في ارتباط التوبة بقيمة التطهر

محمد حلمي عبد الوهاب

TT

لا شك أن أول التوبة الاستغفار المتضمن علما وحالا وعملا. أما العلم، فأن يعلم المستغفر أن الحال الذي هو فيه مورث للشقاوة أو مانع من السعادة. وأما الحال فيقصد به التحسر بالشقاء، وقصد السعادة الباطلة في الماضي والحاضر، والاستقبال والرغبة في التدارك في الأحوال الثلاثة. وأما العمل، فلا يكون إلا بالرجوع والخروج عما كان، والعزم لإدامته في ما يكون! وعلى ذلك، فإن الاستغفار هو درجة «العلّيين»، وهو اسم واقع - بحسب الإمام علي - على ستة معان:

أولها الندم على ما مضى، وثانيها العزم على ترك العود إليه أبدا، وثالثها أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس لك تبعة، ورابعها أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، وخامسها أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد، وآخرها أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله! ومن هنا كان تقسيم سلطان العلماء العز بن عبد السلام التوبة إلى ثلاثة أقسام: أولها التوبة، وأوسطها الإنابة، وآخرها الأوبة. وبحسبه فإن من تاب خوف العقوبة فهو صاحب توبة، ومن تاب رجاء مثوبة فهو صاحب إنابة، ومن تاب حفظا وقياما بالعبودية - لا رغبة في الثواب ولا رهبة من العقاب - فهو صاحب أوبة. فالتوبة صفة المؤمنين، قال الله تعالى: «وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، وفي هذه الآية إشارة خاصة وبشارة عامة: أما البشارة فهي علم العصاة والطائعين والموافقين والمخالفين بلفظ الإيمان وسماهم مؤمنين لئلا تتمزق قلوبهم من خوة القطيعة، وأما الإشارة الخاصة ففيها أمرهم مع طاعتهم بالتوبة لئلا يعجبوا بطاعتهم ويصير عجبهم حجبهم فتساوى في ذلك الطائع والعاصي، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «توبوا فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة مائة مرة»! وإذا كان الوضوء بمثابة مفتاح الصلاة، فإنه ليس عملا آليا روتينيا يأتيه الإنسان غافلا عما وراءه من معانٍ روحية سامية، خصوصا ما يتعلق منها بطهارة البدن والروح معا، بل إن العبد المؤمن ليستشعر في قرارة نفسه - بينما هو يتوضأ - أن هذا الوضوء ليس طهارة لجوارحه فحسب، وإنما هو طهارة لنفسه وروحه من الآثام التي تلحق بهما، ولعل ذلك هو مقصود الآية الكريمة: «مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».

ومن الأسباب الداعية لشكر المولى عز وجل ما وعد به سبحانه وتعالى عباده المطهرين من خير عميم بسبب المحافظة على الطهارة بمعناها الشامل: طهارة الروح والبدن. ففي حديث نبوي شريف يشبه النبي صلى الله عليه وسلم طهارة الصلوات الخمس بمن يغتسل في نهر خمس مرات في اليوم والليلة، حيث يقول: «أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، ما تقولون: ذلك يُبقي من درنه؟ قالوا: لا يُبقي من درنه شيئا. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا». وفي حديث آخر: «من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره»! فالصلاة إذن هي عبارة عن إقبال العبد على ربه بقلبه وجميع بدنه، وقد توضأ فأحسن الوضوء واستقبل القبلة بقلبه، وقدم على ربه، وجاهد كلا من وساوس الشيطان ووساوس النفس، وهنالك يكفر الله سيئاته ويمحو خطاياه. ومع أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، فإن طائفة من المصلين لا ينتهون رغم ذلك عن إتيان مثل هذه الأشياء، وذلك ليس عيب الصلاة وإنما عيبهم لأنهم لا يؤدونها على وجهها التام، ولا يقيمونها كما أمرهم المولى عز وجل في كتابه الكريم.

فالمقصود من إقامة الصلاة تأديتها بكامل شروطها وأركانها وواجباتها الظاهرة والباطنة، مع مراعاة الخشوع فيها والانسلاخ من شؤون الدنيا ومتعلقاتها. ولذلك فسر ابن عطاء الله الآدمي (ت 309 هـ) قول الله تعالى: «وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ» بالقول: إن المراد بإقامتها حفظ حدودها مع حفظ السر مع الله، وهو أن لا يختلج بسرك سواه! خصوصا إذا علمنا أن القلب إنما يخشع بما يتجلى له من عظمة الله عز وجل وجلاله، ويهيج من النفس الخوف والخشية والحياء منه، فيوجل القلب، فإذا خافت النفس وخشيت، فوجل القلب واستحيا، سكنت الجوارح، وملك القلب جوارحه، ووقف بها على الحدود.

يتحصل مما سبق إذن أن قيمة التطهر تعد من أهم القيم الروحية التي تتضمنها الصلاة، بحسب فهم المتصوفة الذين أولوا اهتماما وعناية كبيرة بمبحث التزكية، غير أن المقصود بالتطهر في عرفهم ليس المعنى الفقهي المتعارف عليه عند الفقهاء، والذي هو شرط ضروري لصحة الوضوء ومن ثم الصلاة، وإنما التطهر الأخلاقي بحيث يصبح ذلك الشرط بمثابة خصيصة لا تنفك عنها الصلاة في كل حركة من حركاتها وبحيث تلازم المصلي في قيامه وركوعه وسجوده على حد سواء.

ومن هنا كان حديثهم عن آداب الوضوء والطهارات بصفة عامة، وفي ذلك يقول السراج الطوسي: إن أول أدب يحتاج إليه في باب الوضوء والطهارات: طلب العلم وتعلمه، ومعرفة الفرائض والسنن، وما يستحب وما يكره من ذلك، وما أمر به وما ندب إليه وما رغب فيه للفضيلة. فأما المتصوفة ومَن ترك الأسباب، وخرج عن الاشتغال، وفرغ نفسه للعبادة والزهد، فلا عذر لهم في ترك التوقي والتقى والاهتمام بإسباغ الوضوء والتمسك بالاحتياط والأتم في أبواب الطهارة والنظافة لقول الله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ».

ثم يعدد بعد ذلك آدابهم الباطنية في الطهارة فيقول: أن يكونوا دائما على الطهارة في سفرهم، لأنهم لا يدرون متى تأتيهم المنية، لقول الله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ»، يريدون بذلك، إن جاءهم الموت بغتة يخرجوا من الدنيا على الطهارة. وينقل عن عيسى القصار الدينبوري قوله: هب أن الفقر من الله تعالى، فما بال الوسخ؟ إن أحب الأشياء إلى المتصوفة النظافة، والطهارة، وغسل الثوب، والمداومة على السواك، والنزول عند المياه الجارية، والاغتسال كل يوم جمعة، والرائحة الطيبة، وأطيب الطيب: الماء الجاري، والمداومة على الاغتسال، وتجديد الوضوء وإسباغه.

وهم ينطلقون في ذلك من القول بأن الإسلام يوجب على المرء أن يتطهر من جميع الأوساخ الظاهرة منها والباطنة حتى يكون متشبها بالملائكة الكرام المنزهين عن سائر المخلوقات العابدين لربهم بتلك الطاهرة التامة الكاملة. ولعل ذلك هو ما دفع الشعراني لأن يقول في كتابه «البحر المورود»: أخذ علينا العهود أن لا ننام قط إلا عن طهارة باطنة، فإنها كالظاهرة سواء بسواء، وذلك كأن ينام أحدنا والعياذ بالله عن غل أو حسد أو غش أو مكر أو خديعة أو تكبر أو ساخطا على تقدير به.

والواقع أن هذه العبودية لا تتحقق إلا بكمال طاعته عز وجل في كل شيء: فتصبح الاستعانة به مترجمة إلى وقوف العبد ببابه سائلا، وأن يترجم التماس الهداية إلى الطريق المستقيم إلى سلوك مستقيم فعلي، وهكذا تصبح التوبة بمثابة وقفة تجديد للعهود مع الله، وتصبح فواصل الزمن بين كل تطهر وآخر بمثابة مجال لتطبيقها، وترجمتها إلى واقع فعلي في السلوك والأخلاق، في الأخذ والمعاملة، في الدنيا والدين.

*كاتب مصري