماني، الذي كان تسرستين عضو مجلس إدارته إلى إعفائه من منصبه. لكن الكتاب باع ثمانمائة ألف نسخة، وعلى أثر الضجة من حوله، صرحت المستشارة الألمانية ميركل فيما يشبه الرد على رئيس الجمهورية: إن سياسات التعددية فشلت، وتعذر على المسلمين الاندماج! ويأتي التعليل الرابع، ليضيف إلى النقاش بعض المعقولية. فالأوروبيون يخشون أكثر ما يخشون تكاثر أعداد المسلمين بالقارة القديمة. إذ يبلغ عددهم اليوم أكثر من عشرين مليونا، وهناك عشرات الألوف الذين يأتون كل عام بشتى الأساليب والطرق إلى البلدان الأوروبية، ومن أفريقيا وبلدان جنوب المتوسط (تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا). وإذا قيل إنهم لا يعدون شيئا كثيرا ما دام الأوروبيون نحو الأربعمائة والخمسين مليونا، والمسلمون بفرنسا، ستة ملايين من ستين، وبألمانيا 3 ملايين من 85، وببريطانيا مليونان من ستين، وبإسبانيا نصف مليون من خمسين، وبإيطاليا مليون من 45 مليونا، يجاب على ذلك بأن أوروبا قارة هرمة، والمسلمون يلدون كثيرا، وما عادت الأوضاع الاقتصادية تسمح بالاستقبال والتشغيل، ثم إنهم يتوطنون على حواشي المدن، وينشرون القلق والاضطراب. وإذا قيل إن المسلمات المنقبات لا يزيد عددهن على الثلاثة آلاف من بين الملايين الستة بفرنسا، يجاب بأن الظاهرة إلى ازدياد، والأجيال الجديدة من المسلمين أكثر تمسكا بالدين. وإذا قيل إن «التعاون» بين ضفتي المتوسط، كفيل بلجم الهجرة، وبخاصة إذا لم يقتصر الأمر على الضبط الأمني؛ بل تعدى ذلك إلى الدعم التنموي - والمعروف أنه عندما تحسنت الأوضاع الاقتصادية بتركيا؛ فإن الهجرة توقفت منها إلى أوروبا تقريبا، وبدأت هجرة مضادة، يجاب بأن ذلك صحيح، ولذلك هناك استماتة في تنظيم العلاقات، ودعم النمو. وإنما انظروا إلى ما حدث بتونس، فقد سر الأوروبيون للتغيير الديمقراطي، إنما الذي حصل أنه خلال الثورة بالذات هرب إلى إيطاليا من تونس، وعبرها أكثر من عشرة آلاف باحثين عن العمل والحياة المختلفة. ومن أجل الهجرة وضبطها بالذات، كما من أجل العقود السخية، أقبل الأوروبيون والأميركيون في العقد الأخير على مسالمة العقيد القذافي ونظامه. وهو يعرف كم يخاف الأوروبيون (والأميركيون) من تخلخل الاستقرار، ولذلك فقد هدد الأميركيين بأن «القاعدة» ستحكم بعده ليبيا، كما أنه بسبب الفوضى؛ فإن المهاجرين الأفارقة سيتدفقون عليها ومن شواطئ ليبيا وتونس بالذات! لقد وقع تغيير للنظام في كل من تونس ومصر، ولا تزال النتائج تتوالى. والحرب دائرة بين القذافي وخصومه على ليبيا. كما أن الملك المغربي، والرئيس الجزائري قد أعلنا عن إصلاحات جذرية. لكن حالة السيولة وعدم الاستقرار في مواطن الثورات، سيتراجع بسببها النمو، وتنتشر الفوضى والمشكلات الأمنية؛ وهذه الظواهر تشكل بدورها عوامل مشجعة للهجرة إلى أوروبا القريبة. وها هو الظواهري يظهر على شريط ويدعو لإسقاط القذافي ومقاتلة حلف الأطلسي الذي يدعم الثوار في الوقت نفسه. ولا شك أن ظهوره يجدد المخاوف من «القاعدة»، ومن عدم الاستقرار، ومن الصوملة. ولذلك فإن التدخل الأميركي والأوروبي ليس غرضه نشر الحرية والديمقراطية؛ بل تسريع العودة للاستقرار والانضباط، اتقاء لشرور الهجرة، وشرور التطرف (الإسلامي). بيد أن هذا الدعم أيا تكن أسبابه وأهدافه ليس كافيا، أو أنه ليس بديلا عن تعامل آخر مع المسلمين بأوروبا. فالتشدد في مسألة الهجرة وقوانينها، ينبغي أن يقترن بالاعتراف للمسلمين بالحقوق التي تتيحها المواطنة، ما دام المسلم الفرنسي والبلجيكي والألماني، يظهر حرصا على السلم وعلى أداء الواجبات، شأنه في ذلك شأن أي مواطن فرنسي آخر. أما أن يصبح النقاب مشكلة، ويصبح مباحا قانونا نزع الجنسية عن المسلم فقط الذي يمارس عنفا ضد ممثلي السلطات (المقصود رجال الشرطة)، فهذه إشكاليات تتسم بالمفارقات والتناقضات. وبخاصة إذا اقترنت بمناقشة علنية لمقتضيات «الهوية» الفرنسية المزعومة، والتي لا تتوافر للمسلم، كما تقترن برفض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي! إنزوباتشي، المؤلف الإيطالي، وصاحب كتاب: أوروبا والإسلام، لا يتناسى الجهود الخبيثة - كما يقول - للكنيسة الكاثوليكية. كما لا يتناسى تسليط الفاشيات على المسلمين بدلا من اليهود. ولا يتناسى الأوضاع الاقتصادية المتدهورة بأوروبا خلال العقدين الأخيرين. لكنه يظل على ثقة أن المسلمين سيتمكنون من فرض أنفسهم بالحرص على النشاط السلمي، وبالحرص على إسلامهم الأوروبي!